ناجي العلي
كبرت ثلاثين مرة، مائة مرة، ألف مرة، يا ناجي.. وتصاغرنا ألف ألف مرة، لنغرق في جاهلية جديدة استولدت «خلافة» بل «خلفاء» عديدين يتبارزون بمصائرنا: يقطعون الرؤوس ويتوضأون بدمائنا قبل الصلاة وبعدها وهم يهتفون: الله اكبر!
تفسخت الشعوب التي كان هتافها للوحدة يملأ الآفاق مبشراً باقتراب الفجر، فإذا هي مساقة إلى حروب ضد الذات، ضد الغد، من الخليج الذي كان ثائراً فصار دولاً شتى تحارب «القضية»، إلى المحيط الذي كان هادراً فغدا غائباً عن الوعي، وإذا الكل يتبرأ من هويته الجامعة التي كانت تجسد شرف الانتماء إلى حلم الوحدة، وينغمس في اقتتال يدمر الحاضر والمستقبل، ويستعيد محتليه السابقين ليعينوه ضد ذاته، ويحرضهم على بلاده فيسترهنونها مجدداً بذريعة السبق إلى المستقبل.
نكاد نحسدك يا ناجي أنك غبت فلم تشهد تحقق نبوءاتك التي كنا نعتبرها تحريضاً على التغيير، فاندلقت علينا ولا تزال تنهمر متجاوزة خيالك الذي كنا نراه سوداوياً ولم نصدق لحظة أننا يمكن أن نتردى إلى حد إنكار الذات وتعظيم العدو والسعي إلى طلب وصايته لكي نعرف الطريق إلى العصر.
أيها الباقي ضميراً ونذيراً ينبه ويحذر ثم يحاكم ويدين كل من سقط أو أغرى بالسقوط، أو تآمر لإسقاط مستقبل الأمة في برميل نفط يعرضه في مناقصة دولية: خذوا معه فلسطين! خذوا الأمة وأريحوني من أعباء الانتماء وسجن العروبة!
أيها الذي كنت واحداً، متقدماً علينا برؤية الأنبياء، فصرت ضميراً للأمة، نذيراً بخطر الانسحاق والموت، محرضاً ومبشراً وحادياً للنهوض وقهر الذات بالإرادة، والانتصار على النفط بالدم.. أنت الذي انتصر بالحبر المشع تحذيراً وتحريضاً على التيجان وألقاب الجلالة والفخامة والسمو التي لا تنفع في تغطية عار الانسحاق أمام العدو.
أنت اليوم في موقع الضمير؛ من وصمته بالتفريط، صار خائناً ولو في الموقع الأسمى.
أعظم ما فيك أنك لم ترسم شخصاً فتمنحه صك براءة من واقعة التفريط بالمباركة فلسطين.
تركت أفكارك مطلقة، من مرت عليه ريشتك السيف أعدمته، بل قسمت العالم بين أصحاب الحق الذين غدوا لاجئين، مطاردين حتى في المقهر، وأصحاب السلطة الذين تكشفوا عن خونة باعة أراضي أوطانهم وحقوق شعوبها في بنائها والبقاء فيها.
ولقد صدقت في تأكيد ما لم نتعب من تأكيده: ان فلسطين أعظم من أن يلخصها أبطال ثوراتها التي كلما تعثرت إحداها ابتكر شعبها أسلوبا فذاً غير مسبوق لإعادة بعثها أقوى وأشمل.
وها هم أحفاد الثوار يشقون طريقهم إلى البطولة مبكرين، فإذا الفتيان وشقيقاتهم اللواتي يتفتح صباهن عبر المواجهة مع جنود العدو ولو بسكاكين المطبخ، حتى لا يسجل عليهم وعليهن أنهم قد استسلموا عبر «السلطة» ومعها.
وأنت يا ناجي الملهم والموجه ومُصدر الأحكام، من أدنته سقط إلى الأبد، ومن حييته بوصفه بشارة باستمرار الثورة وتجددها بالأجيال الجديدة صار النموذج والمثال.
لقد تكاثر حنظلة: صار جيلاً، وهو يتقدم ليصير طليعة لحقبة جديدة من تاريخ الأمة.. ووليدك حنظلة الذي خلّدك في أمسنا يصحبك فيرفعك إلى موقع السامي اليوم وغداً.
… ولقد قاتلت، يا ناجي، في بيروت ضد الطائفيين الذين دمروا البلاد في حرب أهلية ما زالت جذوتها تنذر بالاشتعال مجدداً، و «مسيحك» يرميهم بالحجارة من فوق صليبه، مؤكداً أن وحدة الشعب المنبثقة من وحدة القضية ووحدة الأهداف النبيلة في التحرير وبناء الغد الأفضل، هي ضمانة الانتصار على الأعداء مجتمعين.
وقاتلت في بغداد والقاهرة وعمان ودمشق وطرابلس وتونس ضد الطغيان الذي يقتل القضية قبل أهلها.
