دخلت بيت سيد مكاوي، لأول مرة، بينما القاهرة كلها، شوارعها بمقاهيها والمطاعم، نيلها والمراكب السارية في سمرته، الارصفة بحشودها المتلاطمة، البيوت والاوتوبيسات وعربات الكارو بكل ذلك البحر المتلاطم من البشر فيها وعليها، يسبحون في نشوة »الأطلال«.
كنت بصحبة مبدع هو بهجت عثمان، والتقينا لديه المبدع الاكبر صلاح جاهين وكنت، قبل ايام قليلة، قد استمتعت غاية الاستمتاع بأوبريت »الليلة الكبيرة« في مسرح العرائس، وهي المغناة التي كتب كلماتها صلاح جاهين ولحنها وغنى معظم مقاطعها سيد مكاوي.
بادر بهجت الى الهجوم فوراً: سمعت يابو السيد أغنية أم كلثوم الجديدة، الأطلال…
ورد الشيخ: سمعتها يا عم بهجت،
وإيه رأيك فيها؟!
قال سيد مكاوي والسخرية ترتاح على وجهه وتظلل نظارتيه السوداوين:
يعني.. المهم يا بهاجيجو ان أم كلثوم رجعت تغني!
كان الرأي قاسياً جداً، خصوصاً بعدما شرح مراميه سيد مكاوي نفسه:
ليه هي »انت عمري« غنوة يابو صلاح؟!
قهقه صلاح جاهين، ودارت حفلة تشهير بالاغنية التي وصفتها الصحافة والاوساط الفنية، آنذاك، بأنها جاءت نتيجة لقاء قمم الإبداع بطلب لا يمكن رده لقمّة القيادة السياسية: فجمال عبد الناصر كان قد تدخل شخصياً لإقناع أم كلثوم بأن تغني من ألحان محمد عبد الوهاب.
ويمكن تلخيص رأي سيد مكاوي بأن عبد الوهاب قد أنزل أم كلثوم من عرش الغناء الشاهق لترقص في الشوارع، وانه قد حشر في اللحن كل نغمات التطريب في الاغنية فكسر هالة »الست« وجعلها مشاعاً للسكارى والمهووسين الذين »يسمعون بوسطهم«!
كان سيد مكاوي من مدرسة اخرى، المدرسة التي نشأ وترعرع فيها عبد الوهاب ثم »خانها« وانحرف خارجاً منها وخارجاً عليها ليرمي نفسه في بحر غير بحره هو الموسيقى الاجنبية التي اخذ »يلطش« منها مشوهاً التراث الاصيل للموسيقى الشرقية التي لا تقل غنى بنغماتها عن »الافرنجية«، بل هي بحساسياتها أعظم غنى إضافة الى كونها تنبع من وجدان ناسها وتذهب رأساً الى وجدانهم.
عبد الوهاب ذهب بعيداً عن أرضه فصار هجينا! لقد خان جيل الاساتذة العظام محمد عثمان، وسيد درويش وعبده الحامولي وزكريا احمد وغيرهم من الاصلاء الذين حاولوا ويحاولون تطوير موسيقانا من دون الاغتراب عن أمتهم!
* * *
حتى الرمق الأخير، ظل سيد مكاوي أمينا للمدرسة التي نشأ فيها وتربى على أصولها.
حتى النغم الأخير ظل مصرياً، عربياً، شرقياً، يلحن ويغني بإحساسه اكثر مما بعلمه، وبوجدانه اكثر مما بثقافته الموسيقية.
وها هو »النغم الأخير« يتهاوى في لجّة الصمت.
ان التطور هو سنّة الطبيعة، ولكننا في كثير من الحالات نتهجن، ولا نتطور.
إن الانفتاح على الثقافة العالمية، بمختلف مجالات إبداعها، ودرسها واستيعابها شروط بديهية لإبداع أرقى، ولكننا كثيراً ما نغترب ونبدل أسماءنا والهوية ونتصرف بالمقتبس وكأنه من ابتكارنا ومن انتاج عقولنا، فنقطع بيننا وبين ابنائنا ونشعرهم كأنما ولدتهم المصادفات القدرية، وكأنهم يجيئون من العدم، فلم يكن قبلهم أحد وليس خلفهم إلا التخلف والجهل والانحطاط والغربة عن العصر.
