بين رعية تغيّر رئيسها وسلطان يغيّر رعيّته!
لو كانت يد القضاء طليقة في لبنان لتحولت معركة رئاسة الجمهورية فيه إ لى مسلسل من المحاكمات الممتعة والمدهشة والمثيرة بأسرارها الخطيرة التي يمكن أن تشمل الطبقة السياسية برمتها، ومعها بطبيعة الحال الفئة الجديدة التي اقتحمت المسرح بقوة تحت لافتة »رجال الأعمال«.
لم يعد ثمة فاصل أو حدّ بين السياسة والمال.
استولى المال على السلطة بانقلاب أبيض، لم تسل فيه نقطة دم واحدة، لكن البلاد جميعا باتت تعاني من فقر دم يهدد مقدمات حياتها.
كان المال شريكا في السلطة، يتلطى خلف السياسي، ويتسلل ليشرّع لنفسه الدور عبر النواب.
أما اليوم فقد دخل المال تلافيف النخاع الشوكي للحياة السياسية وبات هو »المركز« يأمر فيطاع، ويسمي فتنهال الأصوات على »المختار« وتحتفل الديموقراطية بمولودها الجديد.
ولو صدقنا، اليوم، ما يقوله المرشحون لرئاسة الجمهورية في بعضهم البعض، وما يطلقه كل منهم من اتهامات ضد الآخرين، تمس ذمتهم المالية، وتثير الشكوك حول مصادر دخلهم وكيف انقلبوا، في زمن قياسي، من موظفين ومهنيين يكسبون رزقهم (المحدود) بعرق جبينهم الى أصحاب قصور في البر والبحر والجو (حتى لا ننسى اليخوت والطائرات الخاصة)، لكان علينا أن نتنازل عن الكثير من تمنياتنا أو أوهامنا في العهد المقبل.
في أي حال فاللبنانيون واقعيون جدا، وسريعو التنازل عما لا يقدرون على تحقيقه، أو أنهم يرفعون مثالاً صعب المنال ثم تأخذهم السهولة الى الممكن أو إلى الواقعية، من دون أن يرف لهم جفن أو يجتهدوا في تبرير »تنازلهم«، بل يتصرفون وكأن ذلك كان خيارهم الأصلي وأنهم حاولوا حمايته بالادعاء أنهم يطلبون غيره.
التذمر هو البداية، دائما، وهو الخاتمة، لكن ما بينهما مكر شديد، أو تلمس لجدران بيضة الرخ طلبا لباب أو لنافذة أو لشق يمكن أن تعلق فيه الصنارة.
» لا والله، ليس سيئاً بقدر ما كنا نفترض. إن له رأياً آخر وموقفاً مختلفاً، لكن له مزاياه..
».. ثم انه ليس لصاً. فليس كل ما يملكه مال حرام. لعل صفقاته الأولى لم تكن شرعية وضمن القانون تماما، لكن التراكم حوَّل القليل إلى ثروة. ثم أنظر إلى عمره، لقد أمضى ثلاثين سنة يعمل بلا كلل.
»… كنا نحسب أنه قد بنى قصره الجبلي بالمال الحرام، لكنه مستعد لأن يقف أمام المحكمة فيثبت مصادر دخله. لقد أراني كشوفاً بحساباته في المصارف، وتبينت منها ان »مكتبه« (للهندسة، أو للمحاماة، أو للإشارات، أو للعقارات، أو لكل هذه المجالات مجتمعة) يكسب أرباحا ممتازة!
»أما صاحبكم الذي استورد أثاث قصره الجديد في بيروت من إيطاليا قبل أسابيع، فهل شرح لكم من أين له هذا؟!
»والثالث ذاك الذي يقيم المآدب كل يوم في قصره الريفي صيفا، وفي بيته الألف متر في أحلى عمارة في بيروت، شتاء، والذي تلقي زوجته أوامرها على عشرين خادما هنا، وعشرين هناك، فلا يعرف أحد من أين هبطت عليه الثروة«.
لتبرير »الساقط« الذي نؤيد لا بد من إسقاط الآخرين والتشهير بهم بحيث تبدو فعلة »من لنا عليه الخاطر« جنحة وليست جريمة!
»كلهم لصوص! كلهم يبذرون من عرق جباهنا! نحن من يدفع نفقات إجازاتهم الصيفية على شواطئ جنوب فرنسا، وإجازاتهم الشتوية في سويسرا أو ألمانيا، ورحلات الاستجمام التي يمضون فيها بضعة أسابيع (على فترات) كل عام في الولايات المتحدة!
لم تقل لي بعد: مع من ستكون أنت؟!«
نحلم بالأنبياء، ثم نطلب الأسوياء، ثم نرضى بالأشقياء.
