قرأت لمحيي الدين صبحي ناقداً، وتابعته بإعجاب من قبل أن أعرفه.. ثم التقينا فإذا شخصه نسخة طبق الأصل عن أسلوبه مع إضافة بارزة هو ذلك الانطباع المشمئنط الذي يقتعد صفحة وجهه معبراً عن سخرية مضمرة أو ربما عن مرارة مكثفة تجمعت كمحصلة لمسلسل من الخيبات تعرض لها هذا الدمشقي الأصيل مسلكاً وعادات ولهجة لا تخطئها الأذن من على بعد ميل..
التقينا مراراً ثم كنا نفترق، و»يشرد« محيي الدين صبحي لاحقاً بآماله في إنتاج ثقافة عربية أفضل، أعمق أصالة وأعظم انفتاحاً، أكثر صدقاً والتزاماً من دون أن تنغلق على ذاتها أو تجافي العصر،
وازددت إعجاباً به وأنا أراه يتابع تحصيله ويعمل بدأب لينجز أطروحة الدكتوراه، بينما هو يكافح لتأمين حياة الكفاف لنفسه ولعائلته التي عرّضها للتشرّد معه.
وفي فترات عرضت، وجد محيي الدين صبحي نفسه أمام أكوام من المال التي كان يعرف جيداً أنه سيهدر، وأن »غيره« من صائدي الدولارات والرحلات والمناصب والجوائز سيأخذ منه بقدر ما يستطيع أن يحمل، ومع ذلك لم يرضَ يوماً أن ينال أكثر من راتبه وتعويض السفر، مع الحرص على الابتعاد عن كل ما هو مكلف وفخيم.
وعمل محيي الدين صبحي لفترة في »السفير«،
ولأنه متواضع وغير دعي فقد تقافز من حوله بعض المستجدين على الكتابة وبعض عصابة النقاد من منازلهم، فأفسح لهم رافضاً أن يترك لأحد منهم الفرصة للدخول في مناكفة معه عنوانها »الصراع الفكري« وعمقها الفعلي الحرص على موقع مُدَّعى أو على كسب حرام!
وذات غيبة، عاد إليَّ محيي الدين صبحي وفي يده رزمة من الأوراق بخطه.
قال لي: لم أعد أجد نفسي في النقد. بي حاجة لأن أقول أكثر، لأن ألمس جذر أزمتنا الثقافية. لقد كتبت فصولاً من نص يتركز على تشريح الانحطاط العربي. مأساتنا عميقة الجذور ومتشعبة حتى لتكاد تشمل مختلف وجوه حياتنا.
وكان رأيي أن يكمل النص قبل المباشرة في النشر.
وغاب محيي الدين صبحي طويلاً، مستبقياً في مكتبي طيف تلك الابتسامة التي يختلط فيها الحزن بالسخرية والمرارة بالانفة والقوة بالانكسار الآتي من الخارج والذي لا يتسق أبداً مع صلابة الداخل.
قبل أيام وجدت على مكتبي بعض الكتب الجديدة هدية من دور النشر المشاركة في المعرض القائم ببيروت.
وكدت أهتف فرحاً حين وجدت بينها كتاب محيي الدين صبحي الجديد: »الأمة المشلولة تشريح الانحطاط العربي«. قلت لنفسي: لقد فعلها الدمشقي العنيد!
قلبت الصفحات سريعاً لأقرأ عناوين الفصول التي ما زلت أذكر بعضها، برغم أنني قرأتها قبل خمس سنوات أو يزيد، ثم مع تقليب جديد وقعت عيني على الإهداء، وبغير أن أعي ما حدث كانت دمعتي قد غطت الإهداء الذي شرّفني به محيي الدين صبحي.
»إلى الأستاذ طلال سلمان
الكاتب والمفكر القومي
.. كل هذا بدأ معك، في مكتبك
لك محبتي«!
كان الإهداء مطبوعاً، وليس إهداءً شخصياً على نسختي الخاصة. ولولا المصادفة لما انتبهت له، إذ لم يهدني محيي الدين نسخة، ولم يتصل بي ليقدم لي الكتاب.
أرتبك الآن وأنا أكتب هذه الكلمات بعد يومين من اكتشافي الثمين.
