سرى بيننا سريان الروح: يرانا ولا نراه، نصرخ ولا تصدر عنه نأمة أو يند عنه صوت، ولكني شعرت بأنفاسه تتردد خافتة وتلامس بحرارتها وجهي. لم ألتفت، تابعت السير وأنا أحسه إلى جانبي يمشي متفرجاً بشيء من الدهشة على ذاته وهو حبيس تلك الستارة المسرحية التي تخفي موته لتؤكده. وفي لحظة ما لمحت طيف ابتسامته المتلفعة دائماً بسخرية الممرور، تشع في الزحام وهو يسمعهم يضفون عليه في هتافهم الهائج المكسور بالعجز صفات قداسة ترفعه إلى مرتبة لم يطلبها ولم يسع إليها وما كان متصوراً أن يقبلها وهو الذي تخصص في تحطيم القداسات المصطنعة أو الملفقة.
لأول مرة يرقى المسرح والممثل فوق الجمهور. ينظر إليهم من علٍ. لا هم يطالونه ولا هو يطالهم، لا هم يسمعونه ولا هو يسمعهم، ولكن المسرحية تستمر حتى اكتمال فصولها بالصمت المطبق.
لا، ليست هي أول مرة يراهم فيها من عليائه. لطالما رآهم وهم يحسبون انهم خارج مرمى بصره. لطالما اقتحم عليهم صحوهم ومنامهم. لطالما اصطنع لهم الأحلام والكوابيس وأطلقها تمنيهم أو تستفزهم أو تتحداهم. لطالما شدهم من قمصانهم، وخرج إليهم من وعيهم المخدر لينبههم إلى أنهم أقدر مما يتوهمون، أقوى مما يفترضون، وأبأس حالاً مما يقدرون، فيستكينون إلى »نصيبهم من دنياهم« حامدين شاكرين!
لقد غدا الآن »مقدساً«.. مصفحاً بكلمات الله وبعض أسمائه الحسنى.
جُرد تماماً من بشريته، من أسباب عظمته حياً ليغدو الميت هو الأعظم.
لكم تختزن كلمة »كان« من المستحيلات.
* * *
ترن الكلمات المحمولة بمكبرات الصوت في المدى المفتوح إلى أن يضيع نثارها فيه.
تسمع الصوت الجهوري للمؤبن وتسمع رجع الصدى مضخماً فتعصف الكلمات بأذنك مرتين، ولكنها تتهاوى دون جدار عقلك المكدود في دورانه خلف الأسئلة العبثية.
تحتل كلمة »الله« الأمكنة والزمان. يتصاغر الإنسان ويتضاءل حتى يكاد يختفي، ثم يتذكر نفسه فيرفع الله إلى فوق، ويتحرك متقدماً في قلب خشوع اللحظة نحو التي بعدها بعيداً عن الخشوع. لكأنه كان يعبر ممراً ضيقاً لا بد فيه من إحناء الرأس، ثم يخلف كل شيء وراءه ويعود الى عادياته في ظل طيف »المقدس«.
متى خرج »المقدس« من الطيف سقطت قداسته.
ربما لهذا ترسم الدوائر حول رؤوس المقدسين، كأنما لتحدد لهم إطار وجودهم: إن هم خرجوا منه انتهوا. كل مقدس حبيس دائرته، إن هو غادرها بقيت قداسته فيها.
* * *
بات الموت هو »المقدس« الآن.
تبادل الممثلون الأدوار. أم أنه الدور نفسه يتناوب عليه المؤلف المخرج الممثل المدير والناقد والجمهور.
سادر في صمته فوق. كأنما هو مرفوع ليتخطى »المقدس«. كأنه يعتلي »المقدس«.
تحتل كلمة الله المساحة. تحتضن المسرح الطائر. تطوقه من جهاته الست. ويظل الصامت صامتاً لا يريم.
يتهاطل عليه الورد مطراً بألوان قوس قزح، وهو منصرف عنه لا يعبأ برائحته ولا بألوانه.
إنه مشغول بنصه الجديد.
