عاد صديقي من رحلة طويلة في اليابان. اجتمعنا في بيته للتهنئة. دخل علينا مهللا على غير عادته. عرفناه هادئ الطبع قليل الكلام. اشتهر بين زملائه الذين رافقوه في مشواره الجامعي وخلال بعض سنوات تدريبه المهني ومباشرته وظيفة متميزة بإقباله على أداء عمله بإتقان ودأب. كان يفضل على الدوام قضاء وقت الفراغ لإنهاء أوراق اصطحابها معه من المكتب. لا يتدخل في شؤون غيره ولا يتفضل بنصيحة إلا إذا طلبت منه. نسهر كثيرا ولا يسهر معنا إلا بحساب. جرت العادة أن يعتذر عن المشاركة في بعض أمسيات الحوار أو سهرات الترفيه التي تعودنا على عقدها أسبوعيا وحجته التي لم تتغير هي الحاجة للنوم مبكرا من أجل الاستيقاظ نشطا وبدء العمل قبل وصول أقرانه من الموظفين. في الوقت نفسه لم تكن تفوته حفلات الموسيقى التي تنظمها دار الأوبرا ومعهد الموسيقى العربية. كانت له صديقة تعمل في مؤسسة كبيرة يراها بانتظام مرة في الشهر. يتنناولان معا عشاء خفيفا بعد حفل في الأوبرا أو مشاهدة فيلم في السينما ثم يصطحبها إلى بيتها حيث تنتظره والدتها بمشروب دافئ قبل عودته إلى منزله.
***
استهل حديثه بالقول إن اليابان فاجأته. سافر إليها مزودا بنصائح رؤسائه والخبراء الذين حذروه من وقع الصدمة الثقافية وعواقبها. استقبله في المطار مندوب عن الشركة كان لحسن الحظ من هواة السفر للخارج بل وتخرج من جامعة أمريكية. دعاه إلى عشاء ياباني قوامه أسماك من كل نوع وحديث عن العمل. بدا له واضحا أن المندوب كان مكلفا بتلقينه بعض آداب العمل في الشركة والحياة في المدينة الصغيرة، ولم يجد فيما سمعه منه ما لم يقرأ عنه وما لم يقله الناصحون المجربون. أخذه المندوب إلى مقر الإقامة فنام مبكرا واستيقظ مبكرا وكان على مكتبه في الشركة مبكرا ليكتشف أن جميع الموظفين سبقوه إلى مكاتبهم. كان سعيدا بأجواء العمل. تفاني في حب الشركة فالعمل سيد الموقف. بدأ يكتشف أنه لم يتكلم خلال أيام سوى لدقائق معدودة. بعد فترة أخرى من التزام الصمت بدون أوامر بدأ يدرب نفسه على أن يكلم نفسه، أو يقرأ على فراشه بصوت مسموع. قال، شعرت بعد مرور عام على وجودي في هذه المدينة الأنيقة بأنني كائن غريب في عالم مختلف. الحياة لدى هؤلاء الناس مهمة عمل مكلفون بأن يمارسوها. حياتهم عمل وعالمهم لا يعرف غير العمل، عالم العمل الشامل الكامل.
الإنسان في عالم العمل يرضع حب العمل مع حليب الرضاعة. الكل منشغل بحساب ما انتج وما تبقى من الوقت لينتج أكثر. الوقت هناك مورد نادر يجب حمايته واستخدامه بحرص. الحديث المتبادل تبديد لهذا المورد النادر. يمارسون الحب بحرص ويأكلون ويشربون ويتأملون ويتنقلون بالمواصلات العامة والخاصة بحرص وحساب ويحرصون على صحتهم، كلها وظائف وأدوات تخدم الهدف الأعظم، تخدم العمل. كل ما يعطل العمل عبء على الإنسان العامل. مشكلاته العائلية ورحلاته وأوقات تسليته وعواطفه، جميعها أعباء يتحملها ضمير لا يتوقف عن الشعور بالذنب. حتى الكسل أو التكاسل خطيئة لا تعادلها خطيئة أخرى. الكسل هو الخطيئة الأعظم في عالم العمل اللانهائي. سكت قليلا قبل أن يضيف، أقول لكم بصراحة، وأنا العاشق للعمل والمتفاني في حبي له واعترف بالخوف الذي اعتراني. خفت على نفسي، خفت أن أتحول إلى إنسان عمل، إنسان بارد.