نغني للديموقراطية ولا نمارسها، نهتف للحرية ولا نتمتع بها. نطلب نظافة الكف في القيادات ونهرب من التزاماتها بذريعة اننا نريد أن نعيش. نؤاخذ من ارتكب ثم نذهب إلى من نماشي طالبين منهم أن يرتكبوا لنسترزق »رحم الله من استفاد وأفاد«.
المثاليات للشعر أما الأصوات فلمن يدفع، أو لمن ينفع، أي لمن يخالف القانون.
بعد أيام، سيكون للبنان رئيس جديد.
مع هذا فإن كل إخواننا العرب يتابعون لعبتنا الديموقراطية بشغف عظيم، ويحسدوننا حسداً معلنا: ان واحدكم يعرف أربعة أو خمسة من الرؤساء، جاؤوا وذهبوا وبقي… أما سلاطيننا فقد ذهبت أجيال كثيرة منا وبقي واحدهم قائماً بالأمر فينا، يحيي ويميت، يمنح ويمنع. بين أبنائنا من لا يصدق أن السلطان يموت، لأنه قد سمع من أبيه الذي سمع عن جده عن هذا السلطان القائم والذي لا يموت، ليس قبله أحد وليس بعده أحد. أنتم تغيّرون الرئيس، أما سلطاننا فيغيّر رعيته.
قاسم حداد يبعث الرجل في قيس لتكون ليلاه امرأة!
أعاد قاسم حداد قيس بن الملوح العامري الى رجولته المهدورة.
ركب الأخيلة، وولج الأحلام المرصودة، وتوغل في الرؤى المنداة بدمع الهجر والحرمان بالأمر، حتى بلغ مضرب الهوى المسفوح فالتقاه.
قيس بن الملوح يسكن في شعره، فإذا ما توقفت التلاوة، وتصاعدت التنهدات، تسرب، كما الهواء المضمخ بطيب ليلى ليملأ الفضاء بصورته الهيولية والتي ملامحها أجنحة الفراشات.
لا عنوان لقيس خارج ليلى ولا موطن لليلى خارج القصيدة.
وفي القصيدة التقاهما قاسم حداد فأعاد غزلهما ومد لهما الفراش وأخذ عن قيس عبء الشعر وتركه يتلاشى معها في الآهات المنغمة لعذاب الشهوة الحلال.
»سأقول عن قيس
عن حزنه القرمزي/ عن الليل يقفو خطاه الوئيدة
عن الماء لما يقول القصيدة
ويا قيس، يا قيس، جننتني أو جننت
كلانا دم ساهر في بقايا قصيدة«.
دخل قاسم حداد إلى التهويمات فأمسك بها بشغاف قلبه وأضاف إليها آلامه وجراحاته وتمثلاته فإذا قيس مثله إنسان من لحم ودم، وإذا ليلى امرأة، وإذا الإثنان يستكملان فعل الحياة، وإذا قاسم قد أخذ الشعر ودفعه إلى ضياء العزاوي ليصوغه باللون والظل والتوهم لوحة للحقيقة جميلة بعريها كما التصاق الجسدين.
أعاد قاسم حداد الى قيس ذكورته التي طمستها أسطورته التي أحالتها الى طيف، فإذا ليلى انثى تخترق القصيدة وتمرق منها إلى جسد الشاعر المضنى فتأخذه بها وتكتشف فيه منابع جديدة للحس تنهل منها حتى تروي عطشها وتطفئ بعض مكامن النار التي لا يهدأ لها أوار:
»يكاد يخف إليها من مكانه انجذاباً وهي تذهب عنه ذهاب القميص مسلولاً عن الجسد، فأدركت قيساً ريح باردة مسّت صدره المكشوف بعد انسلال القميص. جالس في غرفة الطريق يسقي النسوة شعراً ويبكي عطشا وهن يتضاحكن مما يثيره الحب في كيانهن الذي من ماء لا تطفئه النيران يتضاحكن وهو يبكي وشمسه الصغيرة تذهب.
»… له الله، تلك حبيبته في السبايا، يسير يحمل جثمانه، شاخصاً في غبار القوافل، تحدو وتتركه في البقايا. رأيناك يا قيس، يا قيس، يا تاجنا في الضحايا.
»تتمرغ في ثناياه ويندس في أردانها، تتدافع به ويترنح معها، تتهدج ويتهجد ويختبل ويصيبهما مثل الهذيان، والسهرة سرادق بلا سرادق بلا سقف حتى يمسهما صوت الفجر فيخرجان من بعضهما كما يخرج الحالم من الحلم«.