تهمس له من قلب الحشد: لا تغلق عينيك، دعنا نرى أوضح.
لا تنتظر رده. تعرفه كما تعرف نفسها، إنه الآن يهجس بما بعد الكتابة.
عادت تهمس له: عندما اخترقت حجب الموت وأتيتنا برأسه وطلبت إلينا أن نتقاذفه كالكرة خفنا منك. هل أنت الآن خائف يا الذي تجاوز الخوف إلى الضفة الأخرى حيث تختلط اللامبالاة بالعدم والمستحيل بالحقيقة الباردة.
لن يرد، تعرف. لعله الآن يفكر بما يعد القول. لقد تلبث طويلاً منفرداً، مستوحداً، عارياً إلا من أفكاره البيضاء التي لا تقرأ، بينما أقام الموت خيمته في ظل أنفاسه ومكث ينتظر نداء استنجاده.
أوراق الورد تتناثر دموعاً ملوَّنة، والشجر البري وبعض العوسج والطيون وشجيرات الشوك تتسامق عند جذوع الزيتون المبارك، والفراش يهوم متنكباً همسها الدامع: أنت وحدك من قرر الموعد. لماذا حددته الآن؟! لقد جعلته يتصاغر حتى بات أدنى منك وفي خدمتك. فحملته ومشيت به. كنت تقول لنا دائما: لا يموت إلا من خاف الموت. كنت تقول لكل صديق: اقتحم موتك. تقدم إليه. اصلبه إلى الجدار، انظره في عينيك. موته في يديك حتى وإن كانت حياتك بين يديه. إذا مات الموت… يا لها من فكرة مسرحية هائلة!
الموكب يقدم ببطء. آن للرحلة أن تنتهي. لقد سئم الانتظار انتظارنا.
في لحظات بدونا وكأننا نتعجل هزيمته. كان يفاجئنا كل ساعة بأنه أقوى مما حسبنا وأننا أضعف مما يتمنى لنا. وكان يردد محنقاً: لا يجيء الموت من خارجنا. نموت حين نموت. ينبع الموت من داخلنا وينمو في داخلنا ثم يطوينا في غياهبه ويمد ظلاله الى من بعدنا بغير ادعاء او تباهٍ بالإنجاز! نحمل الموت في قلوبنا، ويحملنا الموت على أطراف أصابعه.
يستدير الموكب عائداً. في العودة تكون الخطوات أوسع، كأنما الكل ينجو بنفسه من الحفرة الطرية التي رُدمت الآن.
يتماهى المقدسان في البعيد، ونفترض اننا تحررنا منهما معاً، ثم سرعان ما يصلنا صوته العميق هامساً: أينك يا رفيق. زمان، والله زمان لم نلتق. سلام!
تلح عليه المفارقة فلا يستطيع التملص منها حتى من باب لعبة المقارنات… حتى من باب »مسرحة« الحدث، أو من خلال الصلة المسرحية بين الحدثين المتباعدين مبنى ومعنى:
قبل أيام، كان في حضرة »مقدس« آخر، وكان الناس وبحشد أعظم كثيراً يبدون مثلهم هنا سكارى وما هم بسكارى: يشخصون بعيونهم إلى »المقدس«، يحاصرونه بها، يستنزفونه بغير إشفاق ليؤكد بالملموس جدارته بقدسيته. كانت عيونهم تقتحم اغفاءاته القصيرة أو شروده. تحاول أن تفرض نفسها عليه: انظرني، أنا، أنا، أنا. لأجلك جئت فامنحني النعمة وأدخلني في ملكوتك.
في لحظات، كان »المقدس« يستعيد ملامحه الإنسانية فيبدو عجوزاً متداعي البنيان، له من يوقظه، وله من يسنده، وله من يمد إليه العصا، وله من يذكره بما يجب أن يقوله الآن وهنا، له من يرفع عن رأسه القلنسوة فيبدلها بالطاقية، ليزيد من أبهة المشهد المسرحي وجلاله.
