طلال سلمان
الة لمؤتمر »القومية« وجمعية شرعية للتطبيع.. وللنيل ضفتان!
المؤتمر القومي العربي الثامن في القاهرة؟!
لا مجال للتردد، إذن. لا بد من أن تشهد »ليلة الوداع« ولو طال السهر، وسألك قلبك »إيه الخبر«.. وأجبته بلسان عبد الوهاب: »قلت الحبايب هجروني«!
يحزم الفضول حقائبك، وتخبئ في قعرها الشوق خوفاً عليه، ثم تمتطي ذكرياتك، وأنت مدرك أنك ربما كنت ذاهباً للتخفف منها، وربما كانت رحلتك الأخيرة بصحبتها.
المطار هو المطار، قوائم المنع مرفوعة، وتستطيع أن تعتبر اللافتة المرفوعة على مدخله وكأنها تحية موجهة إليك: »ادخلوها بسلام آمنين«… لكن »الآخرين« الذين لا يعرفون العربية يدخلون آمنين أيضاً. لا حد يفصل الآن الحلال عن الحرام.
تصل طائرة »القومية« بعد طائرة »العال«. يتسع المطار لكل الآتين، والقاهرة واثقة من أنها أكبر من أن يحتويها أحد.
الانكسار هو السيد. يستقبل المنكسرون المنكسرين. لا أوهام. الكل ضيوف على المرحلة. الماضي يستقبل الماضي. الحاضر خارجهم والمستقبل يصنَّع في البعيد ويستورد جاهزاً.
كيف نصل حديثاً انقطع قبل ثلاثين سنة وانتفى موضوعه؟!
يأخذ السبعينيون بأيدي الثمانينيين، ويتباهى الستينيون بشبابهم.
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل!
النيل صامت كعادته، مهيب كعادته، أسمر كعادته، لكن غلالة من القتامة تغلف الأمكنة والناس. لعلها رياح الخماسين. لعلها جراح مذبحة الأقصر.
الحركة في الفندق بطيئة، متراخية، والرطانة لا تحتل مساحات الفراغ في الأبهاء الفسيحة والمقاهي المعدودة الزبائن والدكاكين الأنيقة التي يقف أصحابها على أبوابها يحدقون في وجوه المارة لعلهم يلمحون أولئك الذين يجيئون لشراء أثر من نفرتيتي أو لمحة من توت عنخ آمون أو نقش من العهد الفاطمي.
رجال الشرطة، بالملابس الرسمية أو »المدنية« لا يجدون من يتابعون، فهذا الطابور من الشيوخ المثقلين بالخيبة والأمراض ومرارة التذكر لا يشكلون خطراً على أحد،.. ولا وقت للإشفاق عليهم، كما لاوقت للمحاسبة على ما كان.
* * *
حفل الاستقبال في قاعة »جوهرة النيل«. لا تمتلئ القاعة بالمدعوين. عندما يغيب »الرسميون« في مدينة كالقاهرة تتسع مساحات الفراغ.
مع الصباح يلتئم المؤتمر في قاعة »ألف ليلة وليلة«. يا زمان الوصل في الأندلس!
القاعة أكثر اتساعاً من أن يملأها »القوميون«؟!
المؤتمر القومي العربي جزيرة في قلب قاعة في قلب فندق على ضفة النيل، يتكئ على »الجامعة العربية« التي تكافح لأن تبقى جزيرة، وعلى الضفة الأخرى »برج القاهرة« الذي صار استثماراً مجزياً لانفتاحي وافد، ودار الأوبرا التي بناها اليابانيون لا تحجب المقر القديم »لمجلس قيادة الثورة« الذي يحولونه الآن إلى متحف.
الثورة إلى جانب القومية في المتحف، والجامعة العربية تكافح لتبقى خارجه.
القاهرة مكان الآن وليست الزمان!
المقر أهم من القرار.
الفرحة بالوجود في القاهرة مبتورة. هل عاد الابن الضال إلى بيته، أم عاد البيت الضال إلى أهله؟! التلاقي مفرح. لكن العودة مرجأة.
لعلها لحظة لمساءلة النفس، لمحاسبة النفس، بدلاً من الاستمرار في إلقاء اللوم على الآخرين في الداخل، وعلى الخارج، الحليف والخصم، دائماً.
