تتزايد الأسوار ارتفاعاً بين الدول العربية و«قضية فلسطين». صارت «القضية» التي كانت مقدسة أشبه بعجوز مزعجة، في عيون أهلها يتعبهم حضورها، وتزعجهم ذكرياتهم عن ماضيهم، ويتعجلون ابتعادها عنهم بأية صيغة… ولقد توفرت هذه الصيغة في «السلطة» التي ليس لها أية سلطة فعلية، على الأرض، ولكنها تشكل «الحاجز» المطلوب لارتياح الأنظمة من عبء «القضية».
..ولقد وفرت الإدارة الأميركية العذر للدول العربية حين «تعهدت» لهم بأنه لن تمل ولن تكل حتى «تفرض» على إسرائيل صيغة «الدولتين»، أو بالأحرى صيغة «الدويلة» المفقرة والمعزولة خلف أسوار يستحيل اختراقها في مقابل «الدولة الإسرائيلية التي لا تقهر».
يعرف الناس خارج فلسطين هذه الحقيقة، ويحاولون الاعتراض، ثم يفحمهم الجواب الجاهز: أهل مكة أدرى بشعابها.. ونحن نرضى للفلسطينيين ما يرتضونه لأنفسهم، فلن نزايد عليهم ولن نتهمهم في وطنيتهم، فليقرروا ما يشاءون وما يرونه الأنسب لحاضرهم ومستقبلهم، ونحن معهم!
ولقد فرض «الأمر الواقع» نفسه على فلسطينيي الخارج، فأقنعوا أنفسهم بأن الوضع الحالي اقل بؤساً مما سبق.. ولعله يكون خطوة على طريق الألف ميل، والأمل في الشباب، في الجيل القادم الذي يمكن أن يكمل المشوار.
..ولقد فوجئت، قبل أيام، بصديق فلسطيني عزيز يقيم منذ دهر في بعض دول أوروبا ويحمل جنسية أميركية، يدخل علي متهللاً وهو يقول: فعلتها! لقد ذهبت إلى فلسطين، لأول مرة منذ ربع قرن! لقد دخلت «البلاد» وجلت فيها، بكل أنحائها. استطيع الآن أن اطمئن نفسي وأطمئن كل محب لفلسطين بأنها بخير.. الناس في الداخل أحسن مما نتوقع، وفي كل الحالات هم أفضل ممن في الخارج. لعلها الأرض.
صمت لحظات ثم انطلق يتدفق حماسة وهو يروي مشاهداته:
– لقد جلت في كل فلسطين. مشيت القدس (العربية) كلها، من أدناها إلى أقصاها، ولاحظت أن قدسنا هذه تكاد تنطفئ في فقرها، وداخل حصارها بالمستوطنات التي تلتهم أراضيها تدريجياً… لقد دخلت كنيسة القيامة ومشيت درب الجلجلة وتبركت بالتراب بعبق القداسة فيه.. وذهبت إلى المسجد الأقصى فصليت، وطفت في أنحائه فتملكني خوف حقيقي عليه. إنهم يحفرون تحته، ويحفرون في محيطه، من الجهات جميعاً. ثم إن الفقر الذي يغرق فيه الأهالي يجعل الأحياء العربية «مبهدلة»، في حين تنتصب «القدس الغربية» والمستوطنات العديدة التي أقيمت على التلال، والتهمت أراضي المقدسيين وشكلت سوراً إضافياً يحاصرهم ويضيق عليهم أبواب الرزق، بقدر ما تضيق عليهم القوانين الاستثنائية وحملات الدهم والاعتقال أسباب حياتهم.
– أهي خطة لطرد من تبقى؟
– بالتأكيد، وهي خطة منهجية واضحة تستهدف إجبارهم على الرحيل.
– من خلال المتابعة يبرز التناقص في أعداد المسيحيين..
– هذا صحيح. ومؤخراً عدلوا في قوانين التجنيد بما «يسمح» للمسيحيين أن يدخلوا في الجيش… وهذه خطوة استفزازية تستهدف إخراجهم من أرضهم وبلادهم، لا سيما أن بعض الدول الأوروبية فضلاً عن الولايات المتحدة الأميركية تلوح لهم «بإغراءات» وتقدم لهم تسهيلات استثنائية. المهم أن يتركوا أرضهم ويخرجوا منها.
– وهل زرت مدينتك؟
رد وقد رق صوته: زرت المدن جميعاً، الناصرة وبيت لحم، وتجولت في أنحاء الجليل، حتى دانيت الحدود وعَ لبنان، وأمضيت أياما متجولا بين عكا ويافا ومررت بحيفا، وصعدت إلى قمة جبة الكرمل، وسهرنا ليلة في مطعم هناك تستطيع أن ترى منه الشاطئ جميعاً حتى حدود لبنان. أنا لا أبالغ.. لقد لمحت نوراً في البعيد، فسألت: ما هي تلك البلدة هناك.. آخر ما نرى من أضواء؟ وجاءني الجواب الذي صدمني: إنها رأس الناقورة.