ولست أجد تحية يمكن أن أرد بها إهداء محيي الدين صبحي غير أن أستعير منه بعض السطور التي استهل بها كتابه، مفترضاً أنه »ابن عبي« الجديد، وأنه يحاول مثل ما حاول ذلك الرائد العظيم… مع افتراض أن هذا الدمشقي العنيد في تمسكه بسخريته وبعروبته سينجح في تحريك هذا المستنقع الذي يبدو راكداً تماماً الآن، والذي أفترض أنا، مثل محيي الدين صبحي، أن أسباب الحياة كامنة فيه ولمّا تمت بعد:
»عاش أبو حيان التوحيدي معظم سنوات القرن الرابع الهجري، وكان يلقب بالجاحظ الثاني لبلاغته، ويوصف بأنه فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة لسعة ثقافته. وقد اتصل بوزراء عصره مثل ابن العميد وابن عباد وابن سعدان فلم يظفر بطائل لاستقلاله برأيه واعتداده بعلمه. كذلك كان أبو حيان على علاقة وثيقة بكبار مثقفي عصره، ومنهم أبو الوفاء المهندس الذي أوصله إلى صديقه الوزير ابن سعدان، فلم يستفد أبو حيان منه شيئاً، فكتب هذه الرسالة لأبي الوفاء وأثبتها في خاتمة كتابه العظيم »الإمتاع والمؤانسة«، وبعد ذلك أحرق كتبه وخرج إلى الصحراء فانقطعت أخباره حتى لم تعرف سنة وفاته ولا أين؛ قد جاء في الرسالة:
»خلّصني أيها الرجل من التكفف، أنقذني من لبس الفقر، أطلقني من قيد الضر، اشترني بالإحسان، اعتبدني بالشكر، استعمل لساني بفنون المدح، اكفني مؤونة الغداء والعشاء.
… قد أذلني السفر من بلد إلى بلد، وخذلني الوقوف على باب باب، ونكرني العارف بي وتباعد عني القريب مني..«.
آسف، لقد كتبت عن الكاتب وليس عن الكتاب،
لكن محيي الدين صبحي من قلّة تتطابق سلوكاً مع كتاباتها،
… وبالتأكيد فلن يترك الناس جميعاً »أبو حيان« الدمشقي يحرق كتبه ويخرج إلى الصحراء شارداً حتى الاندثار.
شكراً محيي الدين.
عندما يتقاعد الحب
تساءل بشيء من الحسرة:
أليس من حقي أن أكون إنساناً؟ هل يُفرض على المشاعر أن تندثر إذا ما بلغت سن التقاعد؟
كانت تنظر إليه بكثير من الإشفاق. لم تجد نفسها معنية بالإجابة، ولم تجد بها رغبة لأن تغادر صمتها لتسرّي عنه. كانت تفكر في ذاتها. وسمعته يستأنف حديثه إلى نفسه، مع أنه يقصدها ويعنيها بكل كلمة:
لست رمّة. ما زالت الحياة تهدر في شراييني، وقلبي نبع فوّار بالبهجة. يا أنتِ… هل تعتبرينني عجوزاً؟! ألا تحسين بي؟! ألا يدوي نبضي في صدرك؟ ألستِ تعرفين أني أحبك؟! هل سقط حقي في الحب أيضاً؟!
قالت بصوت بارد:
لا أستطيع لك شيئاً! لا يملك أحدنا ما يعطيه للآخر. متى التقينا أغلقت علينا لجة اليأس أبوابها.
قال بلهجة رطبها الدمع:
اليأس يدفعني إلى حافة العمر. وليس لليأس عمر. وليس لي في هذه اللحظة غير أملي في أن نكون معاً.
أين؟ وإلى متى؟! وهل هذا حل أم وجه جديد وقاس للأزمة؟
لا تعقدي عليَّ الأمور. لست حبيبك، أعرف. لا أطلب غير أن أظل في مدارك. أنا خارج دائرة الحب. إنني أتسلق حافة العمر لكي أصلك. تدفعني الخيبة بعيداً، تحشو فمي بطعم العدم. أمضغ العبث ويمضغني فلا يجيء ربيع ولا تتفتح زهرة في كوة من جدار العمر… وأتعلق بشعرك حتى لا تجذبني الهوة..
غمغمت بمرارة:
وأنا أتحايل بالدهون والحنّاء والوصفات الفلاحية لكي أستبقي من شعري بعضه…
أكمل من دون أن يسمعها:
احسبيني طفلاً جائعاً عثرت به يدخل من باب الرحمة ولا يلج محراب الحب. أمنحك من روحي ما يعوّض عمري. عمري؟! إنها هذه الساعات معك فإن قطعتها انقطع..