لكن أحداً ممن لم يحاسبوا أنفسهم في الماضي لا يريد أن يحاسبه الناس الآن وإن كان لا بد من حساب فعلى الذين »رحلوا« أن يدفعوه. ولأن القائد الراحل معصوم فالحساب مطلوب من رفاقه… وهم لم يكونوا إلا معاونين.
يعرف الكل أن التجربة، على فرادتها وعلى عظمة ما أنجزت قد انتكست وغارت في قلب الهزيمة. لكن أحداً لا يريد أن يتحمّل نصيبه من المسؤولية عما كان. له سهم في الإنجاز، أما في الفشل فالمسؤولية ضائعة، يذبها عنه وكأنها حشرة سامة.
لكأنما يقف هؤلاء القوم في قلب الأمس، ولكنهم لا يترددون في الحديث عن الغد وكأنهم بين صناعه. الغد؟! ما أكثر ما يخيف!
يقول قائلهم: لكأننا آخر الصنف. آخر القوميين! أيمكن أن يكون هذا؟! هل القومية شيء من الماضي؟!
يتظرّف أحدهم: لكأننا أرامل مرحلة انصرمت. انظروا إلى أنفسكم! إن أصغرنا في الستين، وهو من أتباعنا وليس من قياداتنا. كيف يستشرف المستقبل من يتوكأ على التسعين؟! صلعاتنا وحدها ما يلمع فينا! ونكاد نحسد مَن احتفظ بشيء من الشعر على قمة رأسه ولو كان بيدراً من الثلج!
* * *
القاهرة مكان، أما زمانها فمختلف.
المؤتمر هنا، ونتنياهو في القصر، على بُعد ميل فقط. وهناك الصحافة والتلفزيون والأقمار الصناعية، والقرار. هنا، لا خبر، إلا في بعض صحف المعارضة التي يصدرها أيضاً بعض الحرس القديم.
المؤتمر هنا، وغير بعيد من هنا يتلاقى جماعة التطبيع ويؤكدون وجودهم »الشرعي« الآن. لقد نالوا الترخيص، والجمعية التي ولدت سفاحاً في كوبنهاغن، أو هكذا بدا للوهلة الأولى، هي الآن »جمعية« تعترف بها السلطة، ويشارك بعض »الموظفين« في أنشطتها، والناطق باسمها يقول إن ثلاثماية طلب انتساب تنتظر البت. ويكتب في العمود اليومي الذي كوفئ به أنه سيخترق إسرائيل من داخلها وسيقاتل مع »قوى السلام« داخل مجتمعها. يفترض أنه سيقسم الإسرائيليين وينسى أنه قد قسم المصريين..
يقول لي الصديق الذي استمر صلباً في مواقفه:
لم أعد أذهب إلى الصحيفة التي أعطيتها عمري. صرت أبعث بمقالتي على الفاكس من منزلي. وغالباً ما تهمل فلا تنشر، يمنعها التطبيعيون!
ويقول لي صديق آخر من الذين ما زالوا يقاومون:
لقد اخترق الإسرائيليون مصر بأكثر مما نتصور وتتصوّرون. إنهم في بعض الجامعات وفي مراكز الأبحاث.. في البداية كانوا يدخلون بشيء من التمويه، عبر الأميركيين أو بعض الجنسيات الأوروبية. الآن يدخلون بأسمائهم وهوياتهم الصريحة. وهم يدفعون بسخاء مستغلين حاجة الافراد او بعض المؤسسات. المهم أن يخترقوا، وهم الى حد ما قد نجحوا.
ويقول لي صديق ثالث، وهو صحافي من قلاع مقاومة التطبيع:
قبل أيام، قصدت الأرشيف في صحيفتي لمراجعة موضوع ما. ولم أنتبه بداية إلى وجود ضيف لدى مدير الأرشيف، حتى جاءني مسلماً. ولاحظت أنه يتكلم الفصحى فسألته إن كان مستشرقاً، ولكنه رد ببساطة: بل أنا مسؤول مركز الأبحاث في السفارة الإسرائيلية.
أما خارج مجال الصحافة والاعلام والجامعات فإن الكل ينظر إلى وزارة الزراعة في مصر وكأنها »البؤرة المركزية« للتطبيع،
ويروون لك الحكايات عن الخضار والفواكه الإسرائيلية التي لم تعد محصورة في مكان معيّن، بل يمكن أن تجدها في أمكنة كثيرة.
