تعيش »الطبقة السياسية« في لبنان حالة ترف غير مقبولة، بل انها مثيرة للريب والشكوك، وطنياً، إذا ما أخذ التوقيت في الاعتبار.
لقد عادت هذه »الطبقة« التي لا تقع تحت تصنيف، الى استخدام الخطاب الطائفي مباشراً الى حد الاستفزاز، وعدائياً تجاه الآخر الى حدود تقارب الفتنة، متجاوزة »الدولة« ومرتكزاتها، ملغية مؤسساتها، مشهرة بمواثيقها السياسية التي أبدعتها أو شاركت في إبداعها وروّجت لها طالما كانت مستفيدة من ثمارها السلطوية الشهية.
وفي مسلسل لا ينتهي من الاحتفالات الطائفية المموّهة بغلالة سياسية رقيقة، تبدت »الدولة« في صورة »الضيف الثقيل«، لكن وجودها ضروري لطرفي اللعبة: أهل السلطة وأهل الاعتراض ممن كانوا في السلطة فخرجوا، أو أنهم »استجدوا« أو »طرأوا« فأخذوا »يناضلون« لكي يحظوا بحصة من المغانم، مفترضين أن القاعدة هي: »لكلٍ بقدر طائفيته ومن كل بحسب وطنيته«!
وفي ظل هذا الخطاب استعادت المرجعيات الدينية، بل الطائفية، حيويتها، فاندفعت تحاصر الدولة بمطالبها، وتسترهنها، بل وتحاسبها كل يوم، وكأنها »المرجع الأخير«: تعترض على الموازنة وأبوابها والتوزيعات، وتناقش الإجراءات القضائية وتراها دليلاً على غياب العدالة لأن عدد المطلوبين أو المدانين أو المتهمين من هذه الطائفة أو تلك كان الأكبر والأعلى، تعترض على مناهج التعليم وتناقش عدد الجامعات فضلاً عن عدد محطات الإذاعة والتلفزة وتبعيتها وقوانينها وصولاً إلى قانون الإعلان الخ…
أما العنوان الدائم لهذا الخطاب فهو: المطالبة بإلغاء الطائفية السياسية.
البعض يريد »إلغاءها« لكي يستعيد وحده السلطة.
والبعض يشدد على ضرورة »إلغاء الطائفية« لكي تطول فترة تمتعه بالسلطة، وحده.
فالمعارض يتحدث من موقع الحاكم الشرعي الذي خلعه ظرف قاهر،
والحاكم يتحدث من موقع المعارض الذي يعرف أن »المزايدة« طائفياً تشكل أعظم ضمانة للموقع وتكسب صاحبه »شرعية« لا يمكن نقضها!
وأما الاسم الحركي للخطاب الطائفي فهو: الحوار… وها هي دعوات الحوار تملأ الفضاء حتى بات رموز هذه الطبقة يخطبون في نومهم، وإن لم يجدوا محاوراً حاوروا أنفسهم وأصدروا بياناً مشتركاً بضرورة تعميم هذا الحوار.
لماذا الاسترابة في هذا الخطاب الذي يبدو، في ظاهره، شرعياً، ومعبراً عن رغبة في ترسيخ الوحدة الوطنية وتثبيت شرعية جمهورية الطائف؟!
يتصل الأمر، بداية، بالتوقيت، ثم بموقع هذا الخطاب في سياق الأحداث الجارية، أو المحتمل وقوعها، وبطبيعة »المستفيدين« منه، بعيداً عن هذا الوطن الصغير وأهله.
في التوقيت: لا بد من الاشارة الى ان الموفد الاميركي دافيد ساترفيلد في طريقه إلينا، حاملا اكثر من انذار… آخر الانذارات »طازج« ويحمل توقيع أرييل شارون، اما اولها فيتمثل في مشروع القانون الذي سيعرض خلال ايام على الكونغرس الاميركي تحت عنوان »محاسبة سوريا« والذي يعمل اللوبي الاسرائيلي بالتعاون مع انصاره الاميركيين على ان يكون »شاهد الملك« في هذه »المحاسبة« لبنانياً، عبر بعض الاصوات »المعارضة« التي نفى اصحابها انفسهم من جحيم لبنان الى النعيم الاسرائيلي في الولايات المتحدة، بعدما تركوا شواهد دموية لا تنسى على ديمقراطيتهم وصدق قضيتهم وبعدهم عن الطائفية المقيتة.
بين الانذارين، ولكي نفهم مضمونهما، لا بد من التذكير بجو الحرب الشاملة التي تفرضها الادارة الاميركية على منطقتنا جميعاً وترهب بها العرب في وجودهم ذاته وليس في بعض كياناتهم السياسية او بعض انظمتهم او بعض اسرها الحاكمة، و»أصدقاؤها التاريخيون« في الطليعة منهم.
العنوان العراق، لكن الارهاب الاميركي يشمل كل العرب من مصر الى اطراف الجزيرة والخليج بما في ذلك اليمن السعيد، ومن سوريا الى لبنان الى فلسطين المتروكة لمصيرها يعمل فيها السفاح الاسرائيلي ارييل شارون ذبحاً وتقتيلاً وتهديماً، من دون ان يسائله احد في العالم (او بين العرب) عن حرب الابادة هذه التي كل ضحاياها من »المدنيين«.
