العالم، كل العالم، ليس على ما يرام. بل هو مفزع حقاً. كأن الشر والظلم أساسان من بنية الأمم والدول والحكومات. البشرية في تاريخها، مرتكبة خيانات ومجازر ولعنات. الهواء الإنساني فاسد، والذاكرة حفظت دائماً السياسات الكريهة. كأن تكون القاعدة، الإنسان، عدو لأخيه الإنسان. أليس هذا ما يطلق عليه عنوان “الأخوة الأعداء”.
إذا كان ذلك كذلك، يصير من الكذب أن نتفاءل. ما زال قابين يلاحق هابيل، كي يقتله كلما رآه.
مناسبة هذا الكلام، “تفاؤل الأغبياء والخبثاء” برحيل دونالد ترامب وقدوم “الملاك” جو بايدن. علماً، أن أميركا هي أميركا، وأفضل وصف أطلق عليها، ما جاء على لسان مارلون براندو: “الأميركي الجشع”. مع ضرورة التمييز، بين أميركا سياسياً، والأميركيين انسانياً. فإذا كانت الولايات المتحدة تمثال الشرور، فإن الكثرة الكثيرة من شعبها، تشبه الكثرة الكثيرة من شعوب العالم. ذلك أن السلطة في دول العالم. هي ولاَدة الإرتكاب. وإن العذاب والتنكيل والظلم والنهب وشن الحروب، يتجسد في دول، تظلم شعوب الأرض، وهي تدعي أنها المؤتمنة على الحضارة والتقدم وحقوق الإنسان وحفظ السلام. إن حقبة الإستعمار الأوروبي لأكثرية العالم في الكرة الارضية يحمل آثار المجازر والمذابح والارتكابات والفظائع التي ارتكبتها هذه الدول الفاضلة”. على أن الظلم في السياسة، ليس حكراً على دولِ ذات سمعة لامعة، بل أن أنظمة الدول المغلوبة والتاعسة، أكثر عنفاً وظلماً في ديكتاتورياتها، بحق شعوبها. فهناك فارق كبير بين ظلم العدو وظلم ذوي القربى. وعالمنا العربي ضحية ظلمين: الظلم الدولي الفاضح والظلم الإستبدادي الفاجر.
لا شيء غير مرئي. الولايات المتحدة الأميركية مرتكبة. حصتنا منها الإستبداد والتهديد والعدوان. لا ترحمك أميركا إلا بعد أن تقتلك، وتسجلك في دفتر وفياتها، والإستيلاء على الإرث الوطني بكامله. تسلبك، وتضمك إلى حضانتها المقيتة. من ليس معها، بالتمام والكمال، فهو ضدها: أنت مرضيَ عليك إن كنت تتقن الإملاء. هي تملي وأنت تنفذ ولا تعترض. تصير هي الوحي الصادق وأنت الذي يقرأ الإملاء ويتلوه.
سبق أن كانت روما كذلك. كل الإمبراطوريات قامت على الغزو والقتل والإجتياحات. والإمبراطورية الأميركية، بعد غزوات فرنسا وبريطانيا، ورثت تركة أوروبا المريضة، وألحقتها بذنبها. البلاد العربية، صورة مثالية لدول خائفة، مطيعة، ذليلة، متباهية بتبعيتها، ودول أخرى، معاندة سلمياً، تتلقى الحصار والتهديد والعقوبات، إذا لم تشن حروب. ثم، وهذا هو الاسوأ، إنها توكل إلى حلفائها شن حروب تستنزف الطاقات والثروات. العرب نموذج فادح. عرب أميركا يتنافسون في تبني سياسات أميركا. آخرها، الزحف العربي إلى تل أبيب، بهدف التطبيع. لا يوجد في التاريخ إذلال يضاهي إذلال العرب، الذين اعتمدوا المذلة سياسة حكيمة رائدة، بحيث أصبح “الشقيق الإسرائيلي”، في حلف واحد ضد الأشقاء العرب الغلابى، اليتامى المتمسكون، بما تبقى من عروبة، ووطنية، وبما تبقى من الشرعية الدولية، وإن ظالمة بحق فلسطين. ولعل أسوأ ما يُقال في هذا الصدد، “فيك الخصام، وأنت الخصم والحكم”.
أما لبنان، فهو في الميزان. وفي الميزان اللبناني كفتان: كفة ترجح الحل الأميركي، وبناء على ذلك لا بد من اتفان فن الإملاء الأميركي بلا أخطاء، وكفة أخرى، تعاند بسقف محكوم بإنعدام التوازن. ما يفتح الكوة أمام الكارثة.
الأفدح، في السياسات الراهنة، “أنه لا بد من أميركا”. أي لا يمكنك أن ترسم سياسة، كائنة ما كانت هذه السياسة، من دون الأخذ بعين الإعتبار بالمصالح الأميركية وليس بمبادئها. الإدارة الأميركية تتحكم بالعالم. أوروبا تشلُ قواها الخارجية، من دون أميركا. تكتفي أوروبا بتسجيل المواقف. الصين تحاول تجنب المواجهة. روسيا تراجعت إلى الخطوط الخلفية. وهكذا. وسيرة أميركا ليست عطرة، فحصتنا من حروبها، تحتل المرتبة الأولى. وهي ساهرة راهنا وسابقا، على تحويل المنطقة العربية إلى تابع، والى ملتحق بإسرائيل. ومن يرفض يتعرض لعقوبات تصل إلى حدود الحصار والإستدراج لمعارك خاسرة.
العرب، واضح مآلهم: الإنتهاء من العروبة، والإلتحاق بتسميات جغرافية جديدة، تحتل فيها “إسرائيل” مرتبة القيادة، ويكون العرب في قافلة الإلتحاق. الثروات العربية، ليست للعرب. ستكون لهم حصة تقررها الإمبراطورية. الإمتحان الأصعب، يمر فيه لبنان. لأنه منقسم بين صديق حليف مطيع لأميركا، وبين من تصنعه أميركا إرهابيا عدواً لإسرائيل. المعركة هنا، وليست في أي مكان آخر. إيران صامدة منذ ثورتها. ومعها نفوذ قوي لدى من يواليها ويتشيع سياسياً لها. السنة، في معظمهم، وخاصة السنة العرب، باتوا في الصف الأميركي، ويتسابقون لنيل رضاها. هنا في لبنان، يُصار إلى ابتكار معجزة في تأليف الحكومة. المحاصصة مشكلة، إنما المشكلة الكبرى، في كيفية تأليف حكومة تنأى بنفسها عن المقاومة، ومقتضيات التحالف الإستراتيجي للمقاومة مع إيران وقوى الرفض العربية.
الذين فرحوا بمعاقبة جبران باسيل، أغبياء. الذين فرحوا، تم تدجينهم سابقاً، وقبلوا رتبة التابع.
أميركا لا يمكن أن تكون صديقاً لأحد. حتى لأوروبا. لذا، لا يمكنها أن تكون مع لبنان، إلا إذا خرَ ساجداً مبخراً لسياساتها.
وهذا أمر مستحيل. بديله، حرب أهلية لا يربح فيها أحد.
لا يحق لهذه الدولة المستبدة أن تحاسب فاسدينا، لأنها راعية الفساد. هذه مهمة الثورة في لبنان.
مؤسف أن نضال اللبنانيين لم يرقَ بعد إلى مرتبة القوة، كي يتأهل لبنان لرجم الفاسدين وتنقية الدولة من كبائرهم.