يجلس »المقدس« مستنداً إلى ذراع المقعد وذراع الظل. يستمع لبعض الوقت، يتأمل الجمهور، تأخذه النشوة، يرتسم ظل ابتسامة فوق صفحة وجهه الأبيض السمين المشرب بحمرة حسن التغذية، وخوابي النبيذ الفاخر. تأخذه أفكاره إلى البعيد. تأخذه الاحتفالية المكرّرة إلى النوم. مقدس هو في نومه كما في صحوه ولا حساب للمقدسين.
يشير »المقدس« بيديه، يستجيب الحشد. تطأطئ الرؤوس رؤوسها وتنحني، ولكنه هو بالذات سرعان ما يرفع رأسه، فيرفع »المقدس« إلى فوق، إلى البعيد البعيد، ويتحرّر منه.
يتحرك »المقدس«. يبحلق الحشد وهو يزأر بإيمانه.
يمشي »المقدس«، بينما الكل وقوف هنا.
يمشي الكل بالمقدس هناك.
لكن الدنيا تمشي خارج دائرة القداسة.
يخاف الناس من »المقدس«. لعلهم يتظاهرون بالخوف. لكنهم، هنا وهناك يخاطبونه من بعيد، يريدونه أن يبقى بعيداً. إذا ما اقترب ساواهم وساووه وعاد بشراً سوياً.
يعيش المقدس. يعيش المقدس. يعيش المقدس.
والمقدس لا يعيش. لقد منحهم عيشه. هم يفترضون أنهم يعيشون فيه. هو يفترض أنه يعيش فيهم. افتراض يلغي افتراضاً فيولد افتراض ثالث ملفق، ولا أحد يريد النقاش.
قليل هو المشترك مع المقدس..
لا يرقى غير المقدسين إليه. هذا يريحهم. يريحهم أكثر أنه لا ينزل إليهم. لا يصير منهم. يظل بعيداً وهو ذاهب إلى دائرته المقفلة.
* * *
كم هو رحب هذا الإنسان. إنه يتسع لآلهة كثيرة.
كم هو ضيق هذا الإنسان. إنه يكاد ينوء بإله واحد.
في لحظة تراه مشتتاً بين »الآلهة« التي يصطنعها لذاته أو تفرض عليها ذاته من خارج إرادته: يحار بين الذي فوق وبين التي تحت، فلا يعرف بالدقة بمن يربط مصيره وإلى من يرجع بشؤون حياته، ثم يجعل لكل حاجة »مقدساً« يستنجده إذا عز الرجاء.
ترتطم الآلهة في صدره. تخرج من عقله فيتلقاها بقلبه ويطيب خاطرها خوفاً من انتقامها المقرّر والمغلف بالإبهام.
* * *
نعود إلى صمتنا بحكايات كثيرة عن »المقدس«. نحفظه في الحكاية.
الإنسان أبهى من »المقدس«. الصانع أجمل من المصنع. المبدع أعظم من إبداعه. اليد أقدس من القلم. الإنسان أخلد من الكلمة. هي أداته وليس هو أداتها.
ذهب المقدس. وبقي ما ينفع الناس.
بقي من يجب أن يبقى. بقي الذي استوطن العقل والقلب والفكرة المسافرة بنا إلى الغد الذي تمناه ورسم الطريق إليه وما بلغه.
في رحاب إنساننا بقي.
تهويمات
} تحبين الخلسة، منها تجيئين ولا تذهب بك. تسكنين الآن في الخلسة،… وتخطرين بين خلستين، وبين الخلستين يتمطى ضجر التوقع.
إلى متى ستبقين معلقة على شفا الهنيهة؟
} يتراكم الكلام على الكلام. ضجر منك الكلام ومني. ترتطم الكلمة بالكلمة، تنزع عنها ثوبها القشيب، تعريها، تكشف سمنتها فتأخذ الأخرى عليها النحول.
تمتدين مع التمثل طيفاً مضرجاً بالهواء. تقدم لك يداك عرضاً بالكلمات المضمخة ببحة الاهتياج. تمور الكلمات، تنوص، تفقد أطراف حروفها ثم تنتثر لهاثاً أصهب.