بل ان مشروع الحرب الاميركية ضد العراق يبدو، في بعض اللحظات، كأنه مجرد قنابل دخانية للتغطية على المذبحة الاسرائيلية في فلسطين، او هو ارهاب اعظم لكل العرب يشغل كلاً منهم بنفسه، ويجبر كل نظام من انظمتهم على تقديم التنازلات والمزيد من التنازلات لأرييل شارون، ومن فلسطين اولا، ثم لادارة جورج بوش مما تبقى من الارض وما تحتها وما فوقها من موارد وخيرات وامكانات وإرادات واحلام في مستقبل افضل.
في هذا الوقت بالذات (ويا لمحاسن الصدف!!) يستعيد النظام العراقي الذي أعاد إليه التلويح بالحرب الأميركية شيئاً من الاعتبار، وانطلاقا من التضامن الأخوي مع شعبه الضحية، خطابه القديم الممجوج عن »الفرس« ليُخرج إيران من إسلامها معيداً إليها ملامح »العدو القومي«، موحداً بينها وبين العدو الإسرائيلي، موجهاً بذلك رسالة (؟) الى الإدارة الأميركية ليلفتها الى »عدوهما المشترك«؟!
اللافت ان استعادة هذا الخطاب الاستفزازي تتم بينما كان معظم العرب قد أجبروا أنفسهم على تناسي سلوك النظام العراقي، داخل العراق ومع شعبه الذي لم يتوقف يوماً عن دفع ضريبة الدم، والوقوف الى جانبه في مواجهة حملة الإرهاب الأميركي المنظمة إسرائيلياً، والموظفة إسرائيلياً، والعائدة بالنفع على إسرائيل بوصفها الشريك المضارب والمستفيد المباشر من شطب أية قوة جدية في هذه الأرض العربية، وأساساً: ضرب التضامن العربي (الإسلامي) ولو في حده الأدنى.
وفي هذا الوقت بالذات، يعلن معمر القذافي وفاة الثورة التي قادها في ليبيا، باسم العروبة وتحت راياتها، قبل ثلاثة وثلاثين عاما، محاولا إخراج بلاده العربية حتى العظم من عروبتها، ومن الثورة بطبيعة الحال، مفترضا أن تلك رسالة تفهمها الإدارة المتحالفة حتى النخاع مع حكومة شارون الإسرائيلية، فتعفو عن ماضيه (الذي كان في بعض صفحاته مجيدا) وتقبل توبته… ربما لأن الخروج من العروبة يعني بنظره التبرؤ من تهمة »الإرهاب« التي طاردته بها واشنطن طويلا.
***
ونعود الى لبنان و»الطبقة السياسية« بطبعتها الجديدة فيه، وخطابها الطائفي بطبعته المنقحة والمزيدة، وهو خطاب يقفز من فوق هموم الناس الثقيلة والضاغطة عليهم في مختلف مناحي حياتهم، ليأخذهم بالاستفزاز الى مواجهة بعضهم بعضاً، بما يضعف وطنهم ودولتهم، ويشغلهم عما يدبر لهم ولإخوانهم، وهو كثير وخطير.
إن مسألة مهمة كالموازنة بأرقامها المشكوك في صحتها، وتوجهاتها المجافية لأبسط شروط العدالة، ورسومها وضرائبها الجديدة، وخلوّها من
أي احتمال لتحقيق الإنماء المتوازن، لم تستوقف هذه »الطبقة السياسية« ولم تثر اهتمامها، ولم تدفعها الى الغضب أو حتى الى مساءلة واضعيها ليس فقط عن »فلسفتها« بل أساسا عن أرقامها ومدى صحتها.
لا مهمة الموفد الأميركي، أو ما يدبر في الكونغرس الأميركي، في سياق إرهاب العرب، كل العرب، للتخلي عن مصيرهم مجسدا في العنوان الفلسطيني، وجدت لها مكانا في خطاب »الطبقة السياسية« الطائفي بداية وانتهاءً، والذي لا هدف له إلا السلطة ولو جاءت من الشيطان أو جاءت به الى البيت.
ولا الحصاد اليومي لآلة القتل الإسرائيلية التي تواصل إنجازاتها الباهرة في استئصال »السرطان« متمثلا في شعب فلسطين، والتي تغتال كل يوم المزيد من أطفاله وفتيته وصباياه ونسائه فضلا عن رجاله المجاهدين، وعن مكامن »المرض الخبيث« متمثلة في البيوت ومخيمات اللجوء والمدارس والجامعات والدكاكين ومقار الشرطة ومراكب الصيادين… ولا شيء من ذلك كله أثار اهتمام هذه »الطبقة السياسية« التي تبالغ في حب لبنان وتشتد في معانقته حتى تكاد تخنقه.
لقد ضجر كتّاب المراثي من نظم القصائد، ولم يضجر السفاحون الإسرائيليون من القتل، لكن شعب فلسطين العظيم يواصل إثبات حضوره بالاستشهاد فوق أرضه ومن أجلها، حتى وهو بلا دولة، ومع »سلطة« مقموعة ومغلولة اليدين وعاجزة ومتهمة في كفاءتها السياسية.
ذلك أن الوطن هو الأبقى، وحمايته هي الأوجب.
وليس بالطائفية تحمى الأوطان، ولقد علمتنا التجربة العكس تماما: فالطائفية تذهب بالوطن، لا فرق بين أن يحكمه هذا الطائفي أو ذاك!