لقد أعطى سيد مكاوي مئات الألحان، وسيظل العرب معه ومع المطربين الذين أخذتهم ألحانه الى الشهرة والمجد، لسنين طويلة.
من الوجدان جاء وفي الوجدان سيبقى هذا اللحن الشرقي الشجي الذي سافر بالناس الى الفرح، بينما صاحبه لا يستطيع ان يرى وجوه محبيه… بمن في ذلك اولئك الذين ساهموا في صنع بعض مجده وبينهم ذلك المبدع العظيم الذي يحفظه وجداننا أيضا: صلاح جاهين!
حزنه في قلبه وللناس الفرح: ذلك هو الأصيل الذي غاب، سيد مكاوي! لكن رأيه في محمد عبد الوهاب يظل ظالماً.
وهو الآن يسكن في ذاكرتنا غير بعيد عن اولئك الذين ضمخوا حياتنا بالطيب: أم كلثوم وزكريا أحمد ومحمد القصبجي ورياض السنباطي وفريد الاطرش ومحمد عبد المطلب وبطبيعة الحال مغني الهوى والشباب والامل المنشود: محمد عبد الوهاب.
ما قاله القرمطي.. ما قاله السماهيجي
أمضيت وقتاً ممتعاً مع ديوان صغير للشاعر البحراني حسين السماهيجي يقول فيه »ما لم يقله أبو طاهر القرمطي«.
سافرت طويلاً بين ثنايا التاريخ، وانبثق »اليوم« عبر إسقاطات الأمس، وعقده أو تعقيداته أكثر وضوحاً،
هذا شاعر ابن بيئته. هذا ابن مائه. هذا ابن دمه المسفوح على امتداد أجيال، والمهدد بأن يسفح بعد. تأتيه الكلمة من أفواه الصحابة مباشرة كما من أفواه المرتدين، من سيوف المقاتلين بالحق ومن أجداث المقتولين باسم الحق، وأحياناً من الجنازة الدائمة للحق المغيّب خلف سيوف المنتصرين.
»في علق الوسادة/ بحثت/ عن… قافيتي
تثوي بقايا لغتي/ في المدن الأسيرة/
نثرت من ملحي في الفجر/ على قصيدتي
فأكملت رتوشها/ سيوفنا/ وسجدت/ لشعرنا العشيرة«.
كان عليَّ أن أبدأ »بالفاتحة« التي اختارها، بالإسقاط أيضاً:
»إنما أقرأ تاريخي بسيفي/ ثاقباً هذا الفضاء،
راحلاً في لازورد الدم/ عيناي غشاء..«
أو ربما كان عليَّ أن أسهل الأمر على القارئ فأبدأ بإهداء السماهيجي إلى »أبي طاهر القرمطي«:
»رب هذا البيت/ أبصرت/ فخذني
ضمني في لوح أشباحك
لي/ وقت لنهدين/ ولك/ قبة فوق/ طفلك
طارح لونك في اليم/ على سنة موسى
إنه الملح عقيق ملكي/ يتعرى/ في تفاصيل الزمان..«
من هو، بل من يرى نفسه حسين السماهيجي هذا؟
»أنا لم أكن نحتاً/ على سيف الخليفة
إنما شظَّيت في الأغماد وقتي«..
