ذات يوم وحدوي في دمشق 1958 ..
طلال سلمان
الحلم أقوى من الهزيمة. قد يسقط صاحبه دونه، لكن الحلم يلتحف النجمة ويتدثر بالشمس ويظل حافزاً من أجل النهوض. لا يكتمل الإنسان إلا بأحلامه، والعيش خارج الحلم اندثار في الصقيع.
أعظم الشعوب تلك التي تحمي أحلامها، وتواصل العمل لتحقيقها مهما قست عليها الظروف لأن الأحلام تجسيد للخلاص.
والحلم يتجاوز الجيل إلى مَن بعده وينتصب أمامه راية ويفرض نفسه عليه كتحدٍّ لا مجال للتنصل منه إلا بوأد الأطفال الآتين من الصعب إلى الأصعب.
قبل أربعين سنة تماماً امتطى الإنسان العربي أحلامه واخترق المستحيل فقامت أول دولة للوحدة العربية في التاريخ.
فاض الشارع بالناس البسطاء، وانحطمت قواعد السياسات الدولية وتوازناتها، وسرى التيار منعشاً، مزهراً، واعداً بالثمر الشهي بين أدنى الأرض وأقصاها، وزادت البهجة عن حاجة الفرد إليها فنثرها على المجموع.
لم تكن الوحدة اندفاعة عاطفية جامحة. كانت وعداً بالحياة الأفضل: وعداً بالخبز مع الكرامة، بالعلم والتقدم مع العدالة، بالقوة في مواجهة العدو، والديموقراطية مع حماة الأحلام والذين ألغوا أنفسهم ليحققوها.
* * *
حين اتخذنا طريقنا إلى دمشق لمعانقة الحلم كنا نستشعر الزهو كمن يشق طريقه في قلب التاريخ إلى موعده مع القدر.
انطلقنا مجموعة صغيرة من بيروت، لكننا ما أن تجاوزنا الفياضية حتى غدونا نقطة في بحر الموكب المتحرّك صعوداً مع الطريق المتعرجة التي أخذت تضيق بالسيارات، كبيرة وصغيرة، عامة وخاصة، وبالشاحنات لمن تعذر عليهم إيجاد وسائط نقل أخرى.
كنا نعوم في الفرح.. الابتسامات تنفرش بامتداد سهل البقاع، وليس بين الحشد عابس أو متجهم… والسائقون يتوقفون لالتقاط مَن لم يجد سيارة، أو عزّت عليه أجرتها.
طوفان من البشر، والأفق يضج بالأهازيج، الفتية بثياب العيد، والفتيات مضرّجات الخدود بخفرة الذاهبة إلى عرسها، والرجال يلوّحون للرجال بسواعد القدرة على الإنجاز وزغاريد النساء تستدعي المجد التليد من غفوته لتعرّفه إلى أبنائهن الآتين للإكمال.
كانت تلك أول مرة أتعرّف فيها إلى الآلاف، عشرات الآلاف، وربما مئات الآلاف.
وحين بلغنا دمشق لم نرَ من معالمها إلا تلك التي لا يستطيع تسلّقها أو الاستقرار فوقها إنسان: الطرقات بشر، الشوارع بشر، الشجر بشر، السطوح بشر. للحجر والإسمنت والطين ملامح الناس.
تركنا السيارة في البعيد، وغرقنا في المحيط الهادر الذي لا تتبيّن له بداية أو نهاية، خصوصاً أنه يلتف مع المنعطفات، ويسلك الدروب والطرقات الفرعية، ويطل من الأبواب والشبابيك حيث تزهر العيون أو يشف أصحابها الوجد فتترطب بدموع النشوة.
بعد دهر بلغنا مشارف قصر الضيافة. لم يكن قد تبقّى للنفر المعدود من الحرس ذي القبعات الحمراء مكان، فانحشروا داخل الطوفان الملزم نفسه بعدم تخطي الحدود، وبين البوابة الحديدية الهشة، ذات القضبان السوداء.
كل الرؤوس إلى فوق. وكل العيون معلّقة بتلك الشرفة الممتدة بامتداد المبنى الذي أسموه مجازاً القصر، أو ربما لأنه لا بد من أن يكبر ليليق بساكنه.
الصدق كشعاع الشمس يغمر الناس والأرض. لا ادعاءات ولا شعارات كاذبة. الهتاف ينطلق من الصدور كما النَفَس. كأنما يطلقه صاحبه لنفسه، كأنما ليمحو صفحات من ماضي التخلف والضعف والهوان. كأنما ليقول: ها أنذا قد حضرت.