نظرته في عينيه فأغضى، ومع ذلك طاردته بقسوة. قالت:
أتعرف.. أنت تشبهني حتى لكأنني أنت. كلانا يسبح في لجة اليأس، فيفرح بخشبة لن تنجّيه ولكنها تجدد أمله بخلاص مستحيل.
قال برجاء: لكنك قادرة وأنا عاجز.
قالت بحسم: أنت تنظر إلى جسدي وأنا أفتقد روحي.. أنت تبكي موت جسدك وأنا أبكي حياته.
انتحب بصمت، وهربت ببصرها منه، ثم سمعته يقول: عزت علينا التعازي،
قالت: إننا بائسان عند الشاطئ الأخير. أهرب بنفسك مني، وعليَّ أن أهرب بنفسي منك، وإلا كنا نتقدم نحو الانتحار. لا يلد اليأس حباً، يا صديقي، لا ينبت الشوك تمراً. ولا يصلح الجليد عشاً للحساسين وزغاليل الحمام.
وقام يمشي في جنازته…
الجحيم فوق
يمرق عصفور النار بين العينين فتشب الحرائق فوق بيدر الثلج، وتتركينها تتوسع فوق صفحتك الصلدة تلذذاً بالعذاب.
تستدرّين من قلب وجعك الشعور بالقوة، بينما روحك تتفتت وتنتثر هباباً في الفضاء المفتوح.
اخفضي رأسك قليلاً.. إنك ترتفعين فوق مداك الإنساني.
ليس أبأس من أن تكوني وحيدة.
الوحدة جحيم، ولا فرق في طبقات الجحيم: لا فوق فيه ولا تحت.
ترتدين قيودك كل صباح، وحين يخلعها عنك الليل تلتفين بعتمته لتكملي لعبتك مع جراحك.
ولن أكون جرحاً جديداً في وجهك. أما وجهي فمعرّض لأسماء المجرَّحين بكلمة »أحبك«.
حوار خارج الحب
قالت الخائبة للخائنة: إنما تحاولين اصطياد الريح!
ردّت الخائنة على الخائبة: لو أنك نجحت لما جئت تعاقبينني!
قالت الخائبة للخائنة: لك حياتك، وفيها كل ما تطلبين، فاتركيني أملأ فراغ حياتي، أو بعضه.
قالت الخائنة للخائبة: لو أنها حياة، هذه التي تحسدينني عليها، لما تزاحمنا فتصادمنا داخل هذا الجحر.
قالت الخائبة للخائنة: لك زوجك، لك أولادك، لك مكانك في الحاضر وفي الغد.. أما غدي فأخشى أنه قد بات ورائي ولعلني الآن أحاول وأجتهد وأتعب لكي أتقهقهر إليه.. لا أوهام عندي! إنما أحاول استيلاد الزهور في غصون عجفاء في شجرة يابسة، ولا أتوقع ثمراً في موسم مقبل. امنياتي خلفي ولم يتبق لي إلا اللحظة، فاتركي لي مساحة للتنفس… لا أحب أن أموت اختناقاً.
ردت الخائنة على الخائبة: يأسي أفتك من شوقك إلى الحياة. سأدمرك. لن أسقط من يدي آخر التماعة ضوء شعَّت في ليلي الدامس. لا قيود تضبط حركتك، وأمامك النهار بعد، فارحلي إلى الشمس.
قالت الخائبة للخائنة: إذن هي الحرب، وأنت الأظلم… سأقتله إذن ونرتاح!!
ردت الخائنة على الخائبة: كيف تطلبين الحب وترسلين إلينا الموت؟! خذيه، إذن… المهم أن يبقى، المهم أن يكون قريباً، المهم أن نظل في مداره… ولنتبارز فيه، هيا إلى حرب الحب!
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
أتدري… كان صعباً جداً على مَن أحببت أن تصف الأمر باسمه الحقيقي. كانت تقول لي بعينيها، بملامح وجهها، بأنفاسها، بعطرها، بلمسة اليد، بالإيماءة العجلى، بالرعشة وهي تناولني القهوة، ولا تقول أبداً بلسانها. كانت تحب أن تسمعها، تلك الكلمة العيد، ولم أكن أحتاج إلى استدراجها.
اليوم، يغيظني كثيراً ابتذال كلمة »حبيبي«. يقولها أي كان لأي كان، السيد لسائقه، الخادم لزميله، المدرِّس لتلميذه، والمغني الرديء لكل عابر سبيل.
إحفظ كلمتك لمن يستحقها. لا تقل حبيبي إلا لواحد لم يستحقها قبله أحد ولن يستحقها بعده أحد.