أو لعله ذلك الذي يقول باسمه أو عنه:
»أتيناكم/ من أقاصي الجنون/
نهيء زاوية الصحو/ وسط الغياب
أوجهنا في القباب/ ونحلم/ انا لكم عائدون«
أما أبو طاهر القرمطي نفسه، فهو يقدمه مباشرة:
»سأجد/ في حضرة السيف/ أبو طاهر/ في مخدعه«
أما ما لم يقله أبو طاهر فكثير لم يدركه أصحاب الأقلام ولم تنطلق به رمال الصحراء ولا قاله زبد البحر:
»على رسلكم/ أيها الكاتبون
صحيفتكم لم تزل فارغة،
ووقتي جنون/ جنون..«
وأبو طاهر يقول من دون أن يقول:
»أجيلوا النظر/ خرائط تولد في رحم العربي
جراد/ دمامل تنهش أجسادنا/ وميقاتنا المنتظر
مرابط للخيل والشهداء
تراب يخزن الذكريات/ صدى لا يصيخ له من عبر«
لكن الكاهنة تقول شيئاً آخر وهي تتوغل في قلب نبوءاتها البيضاء:
»لمن هذي النبوءة؟
لحظة وقصيدة في الجوف
أنت القصيدة حينما تلد القصيدة
وقتٌ تناسل. بيننا بحر ورمل
لا أرى إلا بياضاً في بياض/ بين القصيدة والقصيدة شهوتان«
وحسين السماهيجي يقدم صورته بشعره:
»ارسميني/ ليس لي اسم
ولكني بياض فرَّ/ مسوداً/ إلى ماء القصيدة،
… »خلعت قانيتي/ يا يوسف/ برقعها/ وصاهرت اللذة«
…. »أجاهر بين القصيدة والعين أني الملك«
أما في لغته الأولى، وفي موقفه الأخير،فإن حسين السماهيجي يشهر نفسه للناس كافة:
ناديت/ بغداد تعريشة الروح/ تنأى بعيداً
ومكة قوس سحاب/ أرى الرمل سردابنا
ها هنا لغة/ رحمها لغة/ لبقاءا الجدود
جئت/ إلى مدن تركض/ للخلف وتستر/ عورتها
بشظايا البلور المعجز..«
هل كانت البحرين أول الرحلة أو منتهاها؟
هل جاء اليقين من البحر أم ذهب إليه فغرق أو أغرق فيه؟
أم أنه الشك يفك عنك الحصار ويمنحك حريتك؟
حسين السماهيجي يسأل نفسه كثيراً سائراً فوق رقراق الموج يتسامر مع النوارس في انتظار القافلة الآتية.
وردة القلب
أُهوّم من حولك، أعانق ظلالك، استحم بشميم عطرك، وأخاف من الاحتراق فأهرب من اللقاء.
انكسر اذا ما ابتعدت، وأخاف ان تنكسري تحت وطأة القرب فأبقى معلقاً في أفق عينيك اتأرجح بين اللوعتين وانتظر المطر.
يجرحني صمتك ومسحة الألم التي حفرت لنفسها مساحة بين الاهداب، احاول ان أقول فلا أجد كلمة تستطيع ان ترفعني اليك، وأخاف السقوط إن أنا حاولت وتعثرت.
أدور من حولك، وأمد يدي بقلبي لآخذ عنك بعض الوجع فلا يجيئني منك الا المزيد من الحب المضني.
ألمحك وأنت ترمحين كالبراق، تشعّين بعذاب الأيام وتطلقين من خلفي الصهيل ليحملني الى الطمأنينة ثم تذهبين الى ليل القلق وحيدة.
أين يمكنني الاختباء وعيناك تملآن علي الأرض والفضاء، تلغيان السر وتسقطان استار التواطؤ فأضبط متلبساً بحبك؟!
لن أرجع أمساً. سأظل أتسلقك حتى أكون غداً، وسأنبت وردك في قلبي وأحميه من يدي بعيني.
تهويمات
أتوغل في دغلك المكتظ بفرادتك.
أقطع سهوباً وهضاباً، ويأخذني العطش الى ينابيع يغطيها العوسج ويمنح ماءها مذاق الشهد المصفى.
يهدهدني همسك ويتمدد فوق ذراعي نعاسك، وأمشي بك فيك فلا أصل ولا تتعبين من اختراق السراب.
اخترق الغابات التي فضتها الشمس لكنها حفظت في حناياها أمكنة للتائهين ممن يمرقون من القلق الى القلق، ويسافرون في ثنايا الوحدة الى الليل المفتوح للشجن وترانيم الجان وهم يطوفون بك في معابدهم ليتعلموا منك السحر.
أرتفع الى ما فوق الغيم فيمتد لي بساطاً ويرف بي شعرك مراوح من عطر حتى اذا جاء خدر النشوة ترفرف الغيم فأنزلني مع مطره الى بئرك العميق لنصنع معاً لحظة الصمت المدوي بالفرح، كشقائق النعمان التي تفترش بساط الربيع ثغوراً تنتظر ندى الفجر الذي لا يتأخر عن ميعاده.
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلاّ الحب:
لا تضجر حبيبك بالعتاب. انه حاضر فيك، فلماذا تحاسبه على مدار الساعة؟! ان العتاب مبرد يأخذ من الحب ولا يعطيه. لو حاورت نفسك لسمعك حبيبك، ولو هزك منظر لسمعته يشهق بالآه من خلفك. كن حبيبك فيسكنك، اما اذا جعلته خارجك فكيف لك ان تخاطبه وكيف له ان يسمعك؟!