على الأرصفة، وحسب مواعيد الوصول، ثمة »بيوت« مؤقتة: حصيرة هنا، سجادة هنا، بساط تتكدس عليه بضع نساء، والمخدات تكشف »غرف النوم« المبتدعة في الهواء الطلق، و»بوابير الكاز« تحدد المطاعم التي تؤمن وجبات سريعة للآتين من البعيد، والذين لا يتنازلون عن »موقعهم« بأي ثمن، ويصلون الليل بالنهار ليعودوا بمزيد من الحكايات والذكريات والمعنويات والزخم إلى قومهم يبلغونهم أن المسيرة إلى تقدم وأنهم قد أمضوا الليل يسامرون »البطل«… لا يكفي النهار، في الليل تغدو الأمور طبيعية أكثر، ولا بد من التملي وإشباع العين المشوقة إلى طلته. لا بد من إغناء الذاكرة بالتفاصيل لروايتها وإعادة روايتها للذين لم يتمكنوا من القدوم. لا بد من حفظ الخطبة، بكل ما تتضمنه من نكات وسكنات وانعكاسات للمعاني على ملامح الوجه: الابتسامات، حالات العبوس، الغضب، العزم، الرضى، حب الناس وهذه القدرة المذهلة على اختطاف الكلمات من أفواههم، من أذهانهم، والتفوّه بها قبل أن يتكامل معناها في أذهانهم.
ينفتح باب الشرفة، يطل المرافق، تهدر الصيحات والهتافات، تلوح القبضات بالكوفيات، بالمناديل، بالصحف، بأغصان الشجر… حتى إذا أطل وجه »البطل« رجعت الأودية دوي الفرح المنتشي بالفخر، وتعملقت الصورة فملأت الأفق. كان الكل يعطيه ذاته ثم يستعيدها وقد كبُرت به. لكأنما ينثر النعمى عليهم فيسعدون ويعرضون عليه أبناءهم وأعمارهم وما ملكت أيمانهم. إنه هم. إنه جميعهم. هم فيه، هم له، وهو منهم، هو الأب، الأخ، العم، الجد، الخال، الحبيب، الصديق، الملهم، المحرّض، المعبِّئ، القائد، القادر، المعافى، الخارج من الحلم، أو أنه الحلم متجسداً. لولا عمق الإيمان لحوّلوا إليه أسماء الله الحسنى جميعاً… مع أنه لدى بعضهم مجرد تجسيد للإرادة الإلهية.
يرفع يديه، وتشق ابتسامته المضيئة سمرة الوجه الصعيدي الطيب الملامح. يحتوي الناس بعينيه، ويطمئن الناس إلى أنهم قد استقروا فيهما بقدر ما هو مستقر في عيونهم. ينسى الناس أن يتنفسوا. إنهم يريدون أن يقولوا ما تختزنه الصدور منذ أجيال. لكنهم يريدون، أيضا، أن يسمعوا ما يفتح الطريق لأجيال مقبلة. إنهم يريدون أن يلمسوا الحلم وأن يعانقوه. أن يحتضنوه، وأن يأخذوا منه مدداً لأيامهم، لمعاركهم الآتية. ما أعظم ما تزخر به صدورهم الآن من آمال. ليست العاطفة وحدها. إنهم هنا لتأكيد القدرة. إنهم جاؤوا ليقولوا: ها نحن ذا، لم نأت للفرجة أو للهتاف. جنوداً جئنا، نتشوّق لأن نخوض المعارك المرجأة. نريد أن نبني حياتنا بأيدينا، أن نستعيد قرارنا الذي كان مصادراً. لقد استعدنا الوعي وعادت إلينا الروح. كنا ننتظر قائدنا وها هو معنا، فلنتقدم في اتجاه أحلامنا.
ما أوسع الحلم. إنه يستبطن الملايين، بينما هم يسكنونه.
لكنها لحظة الامتزاج العبقري بين الحلم والواقع… وقد ضاعت بينهما الحدود.
ما أوسع مساحة الحلم.. وما أبهى حقيقته التي تمشي هنا على قدمين.
الكل هنا، لا حواجز ولا فروق. المصري، السوري، الفلسطيني، العراقي، الأردني، اللبناني.. الدمشقي، الحلبي، الحمصي، اللاذقاني، البوكمالي، البقاعي، الجنوبي، الشمالي، الجبلي، البيروتي. المثقف، العامل، الفلاح، الموظف. الرجل، المرأة، الفتى والشيخ. الأمي، المتعلِّم. الطبيب، المهندس، العالِم، المحامي. الكتف إلى الكتف، وفي الهتاف مساحة واسعة للتلاقي.
تتقارب الأحلام حتى التوحد. الوحدة هي المستقبل. هي أمل الغد الأفضل. هي التعب والجهد والعرق. هي التقدم والرخاء. هي التصنيع وواجهة الذات من أجل تخطي التخلف.
