أتذكرأني كنت مضطرباً ومتوتراً. كنت أتهيب اللحظة ولا أعرف كيف سأقابل عبد الرحمن منيف للمرة الأولى. كنت قد اكتشفته صدفة حين وجدت كتاباً على طاولة الصالون ” الأشجار واغتيال مرزوق” ما علاقة الأشجار؟ قلت لنفسي حينها قبل أن تتوالى الكتب ويصبح عبد الرحمن رفيق الأمسيات وجزءاً من مقاربةٍ الحياة للشاب الذي كنته. تسلل أدب منيف إلي هكذا، دون وصاية من أحد ودون أن أضع وجهاً على الاسم. كنا في الثمانينات من القرن الماضي، و كنت قد بدأت غربتي الباريسية، والتي لم أعرف حينها أنها ستستمر لتتحول إلى طريق حنين لم ينتهي بعد. كنت أقاوم كي أترك رواية من يدي وأعود إلى مرسم المعماري وأعمال جامعتي، ولم أكن أدرك بوضوح أن الأدب رديف المعماري، ومحفز له. أخبرني أبي أن بعض الأصدقاء سيكونون عندنا على العشاء. من؟ تساءلت بحياد. كان اسم عبد الرحمن وزوجته السيدة سعاد بينهم. أذكر احمرار وجهي لحظة المصافحة، و شعوري بسخف كل ما سأقوله. اخترت الانسحاب الى المطبخ والتحجج بتحضير الطعام وتنظيف الأواني. ويبدو أني استغرقت في تحضير طبق المقلوبة وأخذت أصف الباذنجان والرز البني وأضيف الصنوبر واللوز بعناية حين دخل عبد الرحمن المطبخ بسمرته القانية. -أنت فنان بطريقة ما، قال بطريقته المباشرة وهو ينظر الى الطبق الاسطواني.. لماذا لا تجلس معنا؟ أضاف بود.لا أعرف كيف انطلق الحديث، وكيف تحول الاضطراب والخجل نهراً يفيض بكل ما كنت أخبئه من أسئلة. قلت له حين استعدت بعضاً من ثقة: كيف يسمح الكاتب، انت، لنفسه عبر قلمه ورواياته، بالدخول إلى حجرتي، حجرة قارئه، فيخترق خصوصيته ويمنعه من الدراسة ويملي عليه أفكاراً و طريق حياة. ابتسم من وراء نظارته وغليونه. قال أشياء كثيرة، ثم أضاف وهو ينظر مباشرة في عيوني: اذهب، عش، سافر، اعشق، افعل ماتريد، لا تكن خروفاً.
لم نلتقِ كثيرا، عدة مرات، في باريس أو دمشق، و لكلٍ لقاء طعمه الخاص. لكن منيف الإنسان والأديب، لم يتركني يوماً. هو هنا في مكان ما من شرق المتوسط حتى مدن الملح وصولا الى مدن السواد. رحل مبكراً، وترك بلاداً استمرت بالاحتراق من بعده. لا أعرف إن اتبعت النصيحة بحذافيرها. أعترف أني عشقت و أحببت بالأمس وأني أحب اليوم، وأني عاشق دائم للكلمات. لم أعرف حقاً كيف يمكن تجنب التحول إلى خروف أو إلى ذئب في عالمنا القاسي. وربما بقيت كأغلب البشر مزيجاً من الاثنين، كائنات وسطية تبحث عن الأمان والاطمئنان فتفاجأ باستحالة الطيبة المطلقة والشر المطلق، فتتوه ثم يحصل لها أن تلتقي بجملة عابرة في كتاب عابر، فينفتح أمامها أفق ينادي ظل الإنسان داخلها، فتذهب أبعد في بحثها عن ما هو مشرق ومختبئّ فيها. لم يكن لعالمي الداخلي أن يكون على ما هو عليه دون “شرق المتوسط” ودون “أرض السواد” ومدن الملح” وعالمنا الذي أصبح حقاً بلا خرائط حسب نبوءة جبرا ابراهيم جبرا وعبد الرحمن منيف. هو دور الأدب في حياة كل قارئ: انه يجعلنا أقل عرضة للبؤس والخداع لأنه يربطنا بشرطنا الإنساني المعقد والبسيط بآن. لم يقل عبد الرحمن منيف، صاحب المشروع الروائي الكبير، شيئاً آخر، وذلك كثير في زمننا الذي يدفعنا بؤسه الى الأسفل، فنناضل ونحاول الصعود من بئر الرعب والقنوط متأملين أن يلد اليباب شيئاً.طوبى لعبد الرحمن منيف الذي حاول وآمن بناسه وأحبهم وأورثهم كلمات توغل بعيداً في الوجدان.