بغير قصد مقصود، تحول العشاء التكريمي في الفندق الفخم المغربي الطراز، إلى ندوة سياسية متعددة الأصوات: كنا عشرة، بيننا مصريان وسعودي وكويتي وبحريني وأردني وكاتب هذه السطور، فضلاً عن مضيفينا من أبناء دبي، المدينة الأعجوبة التي تكبر وتزدهر وتتعاظم امتداداً وارتفاعاً كل ساعة، مقدمة نموذجاً نقيضاً في الإمارات العربية المتحدة، لكل ما هو سائد في مختلف أرجاء الوطن العربي الكبير.
بعد دقيقتين كنا قد تخلينا عن ترف المجاملات لنغرق في لجّة السؤال الذي يفرض نفسه، صريحاً كالجرح؛ ماذا بعد الحرب؟! من بعد العراق؟!
تجاوز الجميع الأسئلة الممهدة، من نوع: متى يندفع الثور الأميركي الهائج إلى الحرب؟! وكيف ستكون الحرب على (وفي) هذا البلد العربي المتعدد الأقاليم والأعراق، الطوائف والمذاهب، وماذا سيصيب كيانه السياسي من تحولات؟ وما دور النفط فيه حاضراً ومستقبلاً، ومخزونه على ما تؤكده التقارير المتخصصة هو الأعظم؟ ثم كيف ستكون سلطة المستقبل فيه؟!
وكان لا بد من أن تتسع دائرة السؤال، كما الحريق، لتشمل أقطار المشاركين في التحليل بأنظمتها والعلاقة الشوهاء بينها وبين شعوبها، وباحتمالات التغيير فيها ووجهتها المفترضة.
ولأن أبناء الجزيرة والخليج كانوا يشكلون الأكثرية، فقد رغبنا أن نسمع منهم، خصوصاً أن النار تلامس أوضاعهم القائمة، وثمة مؤشرات وتهديدات معلنة و»مقترحات« تأديبية تلوّح بالديموقراطية كعقاب شديد لهؤلاء »الأصدقاء« الذين يفتقدون في واشنطن اليوم من يسمعهم فيرحم ضعفهم ولا يكون جباراً في انتقامه منهم، مستذكراً خدماتهم الجلّى وأيام الصفاء..
قال المضيف الإماراتي يفسر لنا سر الارتياح العام السائد في هذه البلاد الغنية بمواردها كما بالعقول العاملة لاستثمار مواردها بما يضاعفها أضعافاً بغير مشقة تذكر: ليس ثمة ما يقلقنا، مباشرة. نحن هنا بعيدون في المسافة، عن »الجبهة« التي سوف تشتعل قريباً بحرائق رهيبة. لا يكاد مناخ الحرب يصلنا، إلا بالعاطفة. لا قواعد عسكرية لدينا، ولسنا نرى الحشود الأميركية والبريطانية. نعرف أنها تملأ البحار من حولنا، والأجواء. »هم« في مياه الخليج وفي بحر عُمان، في البحر الأحمر، وفي المحيط الهندي، وكذلك فهم أيضاً في البحر الأبيض المتوسط.
؟ قال الضيف المصري، وقد خاف أن يشمله »الكشف«: لم تقدم مصر أية تسهيلات، سمحت فقط بعبور المدمرات وبعض حاملات الطائرات في قناة السويس… وقد حصل الأميركيون على الإذن من إسرائيل والأردن باستخدام الأجواء لطائراتهم التي قد تنطلق من الحاملات أو من قواعد بعيدة، في اتجاه أهدافها في العراق..
؟ أكد الأردني معلومات المصري وأضاف إليها، قال: وليس سراً أن في الأردن الآن بضعة آلاف جندي من القوات الخاصة الأميركية..
حدد المصري الرقم بدقة: إثنان وعشرون ألفاً… وهؤلاء مهمتهم التقدم إلى »شرقي« العراق، لمواكبة قوات الغزو التي يفترض أن تتقدم من محورين: منطقة الأكراد في الشمال، ومن البصرة، عند فم الخليج في الجنوب.
