قبل عشر سنوات أو يزيد، تفجرت أزمة سياسية حادة بين «دولة قطر» والمملكة العربية السعودية، بسبب خلاف على منطقة «العيديد» الواقعة على «الحدود» بين البلدين، والتي كانت تشكل نقطة الاتصال البري الوحيدة بين قطر ودولة الإمارات العربية المتحدة.
تفاقم الخلاف بين البلدين الشقيقين اللذين يكاد شعباهما أن يكونا واحداً، لان القبائل فيهما تتحدر من أصول واحدة، فالعائلات أقارب أو أنسباء، والمنبت واحد وإن اختلفت المواقع التي استقر فيها النازحون طلباً للماء والكلأ.
تبادل المسؤولون التهديدات، وساد جو «حربي» في المنطقة التي تختزن أرضها ثروات هائلة، في حين يتفجر شاطئها بثروات أسطورية من الغاز.
فجأة تم تجميد الأزمة بسحر ساحر، وكانت الصورة المعبرة عن الخاتمة السعيدة: مصافحة بين وزير خارجية قطر ووزير خارجية إسرائيل، آنذاك، شيمون بيريز في واشنطن، لتليه في الغد صورة كاشفة للحقيقة تمثل وزير خارجية قطر ضيفاً محتفى به في وزارة الخارجية الأميركية بواشنطن.
كانت المفاجأة صاعقة، خصوصاً وقد تلاها الإعلان عن افتتاح «مكتب تجاري» لإسرائيل في الدوحة، عاصمة قطر.
كنت أعرف أمير قطر، الشيخ حمد بن خليفة. فلقد التقيته غير مرة وهو ولي للعهد، ثم بعد أن خلع أباه ليتولى السلطة رئيساً للدولة والى جانبه صديقه الأثير الشيخ حمد بن جاسم… وكان قدم نفسه كقومي عربي، يرفع في مكتبه صورة للقائد الراحل جمال عبد الناصر، وتكسو صوته رنة حزن حين يتحدث عن تراجع حركة الثورة العربية وعن عودة الهيمنة الأجنبية لتفرد ظلها فوق الأرض العربية.
كنا نحاول، عبثاً، أن نفهم سر هذه الحركة المباغتة التي تكسر محظوراً ظلت القيادات العربية تتجنب كسره خوفاً أو تهيباً، لا سيما بعد النهاية المأساوية لمغامرة الرئيس المصري السابق أنور السادات في زيارة «دولة العدو»، إسرائيل، وفي التوقيع على معاهدة الصلح معها، وهي التي انتهت ـ مأساوياً ـ باغتياله صباح 6 أكتوبر 1981 خلال العرض العسكري لمناسبة الذكرى الثامنة لذكرى العبور ـ حرب أكتوبر المجيدة في السادس من تشرين الأول 1973.
وباغتني أمير دولة قطر باتصال قال فيه ما مفاده انه لن يلومني ولن يعتب عليّ مهما قلت فيه هجوماً على فعلته وإدانة لمسلكه، ولكنه يطلب بأن أزوره لساعات حتى أسمع منه، مباشرة، عذره أو تبريره لهذا الاختراق للمحظور.
ذهبت الى الدوحة، فعلاً، وجلست الى الشيخ حمد أستمع إليه. قال:
ـ لم تكتف السعودية بأرضها التي بحجم قارة، بل طمعت بهذا الشريط الحيوي من أرض إمارتنا الصغيرة الذي يربطنا بدولة الإمارات، وحشدت جيشها، وهددتنا، فخفنا من أن تقدم على مغامرة لا قبل لنا بمواجهة أعبائها. وهكذا فقد توجهنا الى واشنطن نطلب تدخلها، فأعرضت عنا. قلنا: لعل الأفضل أن نحرجها فنخرجها… وهكذا تحرشنا بإيران، وأرسلت وفداً كبيراً الى طهران فرحبت به قيادة الثورة الإسلامية فيه، وعقدنا اتفاقات، وأطلقنا التصريحات الودية. لكن واشنطن لم تتحرك. فكرنا، وقررنا أن نستفز واشنطن، فأرسلنا وفداً كبيراً الى صدام حسين. لكن الإدارة الأميركية لم تتحرك… ثم فوجئنا بها تتصل لتبلغنا أن بوابتنا إليها هي إسرائيل، وليس أي مكان آخر، فإن نحن شئنا رعايتها فعلينا أن نفتح الباب لعلاقات جدية مع الحكومة الإسرائيلية!
وختم الشيخ حمد حديثه التبريري بالقول: وبالفعل أرسلت وزير خارجيتي فالتقى شيمون بيريز، وعندما عاد الى فندقه وجد من يبلغه بموعده في وزارة الخارجية الأميركية. كانت الرسالة واضحة: بوابة واشنطن إسرائيل، ادخلوها تصلوا إلينا!
