من لبنان إلى فلسطين وبالعكس، تبدو إسرائيل كأنها وقعت في أسر الإفراط في استخدام تفوقها العسكري على مجموع جيرانها الضعفاء بالولادة أو المستسلمين بقرار.
لكن هذه القوة الفائضة عن الحاجة لن تجعل إسرائيل دولة طبيعية، ولن توفر لها الأمن الذي تريد أن تفرضه بالنار على محيطها المستكين لقدره.
وتستطيع إسرائيل أن تبعث بطائراتها وبحريتها لتدك البنى التحتية في لبنان، وهي قد باشرت تقطيع أوصال الجنوب بتدمير الجسور التي تربط أنحاءه بعضها بالبعض الآخر، أو تربطها جميعاً بالعاصمة، كما سبق أن دكتها من قبل، وبدموية أغزر..
وتستطيع إسرائيل أن تحاول اغتيال بعض قادة المقاومة، وأن تستفيد من الانقسام السياسي اللبناني في محاولة لزرع الفتنة، وتصديع ما تبقى من الدولة..
وتستطيع إسرائيل، أيضاً، أن تضرب في سوريا، وقد سبق لها أن ضربت، وقبل أيام حلقت طائراتها الحربية فوق القصر الجمهوري في اللاذقية، إرهاباً لساكنه وكسراً لهيبة الرئاسة ومعنويات السوريين، لكن ذلك لن يدفع بسوريا إلى الاستسلام غداً.
ولعل إسرائيل تستطيع الوصول بطائراتها إلى طهران لتقصفها، لكن ذلك لن يحل المسألة في فلسطين ولن يخرج إيران من حومة الصراع.
تستطيع إسرائيل أن تحرق من الأرض العربية حيث شاءت، وأن تحيِّد من الدول العربية أكثرها، ولكنها ستظل أسيرة المشكلة التي استولدتها باستنباتها فوق أرض شعب آخر، استمرت ترفض الاعتراف به وترفض الوصول إلى تسوية مقبولة معه، وهي قد قامت على معظم أرضه وعلى حساب حقه فيها.
وها هي تدك قطاع غزة، بالمليون ومئتي ألف نسمة المكدسين بالاضطرار فيه، منذ خمسة وعشرين يوماً، فتقتل أطفاله ونساءه والرجال، دون أن تستطيع أن تفرض على أهله المجوّعين والمحرومين من النور والمياه والغذاء والأدوية الاستسلام، أو سوقهم بنارها الحارقة للضغط على المجموعة المقاتلة التي أسرت الجندي الإسرائيلي واقتادته من موقعه الحصين إلى حيث تحتفظ به لتفاوض على إطلاق النساء والأطفال من بين التسعة آلاف أسير فلسطيني الذين تحتجزهم في سجونها والمعتقلات.
وإسرائيل الواقعة في أسر قوتها المفرطة ستحاول استعادة هيبة الردع التي استمرت تتمتع بها حتى أسقطتها المقاومة في لبنان، بإجبار الجيش الذي لا يُقهر على الجلاء بلا ثمن، والتي خلخلها صمود المقاومين الأبطال في غزة، ثم جاءت قضية الجندي الأسير لتصيبها بضربة في الصميم.
وكما حاولت إسرائيل أن تبتز السلطة في فلسطين، وأن تستغل انقسامها، ها هي تحاول ابتزاز الحكم في لبنان مراهنة على أن تستفيد من انقسامه.. لكن ذلك لن يحقق النجاح الذي يخدمها في لبنان، خصوصاً أن تجربة السلطة الفلسطينية في التنازل مباشرة أو عبر الوساطات العربية!! لم تؤد إلى وقف الحملة العسكرية الوحشية ووقف حمام الدم الذي استولدته في غزة والذي ما زال تدفقه مستمراً..
ولعل البيان الوطني الرصين الذي توجه به السيد حسن نصر الله، أمس، إلى اللبنانيين، مع تركيزه على تبرئة الحكومة من المسؤولية عن قرار المقاومة بأسر الجنديين الإسرائيليين، وتشديده على مسؤولية المقاومة وحدها عنه، يساعد في تجميد الانقسام، وفي لجم حركة الانقساميين التي لم تتأخر عن الإطلالة برأسها بينما القصف الإسرائيلي يطاول معظم أنحاء الجنوب وجسوره جميعاً وصولاً إلى الدامور.
والأمل أن يلقى هذا البيان المسؤول من قائد المقاومة المجللة بدم الشهادة في لبنان، الصدى المرتجى عند العراقيين الذين تكاد الفتنة تنسيهم مسبّبها ومغذيها والمستفيد منها: الاحتلال الأميركي.
إن الفتنة أعظم فتكاً من الترسانة الإسرائيلية ومعها الترسانة الأميركية مجتمعتين.
وأكثر ما يحرّر الاحتلال الإسرائيلي من أسره، كما الاحتلال الأميركي في العراق، هو الفتنة الطائفية والمذهبية التي تتخذ من الصراع على السلطة قناعاً.
إن وحدة اللبنانيين هي مصدر قوتهم… وطالما توحّدوا فإن الهجوم الإسرائيلي لن يستطيع أن يحقق أغراضه، مهما بلغت ضراوته.
“السفير”، 13 تموز 2006