الوحدة هي الناس، مطامحهم وخبزهم. ليست وهماً، ولا هي خرافة.
الوحدة أعادت خلق جمال عبد الناصر، ولم يخلقها هو، حتى وهي تعطيه اسمها وتأتمنه على شرفها.
* * *
في طريق العودة إلى بيروت كان يداخل الزهو شيء من الحيرة والقلق.
وكانت السيارة بطيئة الحركة، ربما لشدة ما أثقلت عليها الأسئلة التي استولدها الفرح ذاته.
الكل هنا… يتلاقون لأول مرة، يتعارفون. يستوثقون من كثرة أعدادهم، ومن قدراتهم. وكلما نظر بعضهم إلى بعض ازدادوا إيماناً بحقهم وثقة بقوتهم. لقد اجتمعوا من حوله واجتمعوا فيه. اكتشفوا كم يتشابهون، وكم تتقارب أحلامهم حتى لتتطابق. ألغى الشوق إلى الغد العفي ضيقهم بالواقع المرضي الذي يعيشون في قلبه ممزقين بضعفهم، ضعفاء بفرقتهم، وعاجزين بسبب ضياعهم عن أهدافهم.
الوحدة هنا. فلسطين هنا. الحرية والتحرر. المشرق والمغرب، الجزيرة والخليج. اليمن وعُمان. تشمخ الوحدة من فوق العروش والتيجان والكيانات التي رُسمت بأقلام المحتلين.
لماذا كان سهلاً التقسيم والتفتيت والتهشيم والاحتلال وإقامة الكيانات، ووحدها الوحدة هي الصعوبة إلى حد الاستحالة؟!
الوحدة هنا. فلنتعارف إذاً.
العاطفة جامحة. لا مجال لتعرّف واحدنا على الآخر. تكفي البديهيات. كلنا عرب. كلنا نطمح إلى العدل والحرية. كلنا مع تحرير فلسطين واقتلاع الشر الإسرائيلي. كلنا إخوة، ولأننا قد اجتمعنا أخيراً وتوحّدت كلمتنا فالإنجاز حتمي. كلنا وحدويون. الغني والفقر، التاجر والملاك الكبير، الإقطاعي والأجير، العسكري وأستاذ الجامعة.
الوحدة شمس ستنير طريقنا. الوحدة علاج لجميع أمراضنا. في ظل الوحدة ستتهاوى خلافاتنا جميعاً.
العيون مفتوحة على الحلم. ترى ما يتخطى الواقع ولكنها تقفز من فوق الواقع فلا تراه.
الانبهار هو السيد، والأسئلة معلقة في الفضاء، والفرح طاغٍ بعد دهور الأحزان، لا أحد يريد أن يفكر. ليذهب العقل في إجازة الآن. سنفكر غداً. مَن نجح في تحقيق ما كان في مستوى المستحيل لن يعجز عن حل المشكلات الطبيعية والتي يعاني منها أي مجتمع متخلف.
السؤال خطيئة، أو إهانة شخصية..
حتى حين يطرح »هو« الأسئلة الصعبة، يزيحها السامع من حول أذنيه وكأنها »دبور«، أو ذبابة شتوية.
الأسئلة تذهب بالاحتفال وتنغص لحظة الهناءة التي انبثقت أخيراً من ليل الفرقة والتباعد والهوان وافتقاد الهوية.
غداً يجد لنا الحلول لكل ذلك. لقد أوكلنا إليه كل أمورنا، فليتصرف. إنه القادر، الناصر، الظافر، والذي يستطيع اجتراح الحلول للصعب.
لقد ألقينا عليه ما يتعبنا، وفوّضناه، وله القرار.
* * *
لا تدخل »كان« على الحلم.
لا يقبل الحلم صيغة الماضي.
الحلم هو الحلم. يبتعد حين يصغر الإنسان ويضعف ويشغل نفسه عن تحقيق ذاته بتحقيق أغراضه الصغيرة.
يحتاج الحلم رجالاً كباراً.
مَن أحس أنه أصغر من الحلم يهرب إلى الواقع فيندثر فيه.
في عيد الحلم تحية لصانعه: الإنسان العربي.
في الذكرى الأربعين لقيام الوحدة العربية، تحية لبطلها الغائب الحاضر الذي أحببناه وآمنّا بإخلاصه فاخترناه وأردناه قائداً فكان: جمال عبد الناصر.