لم أقتنع بطبيعة الحال بهذا التبرير الذي سرعان ما حول : «العيديد» ـ نقطة الخلاف مع السعودية ـ الى أكبر قاعدة عسكرية أميركية في الشرق، والذي فتح أبواب قطر أمام إسرائيل، ممهداً لانفتاح «دول» أخرى في الخليج العربي، على رأسها سلطنة عمان، أمام الاجتياح الإسرائيلي، بينما تغطي دماء الفلسطينيين أرض بلادهم التي تغصب منهم لتمنح لوحوش المستعمرين المستقدمين من أربع جهات الأرض ليقيموا مستوطناتهم فوقها، طاردين أهل الأرض من أرضهم الى التشرد في الشتات.
وكان بديهياً ألا تقنعني هذه الذرائع التي تحول الأخ الشقيق الى عدو وتفتح للعدو البيت العربي، في حين أن إسرائيل كانت آنذاك لا تزال تحتل بعض لبنان وتقاتل شعبه الذي وقف صامداً خلف مقاومته حتى انتصرت إرادته وتم تحرير المحتل من أرضه في 25 أيار العام 2000.
لماذا هذه الاستعادة لحكاية قديمة عفا عليها الزمن وغطت عليها وقائع هائلة بدلت خريطة منطقتنا، وكادت تبدل طبيعة العلاقات بين شعبها الواحد، أو شعوبها الشقيقة وذات المصالح المشتركة؟!
إن دلالات هذه الواقعة خطيرة، وبينها:
أنه صار من السهولة بمكان أن يقدم أي حاكم عربي على الاستعانة بالعدو القومي (إسرائيل) على شقيقه العربي، مبتدعاً لنفسه مجموعة من التبريرات التي لم تكن مقبولة في أي يوم مضى، متى رأى أن مصلحة عرشه أو رئاسته تقتضي مثل هذا التحالف المحرم للحفاظ عل حكمه.
لقد صارت السلطة في موقع منفصل تماماً عن الشعب، وبديهي أن تفترض أن مصالحها تتقدم على مصلحة الوطن وشعبه ودولته، ولا مانع من خرق المحرمات وإسقاط العداوات (الوطنية والقومية) من أجل حماية السلطة.
صار النظام يهتم، أولا وأخيراً، بسلامته، فالدولة تتحول الى رهينة لديه في ظل التغييب الشامل للشعب.
يصير الشعب مصدر الخطر، إن هو حضر هدده النظام بتفكيك الدولة.
ولكي يضمن النظام سلامته فإنه يلجأ الى ما يعتبره مصدر الأمان، أي الأميركي والإسرائيلي، ولأسباب تتصل بقوته، المتعددة القواعد والأسلحة في منطقتنا.
وهكذا فإن النظام يتنازل لإسرائيل عن عروبته، أي عن التزامه بهويته التي عنوانها فلسطين، سالكاً المعبر الإلزامي وهو الإدارة الأميركية.
أي ان الخروج من العروبة وعليها هو خروج من فلسطين وعليها، وبوابة العبور الى الإدارة الأميركية هي، دائماً، إسرائيل.
هذا كان من زمان.
ويومها كانت الإدارة الأميركية تشترط لاستقبال طالب النجدة من أهل النظام العربي أن يعبر من البوابة الإسرائيلية.
أما اليوم فإن كثيراً من أهل هذا النظام العربي لم يعودوا بحاجة الى الشفاعة الأميركية للوصول الى إسرائيل، بل انهم يتصلون مباشرة بإسرائيل، فضلاً عن أن بعضهم ينسق مباشرة معها وأحيانا يعينها على الإدارة الأميركية بتزكية موقفها، مما قد يحرج واشنطن اذ يظهرها وكأنها متحمسة للعرب وقضاياهم أكثر من بعض العرب، وبالتالي أكثر تشدداً من إسرائيل ذاتها.
وبديهي أن ما ينقص من عروبة أي نظام عربي إنما يخصم من قضية فلسطين ويضيف الى رصيد إسرائيل في هذا الصراع المفتوح على هوية هذه المنطقة من العالم ومستقبل شعوبها، أي حقهم في الحياة الكريمة.
بهذا المعنى فليس الفلسطيني وحده، من بين العرب، من يفتقد دولته التي لا تزال في ضمير الغيب.
يكاد كل عربي، وأي عربي، يفتقد «الدولة» في كيانه السياسي، ويفتقد الوطن في كليهما.
إن السلطة لا تعني، بالضرورة، الدولة. والدولة، ككيان سياسي، لا تعني بالضرورة الوطن. وما أكثر السلطات في بلادنا وما أقل الدول!
بهذا المعنى فقد صار معظم العرب «فلسطينيين»: دولهم، بالمعنى السياسي، محتلة الإرادة، قرارها ليس لها، وسلطتها لا تعبر عن مصالح شعبها، بل هي في الغالب الأعم على تناقض مع شعبها، تخاف منه أكثر مما يخاف منها فتقمعه، وإن انتفض ضدها حرضت بعضه ضد بعضه الآخر، فانفتحت أبواب جهنم الحرب الأهلية.
ما أكثر السلطات وما أقل الدول.
ربما يصح القول أيضا: ما أكثر الدول وما أقل الأوطان.
نشر في “السفير” في 21 تشرين الأول 2009