أجمع فتات الكلام. لا تأتيني صورتك، ويضيع صدى صوتك. ويتهاوى الصنم المصنوع من هواء!
} أضعت الجهات، لم أعد أعرف هل أنت قبل النفق أم بعده.
أقصد: لم أعد أعرف هل النفق داخلك أم أنك داخل النفق؟
} تأتي من البعيد، ذاهب إلى البعيد، وأنا محطة بلا قطارات، يهيجني السفر ويشلني العجز عن القرار، فأبقى كشجرة تين عجفاء نسيها الربيع فتخطاها وتركها كشاهد قبر في صحراء ابتلعت السماء وملأت عيون نجومها برمال عاصفتها البلا قلب.
} يتسلل إليك الصوت. يهل الجسد. تهرب الأفكار فتنتصب الكلمات محشوة بالفراغ. أتساءل عن رأسك. لم أرك مرة مكتملة. هل لشفتيك وظيفة خارج العناق؟ هل ليديك من عمل غير الاحتضان؟! هل سبق لساقيك أن حملا قدميك في رحلة خارج الفراش؟
ما تقولينه قبل مجرد تمهيد للانقضاض. ما تقولينه بعد مجرد تحديد للموعد المقبل. وما بين الموعدين بيداء من الأسئلة المغسولة بالتعب.
} حبك شتوي يطلب النار ليتدفأ حتى الاحتراق، وأنا مجرد عابر صيفي في مدى الدخان.
} السرير فسيح. لا يتسع لامرأتين.
الكنبة ضيقة جداً، يجلس إليها رجال كثيرون!
} أساهرك حتى ينام النوم ويصحو الصباح في خديك، وتشرق من عينيك شمس النهار الجديد.
أجمع من بين يديك النجوم فإذا يداي سماء.
} اشتدت أزمة السكن حتى لم تجد غير الكلمات مأوى.
كان لا بد من أن نوسع مدى الهمسة حتى تتسع لنا.
} تجيء بك الأغنية. تذهب بك الأغنية. كأنك مجرد فاصل موسيقي بين لحظتي شجن.
والشجن مأواي وموعدي وعنواني المفتوح.
} تقفين خلف باب الكلام،
أقف أمام باب الكلام.
.. ثم نتساءل من أين يجيء الصمت الذي يمنحنا هذه الفرصة العريضة للثرثرة؟
} تقبلين لتتمنعي. لا نملك ترف التمنع في عمر أوله الصد وآخره الهجرة وما بينهما التساؤل عن الغد.
ولكن كل واحد كان يرى في صاحبه الغد، فمن أين يجيء السؤال؟!
} قالت بلسان الحب: أنا موعدك،
نظر في المرآة. أحب نفسه كثيراً فنسيها فيها ومضى يبحث عن موعد جديد!
} دخلت حديقتك خلسة فوجدتك تستحمين باسمي فحسدته، وقرّرت أن أتعرى منه وأنا أدخل عليك.
} يجيء مع صوتك الفرح ويبقى بعده.
لماذا تطيلين زمن الشقاء فتصمتين حتى يذبل الفرح ويستدعيك؟
ألا تخافين أن تصلي مرة متأخرة عن موعد الكلام؟
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
لا تجعل من حبيبك صورة. هو الأصل دائماً ولا صورة له. الصورة خرساء، صماء، باردة. لا تصنِّم حبيبك. لن تكون صورته على الجدار أجمل منه في قلبك. من احتاج إلى الصورة ليتذكّر لا يحب. من يشوقه الجمود غر لم يعصف به الحب بعد.
تنهد وهو يجيل بصره في الفضاء الفسيح، ثم أضاف:
ملء الريح حبيبي، ملء الأرض حبيبي، في الشمس حبيبي، في القمر، في النجوم، في عيون الآخرين التي تنظرني أرى حبيبي، فكيف يغيب عني لأطلبه في بطن الزجاج البارد والأبكم!