طلال سلمان

هزيمة استراتيجية لإسرائيل: عاجزة عن الحسم وعاجزة عن الوصول إلى تسوية

قطاع غزة ـ حلمي موسى

ها قد دخلنا في الشهر الاخير من العام الأول للحرب. وهذه اول حرب معلنة تدور رحاها بوتائر عالية تخوضها اسرائيل منذ انشائها. وبحسب تقديرات كثيرة هذه هي الحرب الاولى الكبيرة التي كانت فيها الجبهة الداخلية الاسرائيلية جبهة مواجهة حقيقية سواء في غلاف غزة ام في جبهة لبنان وطالت في مراحلها حتى تل ابيب ومحيطها.

ومعروف ان استراتيجية اسرائيل العسكرية بنيت على الحرب الخاطفة وعدم احتمال حروب الاستنزاف. كما أن الاستراتيجيات الحربية العربية بنيت اما على الحرب الطويلة او على الحرب الشعبية طويلة الأمد. وكان هذا اشد ما تكرهه اسرائيل. ففي حرب الاستنزاف مع مصر كانت اسرائيل اول من استخدم غارات العمق للضغط على القيادة المصرية للتخلي عن حرب الاستنزاف.

في حالتنا الراهنة ونظرا لانحسار الجبهات العربية واقتصار الساخنة منها على قطاع غزة ولبنان قبل توسعها في الضفة الغربية كان التصور الاسرائيلي بأن الحرب الطويلة محتملة بهذه الحدود. لكن الواقع ينبئ بنتائج مغايرة. فالحرب هذه كانت ايضا وبالا على اسرائيل. فهي من جهة عاجزة عن الحسم ومن جهة اخرى عاجزة عن التوصل الى تسوية. وبحسب المعلق الاسرائيلي الشهير رفيف دروكر فإنه رغم كل ما فعلت اسرائيل من قتل وتدمير فإنها في اصعب وضع أمني منذ انشائها.

وعدا عن التكلفة الحربية الباهظة التي سيضطر المجتمع الاسرائيلي لدفعها في اقرب وقت، كما تعترف الميزانية التي تحاول حكومة نتنياهو تمريرها، هناك ما يسمى بالتحول الاستراتيجي الاقليمي. فالتوترات بين كل من الاردن ومصر مع اسرائيل يمكن ان تهدد ما كان يعتبر لقاء استراتيجيا بينها. كما ان الوضع الذي كانته اسرائيل وقاد قبل ٧ اكتوبر الماضي نحو التطبيع اختلف كثيرا على الاقل مع دولة عربية كبيرة مثل السعودية. وعدا ذلك فإن حلقة النار التي انشأتها ايران حول اسرائيل لتعاونها مع المقاومة اللبنانية والفلسطينية واليمن والعراق وسوريا باتت فعالة ومهددة وتمنح معنى لشعار وحدة الساحات. وفي ذلك فشل عميق لاستراتيجية الهيمنة الاسرائيلية التي قامت على تفربق وتمزيق المحيط العربي وتقزيمه. ويمكن حتى قراءة تطور العلاقات التركية المصرية وتخفيف التوتر الايراني السعودي ضمن هذا التوجه الذي ينقلب على الرؤية الاسرائيلية.

وفي المقابل لا بد من الاشارة الى أمر في غاية الاهمية. صحيح اننا في قطاع غزة وربما في جنوب لبنان نشعر بثقل الضربات والغارات الاسرائيلية لكن هذه الضربات تعبر اكثر من اي شيء آخر عن اليأس الاسرائيلي. في هذه الايام تنتشر على ألسنة وأقلام الساسة والقادة والمعلقين الاسرائيليين عبارات الخطر الوجودي واحتمالات زوال اسرائيل. بل وصل الامر بالمرشح الرئاسي الامريكي دونالد ترامب للتحذير من ان فوز منافسته الديمقراطية هاريس قد يقود الى زوال اسرائيل. وتقريبا فإن الاحساس بقرب زوال اسرائيل او التحذير من ذلك يدلل على مقدار الخوف من اقتراب هذا الاحتمال ضمن القراءات السياسية للواقع.

فعجز القوة الاسرائيلية عن حسم المعركة ضد عدو كان يعتبر الاضعف بين جملة الاعداء زعزع ثقة الاسرائيليين بجيشهم وقيادتهم وقاد الى مثل هذا التفكير. ومعروف ان تعابير الخطر هذه برزت للحظة قبل حرب حزيران ٦٧ وسرعان ما اختفت بالنصر الساحق على الجيوش العربية. وعاد هذا التفكير الى الواجهة بالهجوم العربي المفاجئ في حرب اكتوبر المجيدة قبل ان ينقلب الوضع بصد الهجوم البري السوري في الجولان واختراق قناة السويس وتطويق الجيش المصري الثالث. وقد أعادت هذه الخطوات للجيش الاسرائيلي ثقته بنفسه وهو ما تجلى بعدها باطلاق استراتيجية التغيير الاقليمي الشامل في حرب لبنان ٨٢ بعد وقت قليل من ابرام اتفاقيات كامب ديفيد للسلام مع مصر. كما أن اتفاقيات اوسلو عززت ثقة الاسرائيليين بانفسهم فبلوروا بعدها ما يعرف عندهم باستراتيجية معارك ما بين الحربين والتي تعني تكثيف الجهد لمنع تراكم قوة لدى اي طرف معاد من خلال توجيه ضربات ثقيلة له لا تقود الى حرب شاملة. وبهذه الاستراتيجية التي يجري فيها ضرب اهداف من اليمن الى السودان ومن ايران الى العراق وفي اعالي البحار والمحيطات حاولت اسرائيل تعزيز قدرتها الردعية واضعاف عدوها.

وطبعا لا بد من ملاحظة ان كل الخطوات العسكرية لا بد ان تخدم استراتيجية سياسية. حتى الان بقي منطق اسرائيل اليمينية هو بناء الجدار الحديدي الذي تتحطم عليه أماني العرب في فرض رؤيتهم سواء السلمية ام الحربية. وقاد هذا المنطق الى استسهال تكرار تجربة غولدا مئير وموشي ديان مع مصر والقائلة بأن السلام مع مصر من دون شرم الشيخ ليس افضل من بقاء شرم الشيخ مع اسرائيل من دون سلام مع مصر. وهذا هو المعنى الحقيقي لرفض جهود العالم والسلطة الفلسطينية لتحريك العملية السلمية نحو حل الدولتين. فالسلام مع الفلسطينيين من دون المستوطنات واغلب اراضي الضفة الغربية ليس افضل من بقاء الضفة الغربية تحت سيطرة اسرائيل والمستوطنات. وهذا ما عزز قوة اليمين الذي بات يهيمن على ما كان يعرف بالوسط واليسار. اذ لم تعد في اسرائيل فكرة استراتيجية تدعو لسلام مع الفلسطينيين والعرب على قاعدة حل الدولتين. ولا يتجرأ قادة المعارضة في اسرائيل حاليا على اعلان تأييدهم لحل الدولتين.

في كل حال حديث العالم وامريكا عن حل الدولتين يعني هزيمة استراتيجية اليمين المهيمنة ولذلك فإن اطالة أمد الحرب هي استمرار للتمسك بالفكرة لمنع اعلان هزيمة هذه السياسة.

Exit mobile version