؟ قال القادم من الكويت: لن أخبركم ما لا تعرفونه إذا ما قلت إن الجنود الأميركيين ينتشرون بامتداد برّنا، وإن طائراتهم تملأ سماءنا، وإن بعض قطعهم البحرية قبالة شاطئنا. الأرقام الرسمية تذكر أنهم مئة وستون ألفاً. ربما كانوا أكثر. على أن مأساتنا في الكويت سياسية. إن النظام معطل. إننا في أزمة خطيرة قد يكفي لتجسيدها أن نسمع الشيخ صباح الأحمد (وهو عملياً الأول في الكويت بالإنابة أو بالوكالة)، يقول بحرقة: إننا مغيّبون! ومن عبث الأقدار أن قطر تلعب الآن الدور الذي طالما برعت فيه الكويت!
بعد لحظة صمت عاد الصديق الكويتي يقول: ألم تلاحظوا أن الوحيد من بين القادة العرب الذي لم يقم بزيارة واحدة إلى واشنطن خلال السنتين الماضيتين هو الرجل الأول، بقوة الأمر الواقع، في الكويت! إن علاقاتنا مع الإدارة الأميركية مأزومة، لكن لذلك حديثا آخر.. أما المضحك المبكي فهو أن القيادة الأميركية في الكويت قد »اشترت« من وكلاء المكيّفات جميع ما لديهم وما تعاقدوا على شرائه من الشركات المختلفة، مع الاشتراط في العقد على أن يكون »التسليم في البصرة« ابتداء من شهر نيسان المقبل. وفي حدود المتداول من معلومات فقد »اشتروا« حوالى مئتي ألف مكيف، وأنهم سيوزعونها على العراقيين كهدايا، لإظهار »الوجه الإنساني« للاحتلال، وحرصه على راحة أبناء مستعمرتهم الجديدة!
؟ كان السعودي يستمع صامتاً، حتى إذا تناول الحديث الضغوط الأميركية من أجل التغيير وجنون الانتقام الذي يحرّك الإدارة الأميركية ضد الإسلام عموماً و»الأصوليات« خصوصاً، مع التركيز على النظام السعودي، تبرّع الرجل بأن يصحح بعض الوقائع.. قال:
صحيح أن الإدارة الأميركية قد فرضت بعض التعديلات على مناهج التعليم، وأنها ضغطت من أجل التسريع في تحقيق »المشاركة الشعبية« في الحكم، وأنها تحاول أن تفرض على المملكة دوراً مباشراً، ولو محدوداً في الحرب ضد العراق.. لكن ذلك كله كان في خطة النظام، وقد أرجئ التنفيذ في الماضي لأسباب تتصل بطبيعته. وغير صحيح القول إن »الوهابية« هي الأم أو المصدر لهذا النوع من الأصوليات المدمرة. لم يكن أسامة بن لادن في السعودية »إرهابياً«. صار إرهابياً في أفغانستان، وتحت الرعاية الأميركية. كذلك الشبان الذين شاركوا في عمليات 11 أيلول. لقد تربّوا في جامعات أميركية، أو في أفغانستان، مع أسامة بن لادن، وفي ظل المخابرات الأميركية.
؟ وتدخل بعض المشاركين في العشاء مشيراً إلى جولة ولي العهد السعودي في بعض أحياء مدينة الرياض، وكشفه عن مدى البؤس الذي يعيشه بعض سكان العاصمة، متسائلاً: أين تذهب الثروة الهائلة؟ وكيف يمكن أن تكون في عاصمة هذه المملكة المن ذهب »أحزمة بؤس«؟ وماذا عن الجهات والمناطق الأخرى، إن هذا الواقع يعطي الأميركيين حجة إضافية، ويمكِّن الرئيس الأميركي جورج بوش أن يسأل بعض أصدقاء المملكة عن حجم الإنفاق الهائل الذي تكبدته الخزينة على شهري الاستشفاء والنقاهة، ما بين جنيف وماربيا، في الصيف الماضي..