»هدى« بين المتبتلين »نجيب« و»سعيد«
عرفت نجيب جمال الدين قبل »البعلبكية« محامياً »يغوى« الشعر، وعرفته بعد »البعلبكية« شاعرا لا »يهوى« في قصر العدل إلا إنقاذ القضاء من أن يحكم بالإعدام على بريء. أما في »البعلبكية« ذاتها فقد اختلطت عليَّ صورة العابد والمعبود، عاشق الحياة والمعشوقة الخارجة من مكمن الموت والداخلة إليه بانطلاق الذاهب إلى نزهة، فإذا نجيب جمال الدين هو هو ذلك الطفل الضخم لعظيم ما يختزن من عواطف ودموع وقنوط.
مع كل سطر من شعره الغزلي كان يلح عليَّ شعر غيره الذي أحب في القنوط وفي التمني.
ومع إعصار عشقه الإيماني الأعظم للإمام علي بن أبي طالب كانت تتكامل صورة هذا الصوفي الذي اختار كيف يوجِّه عشقه، وهذا المحب الولهان الذي عرف كيف ينثر تمنيه طوفاناً من الرقة المتفجرة شعراً.
قال لي وهو يقدم لي ملحمته الجديدة عن بطله المثل: سأهديك، مرة أخرى، ديواني السابق »هدى قصائد بامرأة حقيقية«.
ولأن »هدى« لا تُنسى ولا ينطوي عليها كتاب، فقد انصرفت الى الديوان الذي تبارى فيه الناثر سعيد عقل مع الشاعر نجيب جمال الدين، فتلاقى المتبتلان أو المبتليان أو القانطان، أو المتمنيان أو المتبتلان وان اختلفا في القول، فظل أولهما »نجيباً« وظل الثاني »سعيداً«.
هنا سأكتفي بالاستشهادات التي اختارها سعيد من نجيب لأن كليهما فيها الى جانب طيف هدى، من أمامها، من خلفها، ومن حولها:
»كأنها ترسم الأشياء غافية
وتفضح الغيب مهما غاب، عيناها
واللفظ رق فباح الورد في خضر
والناي غص بآهٍ تسحب الآها
… تآله الحزن فلنغسل مشاعرنا
هنا نتوب، هنا نستغفر اللهَ
……….
وكم أطلتُ وقوفي عند دارتها
حتى كأني بباب البيت بوابُ!
…..
فسافري بي إلى، أو لا، »بدون إلى«
أنّى ترحّلتِ يرحلْ خلفك السفر..«
تهويمات
} قالت »القطة« لزوجها هو يتأمل بوَلَهٍ جسد »الأفعى« وهي تتلوى راقصة على المسرح أمامه: كلكم تفضلون »المشاع« على »الخاص«! كلكم تصيرون »رجالاً« حيث »الأنوثة« مجانية ووهمية. احفظ من نفسك ما يحفظ لك مكانك في ما تبقى من الليل!
وحين داعبت »الأفعى« الرجل الآخر على الطاولة بعصاها، التفت الزوج إلى »قطته« وهو يقول: لم ينل إلا العصا، ولن أنال إلا العصا، فأين النساء!
} صدح المغني: يا ليل،
تنهدت من على البُعد: يا عيني،
صدح المغني: يا حبيبي،
لم تجد تنهيدة أخرى فبكت فسكت المغني، وسمع الناس جميعاً الحب صريحاً، نقياً، عفياً فصاحوا جميعاً: آه، يا روحي! وانفتح باب الليل لتهطل النشوة مطراً أحمر كوجنتيها!
} انتهى زمن العتاب، فعلا صراخ النهاية.
ونجا الحب بنفسه، فخرج ولم يعد.
} قالت: جعلتني جميلة.. تغزَّل بي زملائي اليوم، لأول مرة. لكأنما فتح حبك عيونهم. يقولون إن المحب أعمى. الأعمى هو مَن لم يحب بعد.
} ثقيل هو الصمت. حين تخرجين من الوقت يصبح لزجاً، ويحاصرني الإحساس بالفراغ فأذهب كالمنوَّم إلى الخطأ، وأغدو خارج دورة الزمان حتى حين يمتلئ بي المكان.
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
يمنحني الحب القدرة على الإنجاز. في طريق العودة إلى حبيبي أحب أن تمتلئ يداي بما يفرحه. أحس بأني مطالب بأن أتقدم خطوة، بأن أحقق أمراً، بأن أؤكد له قدرتي على تعجيل ما كان مرجأً. ليس الحب مطارحات غرام. الحب امتلاء بالحياة وإغناء للحياة بالأجمل والأمتع. أعطتك الحياة ما تتمنى فأعطها ما يجعلها دائماً ممتعة. تقدم خطوة صغيرة كل يوم. ولكن إياك والتوقف بحجة انشغالك بالحب.
الحب الحياة، هو فيها، داخلها، وهي فيه. والخارج خارج.