صمت قليلاً وترقرقت الدموع في عينيه وهو يقول:
– لقد زرت بيتنا الذي ولدنا فيه… وذهبت، فصليت في المسجد القريب، وانتبهت إلى حجم الإهمال الذي تعاني منه المدن الفلسطينية. لقد بنوا مدنهم على ارض مدننا فحاصروا أحياءنا وأهملوها، خصوصاً وأنهم قد زرعوا المستوطنات من حولها، فصار من تبقى من الأهل في وضعية الأسرى.
– هل زرت فلسطين 1948؟
– طبعاً.. طبعاً. ولقد أذهلني أهلها بمعنوياتهم العالية. لا أبالغ إن قلت لك إن معنويات أهل الداخل الفلسطيني عموماً، وأهالي 1948 خصوصاً أكثر تفاؤلاً منا نحن فلسطينيي الخارج. منطقهم بسيط لكنه حاسم: نحن هنا في أرضنا. لن نرحل مهما ضيقوا علينا، ونحن على ثقة بأننا في بلادنا، وهم يخافون منا.. اجل يخافون منا. نقرأ في تصرفاتهم شعورهم بأنهم أغراب.. بل إنهم طارئون. بل، ليست مبالغة أن نقول إنهم يخافون منا. يحسون أننا أقوى منهم. يحسون أننا بأرضنا أقوى. نحن مزروعون في الأرض، وهم عابرون!
صمت لحظات، ودمعت عيناه قبل أن يضيف قائلاً:
– إن أهلنا في الداخل أقوى منا وأصلب إرادة. لكأن الأرض تمدهم بهذه القوة الاستثنائية. إنهم يقولون إن العدو جرّب معهم وفيهم كل أسلحته، ولكنهم صامدون. مغروسون في الأرض. إنهم صخور الأرض وزيتونها. إنهم جبابرة حقاً. ولا أبالغ إن قلت إنهم في حالة نفسية أفضل من إخوانهم في رام الله وسائر أنحاء الضفة التي «تحكمها» نظرياً السلطة.
[ [ [
قام الصديق فانصرف… وأحسست انه ما زال يعيش نشوة الأرض التي تمكن من العودة إليها، ولو زائراً، والتي منحته هذا الإحساس بالقوة.
تباركت الأرض. إنها مصدر القوة والإيمان بالحق.
واستعدتُ بعض الوقائع التي ذكرها الصديق حين طاف بالجليل إلى القرى المجاورة للحدود اللبنانية.. قال:
– لقد روى لي بعض هؤلاء وقائع مذهلة عن مشاعرهم خلال الحرب الإسرائيلية على لبنان في تموز- آب 2006. قالوا إنهم كانوا يعيشون حالة زهو نادرة، حتى وبعض صواريخ المقاومة تصيب هذا أو ذاك من منازلهم. انتبهوا إلى أنهم ليسوا وحدهم. لقد بهرتهم المقاومة في لبنان بصمودها العظيم واستمرارها في المعركة حتى بعدما طلب العدو وقف إطلاق النار. أحسوا أن بعض أحلامهم تتحقق. أحسوا أن الانتصار على هذا العدو ممكن إذا هم اعتمدوا طريق المقاومة. إن «حزب الله» الآن هو النموذج. يعرفون أن ظروفهم لا تمكنهم من اقتباس التجربة، لكنهم عاشوا حقيقة أن العدو المتجبر قد خسر المعركة، وأن المقاومة نجحت في صده، وأنه بات يخاف منها.
وكان آخر ما قاله الصديق العائد بزخم عظيم في روحه المعنوية:
– لقد أسقطت المقاومة في لبنان «الاستحالة». أكدت أن إلحاق الهزيمة بهذا العدو المتجبر ممكنة، خصوصاً وقد تكشف جبن جنوده. في كل بيت فلسطيني يمكن أن يطلعك شبابه على صور سجلوها لجنود إسرائيليين يبكون منهارين، فضلاً عن صور الدبابات المحروقة.
هي الأرض. هي بقداستها مصدر الشجاعة. هي جوهر الإيمان، منطلقه ومؤداه.
هي الأرض التي كانت شريكاً عظيماً في انتصار المقاومة.
[ [ [
هل هذه الكلمات مناسبة للذكرى السادسة والستين للهزيمة في العام 1948؟!
من اجل هذه الأرض المقدسة كان «ملحق فلسطين «السفير العربي» الذي أصدرناه قبل أربع سنوات،
إلى السنة الخامسة نحو فلسطين وباسمها ومن اجلها.