؟ قال السعودي الحكيم: تذكر الحيسوب جورج بوش هذا المبلغ ولكنه نسي أو تناسى عشرات المليارات من الدولارات المجمدة أو المحجوزة في البنوك الأميركية، لرعايا سعوديين ولمؤسسات وشركات سعودية، وليس لأفراد الأسرة الحاكمة فقط!
طال الحديث بعد ذلك وتشعب، لكن الأسئلة ظلت تحوم فوق رؤوسنا دون جواب: هل الإنسان العربي فاقد الأهلية لأن يعيش في هذا العصر، أم أن العيب في حكّامه فقط؟! ولماذا لا يخلع هؤلاء الحكام.. هل فقد القدرة، أم أنه تعوّد على الإذلال، أم هو لا يعرف معنى الديموقراطية ولا يريدها؟! وإذا كان الإنسان العربي سوياً فمتى كانت لحظة الانهيار الذي ولّد كل هذه الكوارث وما زال يهددنا بالمزيد؟! هل كانت في 5 حزيران 1967 أم قبل ذلك أم بعد ذلك؟ وهل صدام حسين ابن شرعي لهذا النظام العربي أم لا؟! ألم يساعده الجميع، وبالذات الإدارة الأميركية، في الاستيلاء على السلطة، ثم خصوصاً في حربه الطويلة ضد الثورة الإسلامية في إيران؟ ألم يشجعه الأميركيون على غزو الكويت؟! ألم يدفع السعوديون والكويتيون وسائر الخليجيين المليارات هبات وأسلحة وذخائر لحربه ضد إيران؟!
ثم: من بعد العراق؟! على من يكون الدور؟! هل سيقبل الأميركيون الذين رفضوا أن يعطوا أي نظام عربي مرتبة الحليف أو الشريك، أن تستمر هذه الأنظمة التي لا تختلف في جوهرها عن نظام صدام حسين، وإن كان يتفوّق عليها مجتمعة ببطشه وبدمويّته وبتصديقه أسطورة أنه »الملهم« وأن فيه شيئاً من صفات الألوهة، بمعنى أنه يرى نفسه فوق البشر، وأنه »مخلّد«، وأنه »معصوم«، وأنه »محصّن« ضد الموت وضد الخلع الخ؟!
؟؟ اعترف المصري أن الحكم في القاهرة ممنوع من لعب أي دور جدي، اللهم إلا حمل الإنذار بالتنحي وعرض »اللجوء المريح« على صدام حسين!
؟؟ واعترف السعودي بأن المملكة ترتعد خوفاً من احتمال تقسيم العراق، وأن الإدارة الأميركية تمتنع عن مجرد مناقشة أمر الخلف معها، وأنها تطالبها بما لا تطيق، ولا تملك في الوقت نفسه رفضه: فهي تريدها مجرد »هلال أحمر«، لتأمين اللاجئين ونقل الجرحى ودفن القتلى.. إضافة إلى دور حاملة الطائرات، ومنطلق بعض القوات الخاصة، و»المترجم« بينها وبين بعض العشائر العراقية!
؟؟ واشترك الأردني والبحريني والمصري والكويتي والسعودي في القول إن »نظامه« لا يخفي خوفه من التداعيات التي قد لا تتوقف عند حدود الكيانات، وأن كل »نظام« يخاف من الإدارة الأميركية (ومن إسرائيل) أكثر ممّا يخاف من شعبه. والمعضلة أن أي نظام عربي لا يستطيع بعد طول قطيعة أن يستدعي شعبه لنجدته.. وحتى لو أراد هذا الشعب أن ينجد حاكمه (برغم ظلمه ودكتاتوريته) فهو مكسور، لا يثق بقدرته على الفعل، ولا يثق طبعاً بحاكمه، بل لعله يخاف من حاكمه أكثر من خوفه من الجنون الأميركي. فحاكمه عدوه الشخصي فضلاً عن أنه »مضيّع بلاده«. أميركا وإسرائيل في البعيد، لا يعرفونه، هو المواطن، ويتعاملون مع البلاد بالجملة، أما »الأمن« فيتعاطى مع الشعب كأفراد، واحداً واحداً،
ولا يغفر أو ينسى أو يرمي السجلات القديمة ليبدأ صفحة جديدة!
