طلال سلمان

حوار في 14 اذار

لكأننا في زمن آخر!.. فالعام المنقضي بين 14 آذار 2005 و14 آذار 2006 طويل كدهر، حافل بالتطورات والتحولات الكفيلة باصطناع مسودة لتاريخ مختلف عما قبله، وان كانت صورته لم تتضح تماماً بعد.
كانت الجريمة في 14 شباط 2005 اغتيالاً لمرحلة كاملة حفلت باخطاء ثقيلة طمست مكتسباتها القليلة التي تبدى لبعض الناس، ذات لحظة، انها قد تضع حجر الأساس للتغيير المنشود في النظام المعتل، فإذا هي تنتهي إلى نقيض المتوقع والمأمول.
ولقد قتلت تلك المرحلة رجالها، وكان رفيق الحريري شهيدها الأكبر والخاتمة المأساوية التي فتحت باب التغيير في الاتجاه المعاكس تماماً، فإذا بما كان مرفوضاً يصير هتافاً جماهيرياً، وإذا اخطر عيوب النظام تتحول إلى مزايا. لقد غطى الدم على العيون والعقول، فإذا الناس غير الناس، وإذا الاعتراض على الاخطاء المتراكمة يقرّب البعيد ويُبعد القريب ويُسقط شعارات كانت عزيزة على أهلها ليرفع بديلاً منها شعارات ما كان يخطر في البال ان ترتفع في سماء بيروت أو يهتف بها أهلها الذين كادوا يضحون بعاصمتهم الأميرة في أكثر من مناسبة حفظاً لهويتها الأصلية.
لقد أخذ الشعور بالفقد والحزن على اعدام الأمل واليأس من سياسة الأخ الشقيق، الناس من الالتزام بوحدة المصير إلى إحساس مر بالخذلان… كانت الخسارة تفوق التصور، فإذا رد الفعل يرد الناس إلى خانة الدفاع عن الذات والنوع.
.. وملأت الطوائف والمذاهب الشوارع والساحات مستولدة مشاريع سياسية ما كان يمكن الجهر بها في مناخ وطني، هو وحدوي بالضرورة.
الآن، وبعد سنة، يبدو المشهد وقد اختلف مرة أخرى، وانفتح الباب مجدداً أمام الأسئلة التي لم توفر التظاهرات والشعارات وهتافات الغضب والحقد التي لامست حدود العنصرية، أجوبة جدية لها.
هل هذا سبب كاف لأن يكون الجميع إلى طاولة الحوار الوطني مع الذكرى السنوية الأولى لما اطلق عليه الغرب، ثم تبناه قادة 14 آذار، »ثورة الأرز« مستعيرين لها الشالات البرتقالية (التي سرعان ما تخلوا عنها لمن احتكر لتياره هذا اللون)، ونسبوا إليها القدرة على تحقيق اهداف يعرف الجميع استحالة تحقيقها في بلد كلبنان تحكمه التوازنات الهشة داخله، كما تحكم مساره علاقات الأخوة مع المحيط، وعلاقات العداء الذي يصعب اسقاطه مع إسرائيل؟!
هل عاد فاستقر في يقين الذين اعتبروا ذلك اليوم مولداً للبنان الغربي المعادي للعرب، المتبرع بالصلح مع إسرائيل، من دون ان تطلبه، والمضحي بالمقاومة التي صنعت له مجداً، لم ينله أحد قبله، انه يستحيل على طرف واحد أو طرفين ان يستقلا بإعادة صياغة لبنان، هوية ودوراً ونظاماً، من خلف ظهر الآخرين أو حتى بالمواجهة معهم؟!
هل انتبه الذين حاولوا دفع الناس إلى الانتصار بالثأر بينما البلاد مهددة بالانشطار، إلى ان الغضب ليس سياسة، وان أي محاولة للتفرد بالقرارات المصيرية إنما تؤدي إلى الفتنة لأنها تكسر التوازنات الدقيقة التي يقوم عليها النظام ودولته المهددة دائماً بسوء تطبيقه؟
لقد انتقم لبنان لشهيده الكبير كما للزمن الضائع منه، فاخرج »الوصاية السورية«، واستصدر القرارات الدولية التي انهت مرحلة كاملة من تاريخ لبنان والمنطقة جميعاً. ولكن هذا لا يعني ان لبنان قد خرج من جلده ولغته وهويته وعروبته.
.. وها قد تلاقى من كان متعذراً تلاقيهم، وصار تبادل للرايات والشعارات، وانتقلت قوى من ضفة الى أخرى. سقطت رايات وارتفعت رايات. وكادت الأمكنة تفقد هويتها التاريخية ودلالاتها الرمزية بعدما اجتاحها استثمار الحزن فغيرها وغير أهلها. لكن ذلك مغاير للطبيعة، ولا يمكن ان يدوم.
انهم يتحاورون الآن، في محاولة للعودة إلى التلاقي متخففين من الغضب والثأر والوفاء والسيرة السابقة على ذلك اليوم المشهود الذي برر الانقلاب على كل شيء، بما في ذلك الانقلاب على الذات.
… وها هو يوم 14 آذار يعود يوماً عادياً، وان كان حافلاً بالذكريات.
المهم ما ينفع الناس في غدهم. المهم ما يحفظ للناس هويتهم، والأرض مصدر الهوية ومرجعها، وقداستها لا تنبع من مساحتها، ولا من موقعها على الخريطة، (حتى لا ننسى مزارع شبعا)..
الكل إلى الطاولة الآن، تتابعهم وتحيط بهم عيون الدول، البعيدة والقريبة.
وها هم يباشرون تناول الموضوعات التي كانت تبدو متفجرة بهدوء، وبعقل تحكمه المصالح.
والمصالح تدل إلى الطريق الصح، ربما بأكثر من العواطف.
والغد دائماً هو الأهم، ولا يجوز ان يُضحى به ثأراً من الأمس.

Exit mobile version