***
رن الهاتف. نظرت في الساعة فوجدت الليل انتصف. عدت أنظر في اسم المتصل فتوقف ترددي واشتعل فضولي. وصل صوتها فكان كصوت المستغيثة من تهديد غير داهم. وبالفعل عندما وصلتني إعادة الاستغاثة تأكدت من أن الأمر ليس جدا خطيرا ولكنه يستحق الاهتمام. “عايزة أكتب جواب”. نطقت بالكلمات الثلاث وسكتت بعدها، بل سكت كلانا لنستأنف ولكن ليس قبل أن تأكدت من أن الأمور على الطرف الآخر من الهاتف لا تدعو للقلق. لم تعتذر عن الاتصال المتأخر. بررته بأن أحدا آخر لن يفهم، وأن النوم لن يأتيها قبل أن تفرغ ما في جعبتها وتسمع ما يهدئ من روعها ويطيب خاطرها.
***
“تعرفني منذ عشر سنوات. تعرفني فتاة محبة للحياة ومقبلة عليها بصدر مفتوح وقلب دافئ. أحب الطبيعة حبا جما وأحلى ما أحبه فيها هو الإنسان. لا أتذوق رحيقها وأسعد بجمالها إلا في وجود إنسان، فبالإنسان تكتمل مكونات روعتها وقدرتها ويتجلى معناها. هذا الإنسان الذي أحبه لا أراه مجردا أو متخيلا، أحبه أمامي قابلا للمس. أحبه مختلفا عني ومشتبكا معي متفاهما ومتفهما عنيفا كالطبيعة ومسالما أيضا مثلها. تعرفني لا أحب الانزواء والانعزال. أحب الاختلاط . لا يضايقني تكدس الناس فبينهم وفي وسطهم أشعر بالدفيء. لا أنفر إن لامسوني بغير قصد، بالعكس أتمنى أحيانا عندما تبرد الدنيا ويوحش المكان فيخلو من الأجساد والأنفاس والكلمات، أتمنى وأحلم بلمسة من إنسان.”
” صديقي ، عشت السنوات العشر الأخيرة حياة إلكترونية. عشت وسط أنواع مبتكرة من آلات بلاستيكية، في كل واحدة منها عقل يفكر. آلات تسمع وترد وتصاحب وتتجدد. تذكر كيف كانت مستكينة. جاءت تعرض علينا أن تساعدنا وانتهت وقد احتلت حياتنا. فرضت نفسها طرفا في العائلة. كنا نرفض أن ينام في فراشنا الطفل وهو صغير فيتعود ولا يغادر، هذه الأدوات دخلت الفراش فأقامت لا تغادر. هل تصدق أن زوجي، وأنت تعرفه مدمن عمل يكاد لا يراني حتى حذرته من أن يوما سيأتي أمشي في اتجاهه في شارع ويراني ولكن لن يعرفني. هو بالفعل لا يجد فسحة من الوقت تسمح له بأن ينظر في وجهي أو يلمس يدي أو يربت على كتفي. تظن أنني أبالغ إذا قلت لك أننا صرنا نسوى أمورنا عبر شبكة الإنترنت، لا نلتقي إلا لماما وإذا التقينا فثالثنا جهاز يعرف عن زوجي أكثر مما أعرف وبينهما ثقة متبادلة نفتقد مثيلة لها في علاقتنا الزوجية. أنا متأكدة أنك لن تصدق أنني أتحدث معك الآن وزوجي في الفراش إلى جانبي يمسك بجهاز وعلى أذنيه كاتم صوت”.
***
“صديق عمري، اعتذر عن اتصالي بك في موعد غير مناسب، اتصلت بك لأنك الوحيد بين أصدقائي الذي ظل متوازنا في تعامله مع الإنترنت فاحتفظ بمشاعر دافئة. أردت أن تعرف أنني مثل كثيرين تعرفهم لم نعد نتحمل برودة العلاقات الإنسانية. أحن إلى الدفيء الطبيعي والحقيقي. أحن إلى همسة مسموعة وإلى لمسة حب دافئة. أحن إلى إنسان غير بارد. أحن إلى كلمة مكتوبة. بصحيح، وحياتك عندي، عايزة أكتب جواب عشان يجيني الرد في جواب”.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق