تنهض البصرة من حلمك.. في انتظار الطوفان!
كمن يتسلل إلى مخدع العاشقة عبر جدائلها، تاركاً لهدير التحاضن بين دجلة والفرات أن يغطي على نبضات قلبه المتسارعة بوجيبها المدوي، هكذا دخلنا البصرة، أول مرة.
لم نكن بحاجة إلى دليل. كان ديوان الشعر العربي بالغ الدقة في تحديد الشخصيات والأماكن، العواطف والمطامح، وما غاب عنه فهو حاضر في ألف ليلة وليلة وذلك المرفأ الصغير باب الدنيا ومحرابها.
تكتسي الأسطورة لحمها، ويخطر أبطالها أمامك في الأحياء العتيقة التي انغلقت بيوتها على أسرارها المختزنة، وتلوح أطياف الرجال والنساء الذين واللواتي يستوطنون وجداننا.
لا مفاجآت إلا في أن المدينة أجمل مما تخيلت، تنهض من حلمك وتأخذ بيدك إلى مكامن سحرها حيث تمتزج أهمية الموقع الجغرافي بمجد الدور التاريخي، ليكون شطاً آخر للعرب أغزر عطاءً من اجتماع الرافدين.
يخرج الرجال من أسمائهم التي لم يقربها الموت، خلفاء وولاة وقضاة وشهداء وفقهاء، تخرج »الحرائر« من خدورهن، تحف بمواكبهن الجواري ويسعى بين أيديهن الغلمان، ويتبارى من أجلهن الفرسان، ويتهاطل الشعر مطرا معطرا فتسري النشوة في الدروب الملتفة من حول الدور ودواوين الحكم، ثم تنساب الى مياه الخليج حيث تحملها المراكب الى جزر العمالقة والأقزام على تخوم الخيال الذي كان مؤهلاً لأن يخلط بين الحقائق السياسية للفتح الذي تصاغرت أمامه أمداء الدنيا الواسعة، وبين الحكايات المنسوجة على منوال الخرافة التي قد تتحول في أي لحظة الى واقع.
صرة الدنيا، ومهجع أسطورة الخلق وقد فاضت من »القرنة« حيث شجرة آدم، تروي بأغصانها المرتفعة كما أذرعة الابتهال، قصة »التمرد« المفرد، فتأخذ الناس إلى الإيمان الجماعي.
ماذا يعني الشعر للسفاح المحصن خلف البعد والجهل والآلة الصماء التي لا تحمل بصمة الأطفال؟!
ماذا يعني لهؤلاء القتلة البلا عيون »الناس«، البشر، الأطفال والنساء والشيوخ، المحبون الذائبون شوقاً، والعاشقات الهائمات على وجوههن في الطرقات تلمساً لأثر أو سعياً وراء همسة واعدة أو لفتة حارقة تجدد فيها الأمل بعش هانئ تتوفر فيه وجبة عشاء ساخنة وسرير يتسع لفراشتين؟
ماذا يعني لهم عبق التاريخ، والبيوت المضمخة بأنفاس الذين أعطوا الإنسانية علمهم وجهدهم فأسهموا في حركة الاندفاع الى الأمام، الى غد يليق بكرامة البشر؟!
ان عدو الكاوبوي هو التاريخ.. تاريخه وتاريخ الآخرين، أفرادا وأمما..
ماذا يعني الأدب، الرواية، الشعر، القصة، الحكاية، لهذا الذي يضغط على أزرار الموت فيرسل الصواريخ والقذائف والقنابل لتحرق الورد والزهر والنخيل والمصانع والمزارع وتنشر أجداث الموتى وتقتل الأقلام والأفكار وأحلام الصبية البكر؟!
هي أهداف لا أكثر: البيوت والجوامع، المرفأ ومراكب الخير، مصفاة النفط والمدارس، القواميس وكتب الأطفال، المستشفيات وجدائل العذارى، شهريار وشهرزاد وقصصها التي لا تنتهي إلا بإماتة الموت؟!
وأنت على البُعد تمضغ عجزك وصور جنازتك، وتتفرج على اندثارك مدينة مدينة، قرية قرية، »دولة« »دولة«، حلماً حلماً، قلماً قلماً، فكرة فكرة، كتاباً كتاباً، ثم لا تجد ما يعزيك غير انتشار فضيحة مونيكا وغير اضطرار نتنياهو إلى الانتخابات المبكرة وغير الحرج الذي يعانيه طوني بلير مع شركائه الأوروبيين؟!
كان الرثاء وداعاً للأصحاب ورفاق العمر،.
صار الرثاء موجهاً للبلاد، للشعوب، للمدن والقصبات حيث ترعرع التاريخ واكتسب معناه من خلال البشر الذين اصطنعوه.
من خارج التاريخ يغتالون الآن التاريخ وشهوده، لتكون لهم الدنيا وليكونوا نقطة البداية فيها والمتحكمين بالوجهة والمعنى وحق الآخرين في الوجود، مجرد الوجود.
ليهنأ المتعبون بتاريخنا والثقافة الموروثة..
ها هم صناع القرن الحادي والعشرين يحذفوننا منه، بشرا وشعرا، ديناً ودنيا، آمالاً وأحلاماً، نخلاً وبيوتاً وطموحات بتجديد الدور بالعلم والمعرفة والتوغل في »المحرم« على من لا يملكون قوة الحماية لغدهم.
ها هم ينثرون الحزن العراقي الكثيف في الفضاء الفسيح، فيذهب العراق والحزن والنخيل والعرب العاربة والعرب المستعربة ولا يبقى إلا العرب البائدة وأساطيل الأميركان والإنكليز والإسرائيليين.
ليس العيب في الأمس. العيب في اليوم. وما لم تُسقط عيبك فسيتولى الغير إسقاطك ويبقيه ليعاقبك مرتين في غدك.
تتدفق المياه في شط العرب، بعد، تحاول أن تغسل الوصمة فلا تزول، فالخطأ طوفان أين منه طوفان نوح… ولا فلك للإنقاذ.
إلى أين يهرب من يحاصره الموت من داخله ومن خارجه ومن المسافة القاتلة بين داخله المتماهي مع الخارج؟!
لا النخيل يحمي الشط، ولا الشط يحمي النخيل، ولا التاريخ يحمي الجغرافيا، ولا الحكاية تحمي ناسها.
يتصدى الشعر للصاروخ فيتشظى غناءً عن ليلى التي في العراق مريضة، أو عن بغداد المهددة التي اصطنعت، ذات يوم، العالم، بالفناء، والتي نتبارى في رثائها وهي حية ولا نتقدم لإنقاذها قبل السقوط الأخير.
أما الناس فمقتولون من قبل هذه المقتلة.
كيف تكسر الحلقة الجهنمية، وبماذا، ومن أين، وبمن؟!
ما دامت الأجوبة غائبة فسيظل السؤال يفتك بنا ويلغينا بصرة بعد بصرة وعراقاً بعد عراق حتى يباد الشعر والغناء وتنفك عرى الوحدة بين النهرين اللذين تلاقيا فاندمجا بغير إذن.
لا شط للعرب، إذن فلينكص النهران على عقبيهما عائدين إلى منبعهما أو فليفِض ماؤهما على الدنيا ليعطيها الطوفان الجديد.
وذلك الطوفان ننتظر.
حسين الحلاق: لن يكتمل بعدك النصاب!
تهت عن بيتك يا »أبا علي«، ربما لأنني مصر على الاعتقاد بأن لك مكاناً في كل قلب، وبأنك لم تشعر في حياتك بالحاجة إلى »الخاص«: هذه أمتك كلها، وهذه أرضك منداحة ما بين المغرب واليمن، حيث نزلت فأنت بين أهلك، وحيثما حللت فهو وطنك، وكل تحرك في اتجاه المستقبل هو انتماء إلى ثورتك بقضاياها المقدسة المتعددة في وحدتها.
لكم كانت فسيحة الأرجاء »السلمية«، ولكم كانت بهية الطلعة وهي تمتد فتصير ضاحية لدمشق ذات الغوطتين، ومنتدى لبيروت التي تقوم بوابة لقاهرة المعز الناصري، وتصير غابة في أوراس جزائر الثورة، فإذا ما تمطت غسلت قدميها، عند الرباط، بمياه المحيط الأطلسي، ثم تلتف عبر اليمن المنتفض لاسترجاع سعادته طلباً للاكتمال في نابلس وجنين ورام الله والخليل وبيت لحم ويافا والناصرة وغزة ورفح وبيت المقدس الشريف.
حسين الحلاق… هل يتجرأ الموت؟!
ولكنك الحياة. ولكنك الفكرة. ولكنك الإيمان. ولكنك بعض المطلق.
باسمك نصف الشباب، ونمنح بعضه لمن نرى فيه شيئا منك: كالود الصافي، كالنخوة، كالاستعداد الدائم لافتداء القيم بالغالي والعزيز.
بعد غيابك سيصعب علينا التعرف إلى القاهرة التي كنت حارساً لنيلها تطمئن عليه آناء الليل وأطراف النهار، وناطقا باسم عروبتها التي طالما سعى الموهومون والمضللون الى طمسها بالفرعونية تارة وبالمتوسطية تارة أخرى، بالأفريقية مرة وبالإسلامية مرة، فاستعصت عليهم جميعاً.
لماذا سابقت »الموعد« حتى سبقته يا آخر الفرسان؟!
