في لحظة واحدة، ومن دون سابق إنذار، تميد الأرض تحت أقدام الإنسان العظيم: المقتحم، المكتشف، رائد الفضاء والبحار، المبتكر، المخترع، المتواصل مع الآخر في نهاية المسافة، العالِم، الدارس، الباحث، مدّعي القدرة على استنساخ بشر مثله، والذي قد يأخذه غرور الثراء أو جبروت السلطة الى الافتراض أنه على كل شيء قدير!
في لحظة واحدة، يستعيد الناس الإحساس بأنهم متساوون في الخوف، وفي تمسّكهم بالحياة ولو بائسة وفي الحرص على البقاء فوق سطح هذه الدنيا الفانية حتى القيامة ويوم يُبعثون!
يُستحضر »الله« بالابتهالات والدعوات الحارقة ونداءات الاستغاثة، ومعه الأنبياء والقديسون.
تطلق الاستغفارات عما تقدم من الذنوب وما تأخر، وقد ترفق بالتعهد بالتزام الصراط المستقيم (من الآن فصاعداً، وإذا ما كُتبت لنا السلامة..).
يتهاوى الطود البشري ويتصاغر ويهرع إلى ملجأ إيمانه المهجور متحسراً على أنه لن يستطيع نقل ما يكتنزه أو ما يؤثره من ممتلكاته أو مقتنياته معه..
… حتى إذا ما انتهت »الهزة«، وعادت الأرض تدور حول ذاتها وحول الشمس، عاد هذا الإنسان يدور حول قدراته الأسطورية متباهياً بأنه الأقوى والأذكى والأمهر والأخطر والذي لا يستعصي عليه من أسرار الكون سر!
* * *
لكل ذكرياته أو محفوظاته عن الهزات والزلازل، ولكل وسائله في الاحتياط أو التقية: الكتب المقدسة، الخروج إلى الأماكن المكشوفة بعيداً عن البنيان، ولا سيما العمارات التي تُشاد على عجل وبالدَّين وبنقص في الذمة.
ولكن ما الحيلة في بلد كلبنان معرض للهزات يومياً:
أخطر الهزات المدمرة تأتيه على يد الاحتلال الإسرائيلي، وهي هزات تأتي بها حمم القذائف والصواريخ من فوق، لا من تحت، فتفتك بالإنسان والعمران والحيوان والمزروعات والمحاصيل المضمخة بعرق جهد السنة.
وأهونها شأناً هزات »الترويكا« التي تصيب بضررها مختلف »المؤسسات« من مجلس الوزراء إلى مجلس النواب، ومن مجلس الخدمة إلى ديوان المحاسبة، ومن الجامعة الوطنية إلى كتابة التاريخ.. الوطني!
وهي هزات تأتي من التوافق كما قد تأتي من اختلاف »الثلاثي المرح«، ولذا يستحيل توقعها أو تدارك آثارها!
خارج المراصد، فإن التقديرات تتوقع هزة قد تحرّك البركة الراكدة للحياة السياسية، إذا ما مارس المجلس الدستوري صلاحياته كاملة، وقال كلمته الفصل في الطعون المقدمة إليه، والتي قد تسقط نيابة بعض الذين صاروا نواباً بالغلط، وقد تحمل إلى المجلس مَن تجرعوا الهزيمة عن غير وجه حق.
وقرارات المجلس الدستوري قد تستولد مؤسسة ضمانة، إذا حماها الله وعصمة قضاتها الكبار، من تأثير المداخلات وضغوط النافذين ممن يرون أنفسهم أهم من العدالة والدستور والقانون والنتائج الطبيعية للعمليات الحسابية كالجمع والطرح والقسمة.. و»كل شيء قسمة ونصيب« حسب القول المصري الشائع!
طبعاً هناك هزات »الصناديق« و»المجالس« وصفقات التراضي وغب الطلب،
وهناك الزلازل المكتومة بالاختلاسات والارتكابات والفضائح المالية والأمنية،
وهناك ارتجاجات الركود الاقتصادي، وهي تستولد الافلاسات والشيكات البلا رصيد وتسريح العمال واندثار الزراعة الخ،
وهناك الزلازل العنيفة للضرائب والرسوم، ولا سيما غير المباشرة، والتي في مجالها وحدها تنتبه السلطة الى أهمية العدالة فتساوي فيها بين مَن يملكون أكثر مما يجوز ومَن يملكون أقل مما يكفي لحفظ النوع.
وأخيراً هناك »هزات البدن« التي تحدثها التصريحات العنترية والبيانات الرسمية غير الدقيقة والتعيينات الأكاديمية التي تتحكّم بها الطائفية والمذهبية ودائماً تحت شعار »تحصين الجامعة الوطنية« من الهزات..
* * *
في لبنان تعايش الناس مع الهزات حتى لم يعودوا يشعرون بها، فإذا ما شعروا بها هزوا رؤوسهم وهزئوا من سخرية الأقدار التي تجعلهم أرض تجارب لكل أنواع الهزات والرجات والارتدادات..
ولكن ذلك كلَّه لا يهم.. فشعارهم الأثير: يا جبل ما يهزك ريح!
وحمداً لله على سلامتكم من هزات الطبيعة والهزات البشرية وهي الأخطر!