؟؟ قال القادم من البحرين: لماذا نخادع أنفسنا؟ إن الحكام العرب يمسكون بأنفاس مواطنيهم، ويقرّرون أمر موتهم أو حياتهم. إن أقصى ما قد نستطيعه هو التظاهر. حتى هذا غدا مطلباً عزيزاً، فلا قائد ولا قيادة موثوقة، ثم أنه لا أفق للتظاهر في غياب برنامج وخطة عمل وتنظيم. وعلى سبيل المثال، لا الحصر، فإن أمر إطلاق تظاهرة شاملة في البحرين كان موضع خلاف »شعبي«. كان لشيعة البحرين رأي حاد في »صدام« جعلهم أسرى أحقادهم على ما أصاب شيعة العراق على يديه. وكان صعباً عليهم نسيان أو تناسي حرب الإبادة التي شنها على الأهالي في البصرة وكربلاء والنجف وسائر المدن والقصبات في جنوب العراق. وبالكاد أمكن إقناعهم بتقديم موقفهم الوطني والقومي من العدوان الأميركي على الرغبة في الانتقام من »أبي عدي السفاح«.
لم يجرّب أي واحد بين المشاركين في »العشاء الحربي« أن يدافع عن نظام الحكم في بلده باعتباره »النموذج« المؤهل لقيادة الوطن والأمة إلى النصر، أو لتفادي الهزيمة.
لم يكونوا مجموعة من الثوار أو المعارضين أو المحايدين من دافني أنفسهم في أعمالهم والرزق. لكن الوضع أخطر من أن يمكن التعامل معه بادعاء قدرة مزعومة، أو أهلية عفية على المقاومة، بينما الأساطيل تمخر السموات والأرضين من دون إذن، ومن دون مجاملة: تأمر الإدارة الأميركية فيذعنون، ولا مجال للنقاش أو المراجعة.
وكان محتماً عليهم أن يتوقفوا أمام مفارقة لافتة: لماذا تبدّت »أوروبا القديمة« أعظم شجاعة وحضوراً في التصدي للحليف التاريخي، من أصحاب القضية؟ لماذا تبدّى الفرنسي، المستعمر القديم، أكثر عروبة من معظم العرب، ولماذا تبدّى البابا والفاتيكان أعظم حرصاً على الإسلام من معظم المسلمين؟!
كذلك كان محتماً عليهم أن يقارنوا بين الموقف الشجاع للرئيس السوري بشار الأسد في القمة، والموقف الاستثنائي في شجاعته في مجلس الأمن، الذي اتخذه وزير خارجيته فاروق الشرع، معيداً طرح الموضوع الأصلي (الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين والمذابح اليومية التي ترتكبها حكومة شارون ضد الفلسطينيين، ثم الترسانة النووية الإسرائيلية وأسلحة الدمار الشامل التي تخزّنها مهددة بها حياة الشعوب العربية كافة)… وبين مواقف حكوماتهم التي تبتلع مواقفها وأصواتها ولا تجرؤ على الإشارة إلى إسرائيل السفاح شارون بكلمة، فضلاً عن مواقفها المتذبذبة تجاه الحرب الأميركية على العراق والتي لا يمكن توصيفها بغير التواطؤ… فالخوف ليس تبريراً للخيانة؟!
… وانتهى العشاء وقد تزايدت في رؤوسنا أسباب القلق والخوف على المصير.
ليس عند عربي ما يطمئن عربياً.
ليس عند عربي ما يعزّز في العربي الآخر شعوره بالأهلية والقدرة.
وهذه ذروة المأساة التي لن تكون الحرب الأميركية على العراق غير مقدمة لها.