لأول مرة يتبدى قيس رجلاً، والرجل أجمل من الطيف. والحب أجمل من الشعر. لا ينطق الحب إلا شعراً، أما الشعر فلا ينجب الحب بل يغنيه:
»آتيك، آتيك، لا أنت في الشك ولا أنا في الغفلة. أمضني السفر وثلجه، الصمت وجحيمه… فعليكِ أن تشقي لي القميص على آخره كي أدخل أنى أتيت وأخرج أنى ذهبت.. عليك أن تجعلي باب الخباء متروكاً بعدي لكي تدخل البادية كلها والحضر كله«.
ليلى ظلت داخل الشعر وخارجه امرأة. لكن تجسد قيس رجلاً رجلاً أطلق سراح الأنثى في ليلى.
».. واستزدتها فزادت: في تلك الساعة تفلت الأزمَّة والأعنَّة ولا تكون القيادة محصورة في واحد ولا يقدر عليها اثنان ولا يعود للحدود معنى فالغيم نازل يمسح العلامات والملامح ولا يسعف البصر ولا البصيرة وتبدأ حواس لا حصر لها في الشعر.. أي النصفين يكون حلالاً مباحاً للحبيب في جسد الحبيب. ففي تلك الساعة لا نعرف أينا يشعل جسد الآخر وأينا يطفئه، أينا الجمر وأينا الهواء.
»تمتع بليلى، إنما أنت هامة
من الهام يدنو كل يوم حمامها
تمتع إلى أن يرجع الركب انهم
متى رجعوا يحرم عليك كلامها..
».. وكنت وعدتني يا قلب أني
إذا ما تبت عن ليلى تتوب
وها أنا تائب عن حب ليلى
فما لك كلما ذكرت تذوب«
لأول مرة قيس وليلى رجل وامرأة وثالثهما الحب، يغلب الصد واضطهاد القبيلة، يقهر المطاردين الكثر، يتخطى حواجز عار التشبيب والعيب وخوف العواذل.
لأول مرة يعيش قيس وليلى مشاعرهما، يخرجان من الشعر ليدخلا الحياة ويتمتعا بشميم عرار نجد، مدركين أن ليس بعد العشية من عرار.
ليهنأ قاسم حداد بشميم هذين اللذين حولهما من تماثيل لأسطورة مستحيلة إلى إنسانين عظيمين على الأرض كما في الشعر في الأعالي.
قصص مبتورة!
} حين مدَّ إليها يده مصافحاً قرأ الارتباك واضحاً في عينيها وفي يدها وقد مدّتها بحذر واضح وسحبتها وهو بالكاد قد لامسها بأصابع يمناه.
قال: لعلني تسرعت.
ردت وهي تدير وجهها إلى الناحية الأخرى: بل أبطأت كثيراً. لو عرفتك جباناً لما غامرت.
لم يعرف ماذا تعني تماماً، فاستوضحها: وأين الجبن؟ وأين المغامرة؟
قالت وهي تبتعد: رأيتك ولم ترني… هذا كل شيء!
لم يتمالك نفسه من اللحاق بها، فسمعها تقول بغير أن تلتفت:
الآن تتسرّع، فتراني ولا أراك. لعلنا، في مرة أخرى، نصل في الوقت!
} كان قد نسي في يده الوردة، وكان قد سقط منه الوقت.
ببساطة مدّت يدها فأخذت الوردة، ثم توغلت داخل الوقت بينما تسمّرت عيناه على عقربي الساعة تسألهما عن موعد الموعد المضيّع!
} قالت وقد جمعهما المكان: ينقصنا الزمان!
قال وقد جمعهما الزمان: ينقصنا المكان!
وقال الزمان للمكان: أنا أزيد ولا أنقص!
قال المكان للزمان: أنا ثابت خارج الزيادة والنقصان!
قالت وكأنها سمعت: لماذا تغلقان أمامنا الأبواب جميعاً حتى باب العذر!
قال وكأنه سمعها: عذراً، هل تعرفين باب الخروج؟!
} تربّع وسط صحبته وأخذ يحدثهم عما رأى في ما يرى النائم.
قال الأول: عرفنا في يقظتنا ما هو أمتع،
قال الثاني: ورأينا ونحن نيام ما هو أروع
وسأله الثالث: ومتى تستفيق؟!
أما الرابع فقام وهو يقول: الفراش مصنع الأحلام.
وبقي وحده، فانفجر ضاحكاً، ثم قال لنفسه: لن يروا أبداً ما رأيت. لا شراكة في اليقظة، لا شراكة في الأحلام!
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ليس الحب حصيلة جمع أنانيتين. لا تلتقي »أنا« مع »أنا«. يصير المحبان »نحن« أو يموت الادعاء بأنهما محببان، يصيران، في لحظة، كل الناس. تسقط أنانيته، تسقط أنانيتها، ويرتفع صرح الكيان الجديد الذي وُلد من اجتماعهما والذي يضيف إلى الناس ولا يأخذ منهم. الحب كل الناس وقد اجتمعوا في واحد.