بالمقابل تسمع مَن يحدثك عن موسم القطن الذي أتلفته »الخبرات« الإسرائيلية وعن زراعات كانت ناجحة إلى أن جاءت البذور الإسرائيلية ففسدت.
* * *
القاهرة مكان، أما زمانها فمختلف.
أين الزمان العربي؟!
ماذا لو أن هؤلاء الذين أسهموا في صنع الزمن الماضي، وقد كان في الكثير من وجوهه مشرقاً وبهياً ومجيداً، وقفوا بشجاعة لينقدوا تجربتهم؟!
ماذا لو حدّدوا أين أخطأوا ولماذا؟!
ماذا لو خرجوا من السلطة التي كانوا فيها ورأوها من خارجها؟!
ماذا لو هجروا المجاملات والمداراة والخوف وقالوا ما يعذبهم في أمسياتهم، وما ينغص عليهم هناءة أيامهم الأخيرة وهم يرون إلى الأمة في ضياعها وفي افتقادها الى اليقين؟!
إنهم يجلسون متجاورين، لكنهم غير متفقين.
وفي لحظات يكاد يتبدى قدر من التواطؤ في ما بينهم، خصوصاً وأن مشاربهم ليست واحدة، فمنهم مَن جاء من البعث، وبينهم مَن خرج عليه، منهم مَن جاء من الماركسية ومنهم مَن افترض أنه قد نجح في اختراق القومية بها، منهم المتحدر من »الحركة« حركة القوميين العرب ومنهم مَن يتباهى بأنه قد قتلها ليخلص من شبهة التعصب القومي والشوفينية والفاشية،
إن التنوّع مصدر غنى،
ولكل تجربة تميّزها وخطاياها،
فلماذا لا نواجه التجربة وننظرها في عينيها؟!
»حال الأمة«؟!
في القاهرة تتبدى الصورة الكاملة لحال الأمة: البديهيات تغور تدريجياً في الذكريات والاختراق يتقدم ليسهم في صناعة المستقبل.
وكذا الحال في كل عاصمة عربية.
وكل يفترض أن المواجهة هي واجب الآخر،
مَن يعرف، منا، مهمته بالضبط في هذه الحرب المفتوحة على ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا؟!
* * *
لن تسقط مصر. لكن ماذا نفعل نحن، لأنفسنا ولمصر؟!
ماذا تبقّى في القاهرة من المؤتمر القومي الثامن؟!
لعل هذه القسوة في نقد الذات تنفع في المؤتمر التاسع..
مراهقة خارج الحب..
رأى الأحبة اثنين اثنين، متعانقين، متشاكيين، وأحياناً مهمومين وفي العيون التماعة دمع القهر.
قال في سره: الحب هو الشباب.
انتبه إلى أنه خارج المعنى، فصحّح لنفسه:
المراهقة في الشباب المبكّر، أما الحب فيأتي متمهلاً داخل الزمن.
شطب العبارة لأنه وجد نفسه أيضاً خارج المعنى. وعاد فكتب:
ليس للحب عمر. الحب هو العمر. يكبر معه الصغير، وتصغر سن الكبير. ليس للعمر بغير الحب معنى. لا قيمة للسنين الجافة التي تمرّ خارج نعيم الحب.
استدرك بعد لحظات:
والمراهقة تعيد للعمر نضارته وتؤهلك للحب!
أحسَّ أنه ينافق ذاته ويحمي سمعته لدى الآخرين.
مع ذلك لم يشطب حرفاً… ووقف على الشرفة يتابع العاشقين الفقراء المقتعدين المقاعد الحجرية على شاطئ النهر بكثير من الحسد
من اقوال » نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة غير الحب:
لا تحمل حبك وزر خطاياك. الحب معنى الحياة، قيمتها، فرحها ومصدر أهليتك وجدارتك بها… لكنه ليس حلاً سحرياً لمشكلاتك اليومية.
للحب حقه عليك. إنه يمنح حياتك المعنى، فلا تضيّعه بأن تراه مسؤولاً عن تقصيرك أو إهمالك قبله.
الحب يجعلك إنساناً، فلا تجعله »مديراً«.