وقاتلت في جدة والخليج عموماً ضد الذين حاولوا شراء الثورة وحرف مسارها، واسترهنوا منظمة التحرير فحذفوا المعنى من اسمها وجعلوها مجرد ملحق في خطب العرض لاستدرار التصفيق عبر ذكر المقدسة فلسطين.
قاتلت في كل مكان، وسلاحك الفكرة المشعة كأشعة المخبوء والمضمر، فخافوك أكثر من كتبة الخطب مفخمة العبارات والتي تطلق الأوهام وعوداً بالصلاة في المسجد الأقصى.
كنت «الفلسطيني» بالمطلق، أي العربي بكل الجنسيات التي أنزلت على الشعب الواحد فجعلته أمما شتى، فقرأ فيك كل عربي همومه الوطنية، واعتبرك الجميع ضميرهم المعبر عن طموحاتهم المشروعة التي تأخذ إلى السجن والمعتقلات العربية.
]]]
يصعب الحديث معك وعنك، يا ناجي، بصيغة الماضي، فأنت زمن قائم بذاتك، وشعب مكتمل بفتى صغير يدير ظهره لما يرفضه ويرسل نظره إلى الأمام، رافضاً وقائع أيامه المعتمة، منتظراً بزوغ نجمة الصبح ليستقبل فجر النهوض إلى التحرير.
ولكنك معنا اليوم.. فبصيرتك كانت ترانا في مستقبلنا فتطلق ريشتك تتوغل في جراحنا، تحذرنا، تنبهنا، فنبتهج بالرسم وكأنه يصيب الحكام وحدهم، مع أنه كان يصيب تخاذلنا قبل تفريطهم.
ولا أخفيك أننا نعود إلى رسومك لنقرأ فيها غدنا الذي عجزنا عن صنعه فاصطنعه أعداؤنا لنا.. وها نحن في التيه، تأبى علينا كرامتنا قبوله، ويجبرنا واقع الهزيمة على التسليم به برغم أنه يلغينا ويشطبنا من خريطة الدنيا.
كنا نحسب أننا قد خسرنا فلسطين وحدها، لكنّا سرعان ما اكتشفنا عبر المحاولات البائسة للعودة إليها أننا نخسر ما قبل فلسطين وما بعدها، لأن العجز قد تفاقم حتى بتنا نخجل من هويتنا فننكرها.
ولقد خسرنا زماننا ومكاننا في دنيانا، يا ناجي، ولم يتبقَّ لجيلي غير مرارة الذكريات.. أما أبناؤنا فنخاف منهم، ونداري عيونهم حتى لا تصيبنا سهام الاتهام الصادق بأننا قد ارتكبنا معهم فعل الخيانة: لقد اغتلنا أحلامهم بخيباتنا، ويحاولون المباهاة بهويتهم، فإذا هي مزق، وإذا المناخ يغريهم بل يحرضهم على طلب غيرها ولو بِرَهْنِ حياتِهم بالسخرة لبناء أوطان الآخرين… الذين دمروا أوطاننا.
أما أنت فباقِ معنا دياناً تحاسبنا كل صباح، فنهرب منك إلى حنظلة نرجوه أن ينظرنا، فيصدنا بظهره، بينما عيناه تنظران إلى الأمام، إلى أبعد من واقعنا المخزي، فلا نستطيع أن نجاريه، فنهرب منه مسرعين إلى وهدة النسيان، لعلنا نرتاح فيها، فإذا أنت تتوقعنا فنهرب منك…
وهكذا نمضي زماننا في الهرب من المكان، ثم نغادر مكاننا هرباً من زمان الخيبة، فتمضي أعمارنا متقطعة بين خيبة وهزيمة، ونكسة وانهيارات في الوجدان، فلا ينقذنا إلا طيف مقاومة أنجزت وأكدت قدرتنا على الفعل فنلجأ إليها.. ولقد كنت معها من قبل أن تولد، ثم بشرت بها وهي تمشي خطواتها الأولى نحو الهدف الصح، وغادرت وقد أعادت إليك الأمل في قدرة هذه الأمة على الإنجاز.
أنت في مستقبلنا لا في ماضينا، يا ناجي.
وحنظلة هو الحادي والدليل.
ومن قلب بؤسنا الراهن يطل علينا ليستنهضنا أن اقتلوا اليأس بالثورة، قبل أن يقتلكم بالهزيمة.
وأنت معنا، دائماً، يا ناجي: أنت حادي المسيرة في قلب الصعب إلى النصر المستحيل.
على أننا سنظل في الميدان حتى آخر رمق، لأن ذلك خيارنا الوحيد بقداسته المفردة.
وسنظل فيه حتى يلتفت إلينا فنرى وجوهنا فيه.
ويا أبـــــــا خالـــد: إلــــــى اللقـــــاء…