يتحول ماضينا، تدريجيا، إلى كوابيس، وتختلف جغرافيتنا علينا حتى لنكاد ننكرها وتنكرنا، مع انه في الاصل “مجيد”، ومع انها، في الاصل، ولادة امجاد.
قبل نصف قرن الا قليلاً، وتحديداً في صيف العام 1970، تجولنا، مجموعة من الصحافيين في انحاء العراق: شمالاً وغربا وجنوبا حتى شط العرب.. وقبلنا دعوة بان نركب “المشحوف” من بعض أطراف البصرة في “نزهة” في ذلك “النهر الثالث” الذي تكون على هامش التلاقي الباهر بين دجلة والفرات.
لا ارض هنا، بل نهر ثالث، (حتى لا نقول: مستنقع او تجمع لفائض مياه النهر من عند المصب) تخترقه بعض اشجار النخيل التي حمل التراب من البعيد، لتدفع فيه جذورها ثم تعلو لتكون معالم طريق القوارب الصغيرة.. وبها يتنقل الاهالي الذين يعيشون حياتهم هناك بهدوء، بل بشيء من الفرح وقد اعتادوا الحياة فوق سطح الماء، من دون أن يغرقوا.
ولقد سمحت لنا المصادفات أن نشهد “عرسا”، والجمهور يتنقل بين بيت العريس وبيت العروس بالقوارب الصغيرة، وسط جو بهيج من الزغاريد، ثم يعود الجمع بالعروس في مهرجان من فرح الفقراء الذين لا يملكون من ارض ما بين النهرين مكانا لمنزل، وهكذا فقد “سكنوا” الماء!
آخر ما سمعناه أن هذه المنطقة قد ردمت وهجرها اهلها، ابان الحرب الايرانية على العراق، ثم لم يعودوا اليها..
وهكذا تكون البصرة، احدى اجمل مدن العراق، قد خسرت ـ في جملة ما خسرت ـ ضاحيتها المائية الفريدة في بابها!