وأينك يا محمد الحبوبي لم تدفع عن شريك الدمعة والضحكة والرغيف والساحة والراية هذا الهجوم المباغت من جيوش الكآبة والخيبة واليأس من الاحتمال والتسليم أمام الصعوبة؟!
وما هي مهمة الفرسان غير مصادمة المستحيل حتى إسقاطه؟!
أليس كذلك يا رفيقة الزمن الجميل، يا شمعة الانتظار ووردة الأمل، ليلى فانوس؟!
حسين الحلاق… لقد خدعتنا: كنت الذي لا يمكن تصور غيابه، فكيف سيكتمل بعدك النصاب؟
سلاماً أيها الراحل الى أحلامك، بينما تطاردنا أحلامنا من خلفنا!
رمزي النجار يعيد »الله« إلى لبنان!
يكاد »الله« يكون يتيماً في لبنان.
فلكثرة ما يخترع اللبنانيون من »الآلهة« يكاد »الله« الحقيقي يكون بلا نصير.
وربما لهذا كتب رمزي النجار دعوة شخصية »كي يعود الله إلى لبنان«.
لم يتعب رمزي كثيرا لاكتشاف ان »الله« حتى في لبنان واحد، وإن كانت مؤسسة الطائفية تحاول أن تجعله »متعددا« وأن توزع على أتباع كل »مذهب« أو »طائفة« نسخة منقحة ومزيدة عن »الله« مختلفة عن تلك التي يتعبد لها »الآخرون«.
»الطائفية عدونا، وقد اخترت ان أواجهها من زاوية جديدة تختصر نفسها في هذا السؤال: لماذا يغيب الله عن لبنان، فلا نسمع عنه في تعليمنا الديني قدر ما نسمع عن طقوسه، وعن رجال لاهوته أو فقهه؟!… وكيف يعقل ان تغيب فكرة الله وتتلاشى ويستعاض عنها، كما في حربنا الأخيرة بنقيضها، حيث الصورة في ذهننا هي صورة للقديسة مريم تزين بندقية قناص، أو الله عز وجل في قرآنه الكريم يتلى على نصل سكين في يد جاهل، أدركه الإسلام وما فارقته الجاهلية«.
ولقد فاجأني رمزي النجار كاتبا، كما فاجأني موضوع اهتمامه، ومن ثم كتابه.
فرمزي النجار يعرفه الناس من خلال نجاحه في دنيا الاعلان أكثر مما يعرفونه كأستاذ جامعي، و»يستدرجونه« الى مجالسهم للاستمتاع بظرفه وطرافة تعليقاته وتورياته الفضّاحة لسرعة بديهته، وهو ما لا يعرفه عنه مثلا طلابه في كلية الإعلان بجامعة الألبا (البلمند) وهو في الأصل من مؤسسيها والآن عميد دائرة التسويق فيها.
رمزي النجار وضع إصبعه على مصدر تعدد »الآلهة« في لبنان، وعلى أحد أسباب »حروبهم« المتواصلة التي تلتهم اللبنانيين برغم انهم من أقل الشعوب تديناً في العالم، وأبرز دليل على »صحة« إيمانهم حروبُهم »الدينية« التي تكرر تفجرها على امتداد القرنين الماضيين لأغراض سياسية معروفة وبشعارات طائفية ملتبسة.
كذلك فإن كتابه »المتفجر« يعيد الى الذاكرة التجربة الشخصية لكل منا في كيف تعلم أو عرف عن دينه وممن وبأي قدر من الموضوعية، خصوصا إذا ما تم التنبه الى تعدد المدارس الطائفية، والى طبيعة المدرسين أو المربين فيها الذين لم يتصل بعلمهم ولا بعلم الفتية أن ثمة أدياناً أخرى، ولا هم قبلوا ببساطة مبدأ ان »يشركوا« الآخرين في إلههم او ان يكون للجميع »إله واحد« كما يدّعي كل على حدة، ثم يهرب بإلهه الخاص الى من لا يؤمن إلا به وحده بعيدا عن الآخرين.. ونكاية بالآخرين!
كتاب صغير مثقل بالقضية الكبيرة التي يطرحها والتي ستظهر رمزي النجار مؤمناً بين كفار أو كافراً بين مؤمنين، ولكن لكل منهم »إلهه« الذي اصطنعه بنفسه، فصار به خالقا وقد كان مخلوقا«!
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
لا يستأذنك الحب، ولا يواعدك في عنوان معروف، وفي ساعة معلومة. أجمل ما فيه أنه يجتاحك بغير سابق إنذار… وأبهج ما فيه أنه يداهمك بينما أنت تكاد تضيق ذرعاً بجفاف أيامك، وتكاد تيأس من ذاتك، فيمنحك القدرة على إعادة صياغة حياتك، فيصير يومك عمراً، وتستعيد الإحساس بجدوى أن تعيش.
إن في الحب من صفات الخالق: فهو يحول الزمن المهدور إلى حياة.