عن ديموقراطية الحرب وإعلام الموت! (طلال سلمان)
على امتداد شهر طويل، أقعى العرب على أقفيتهم وجلسوا يتابعون على شاشات التلفزيون صور الحاملات والمدمرات والطائرات والدبابات والمدافع والصواريخ وقاذفات اللهب والقنابل الموجهة بالليزر، وتلك الاذكى التي توجه ذاتها بذاتها أو تسترشد بصورة ضحيتها.
كانوا كمن يتفرج على موته، متباهياً بأنه لن »يباد« بسلاح عادي كالبندقية أو السيف أو الحبنجر أو الرصاصة أو القذيفة العادية، ولكن بأرقى ما ابتكره العقل الإنساني من أسلحة الدمار »غير الشامل« إلا لبلده!
سمعوا آلاف الأخبار والتحقيقات والتحليلات والتقديرات الاستراتيجية، التي طمأنتهم جميعها الى انهم ميتون… ولأنهم قدريون ومسلِّمون بقضاء الله فلم يعترضوا على واقعة الموت بذاتها، لا على الأسلوب، ولا على الحجم، ولا على الهدف المرتجى، وإنما أرادوا أن يفهموا، من أعدائهم، السبب: أي ماذا ارتكبوا من خطأ جسيم يستحقون عليه مثل هذا العقاب؟!
شاهدوا وسمعوا كلينتون وآل غور، مادلين أولبرايت وكوهين، رجال البنتاغون والسي. آي. ايه.، الكتّاب الكبار والمذيعين الأكبر في السي. ان. ان والآي. بي. سي والسي. بي. اس. والبي. بي. سي. البريطانية والقنوات الأولى والثانية والخامسة الفرنسية.
قرأوا أو قرئت عليهم النيويورك تايمز والواشنطن بوست والهيرالد تريبيون، التايم والنيوزويك، الفايننشال تايمز والغارديان والأوبزرفر، النوفيل أوبسرفاتور والاكسبرس، لوموند ولوبوان، عدا عن هآرتس ويديعوت أحرونوت وجيروزاليم بوست الخ،
اكتشفوا ان الولايات المتحدة الأميركية ذات النظام الرئاسي، أي حيث يُنتخب الرئيس مباشرة من الشعب، ليست فردا صمدا، ليست »قائدا« ورعية، بل ان فيها إدارة يضبطها ويحاسبها كونغرس، والكونغرس جمهوري وديموقراطي، وإعلام متعدد الاتجاهات وله تأثير يتجاوز أحيانا المؤسسات جميعا ويؤثر على قرارها فيغير فيه أو يبدله تبديلا، وان في الادارة يهودا وبروتستانتا وبعض الكاثوليك وفتيات يجعلن السحّاب ينزلق في سراويل بيل كلينتون فيأخذه الى قفص الاتهام أمام قضاء لا يتوقف كثيرا أمام »هيبة الرئيس« الذي في مثل تلك اللحظة يكف عن أن يكون رمز البلاد، ويصير شخصا عاديا، إن أخطأ حوسب وربما خُلع من منصبه الخطير!
اكتشفوا ان كل بلاد الدنيا بناسها، إلا بلادهم فهي برؤسائها!
فلكل بلد في العالم اسمه المتعارف عليه، سياسيا، والمحدد على الخريطة جغرافياً، ما عدا بلدانهم، التي تختزل أو تختصر ربما من باب التغنيج والتحبّب بأسماء حكّامها الذين يندر ما كانوا منتخَبين، والذين بعدما أخذوا السلطة عنوة انتخبوا هم »الشعب« الذي سيشرّفونه برئاستهم!
ولكل بلد في الدنيا سياسته وساسته… فيه الحكم، وفيه المعارضة، وفي قلب الحكم تيارات، وفي المعارضة اتجاهات، وثمة صراع بين التيارات لا يخجل منه ولا يداريه أحد، يتعدى الشكل إلى المضمون، وقد يبدل في الحكم فتذهب حكومات وتأتي أخرى من دون أن يتهاوى الكيان أو يتصدع النظام أو يقلق الشعب على المصير!
إلا العراق…
ففي الأزمة الأخيرة، كما في الأزمة التي قبلها، والتي قبل قبلها، كان العراق يختفي تماما ولا يظهر في الصورة إلا صدام حسين.
وبغض النظر عن شخص صدام حسين وكفاءاته العلمية والعسكرية، السياسية والإدارية، فإنه بالتأكيد ليس العراق.
لا يمكن أن يُختزل العشرون مليون عراقي، بعربهم وكردهم، بأشورييهم وكلدانهم، بالصائبة والتركمان واليزيديين، بشخص واحد.
لا يمكن أن تُختزل »بين النهرين«، مبدعة الحضارات الأولى، ومركز أعظم امبراطورية عرفها العالم القديم، والبلد الذي أعطى الدنيا ثقافة وعلما وفناً خالداً، برجل واحد كائناً مَن كان: لا نبوخذ نصر، ولا حمورابي، لا أبو جعفر المنصور ولا هارون الرشيد، لا الخوارزمي ولا مؤسِّس دار الحكمة.
اختفى ملايين الرجال والنساء والأطفال، المحاصرين والمجوَّعين حتى الموت، ولم يُظهر (الاعلام الرسمي) منهم إلا طوابير الذين يتدربون متأخرين على بنادق فارغة، أو جنازات الأطفال التي فجأة تمّ التنبه إليها، بينما مواكبها تترى منذ سنوات.
وفي لحظة غدا العراق، في الاعلام العالمي، مجرد مربعات طائفية أو مذهبية أو عرقية: الشمال كردي والجنوب شيعي والوسط سني، أما الشرق فقيد الدرس، وأما غربه فقد سقط سهواً لتعذر التصنيف.
في الاعلام الرسمي ألغيَ العراق،
وفي الاعلام الغربي ألغيَ العراق،
وفي الاعلامين تحول العراق إلى مجرد خزان للأوبئة والقنابل الجرثومية والكيماوية، أو مجرد أرض تجارب لمثل هذه الأسلحة. وفي الحالين تبدى في صورة وحش أسطوري يهدد العالم كله بالدمار، يهجم على البشرية بمخزونه من أسلحة الدمار الشامل أو يتلقى ضربة تأديبية بما يحصره سمه فيه فيموت لتنجو البشرية.
هذه ثالث أو رابع أو خامس أو ربما سادس حرب يخسرها العرب من قبل أن تبدأ، وبمعزل عن شكل النهاية المريعة؛
من الحروب الإسرائيلية في فلسطين و»دول الطوق«، سابقا، إلى الحروب الأميركية في الخليج، تتكرر المأساة بفصولها ذاتها، فريدة ومنقحة في كل طبعة جديدة.
يختفي، في الاعلام، المواطن نهائيا.
يتواطأ الاعلام العربي مع الاعلام الغربي فيمحو صورة المواطن العربي والقطر العربي المعني، فلا يتبقّى منه إلا حاكمه الذي يقدَّم في مزيج من هتلر ودراكولا.
وفي هذه الحالة فإن الرعايا الخاضعين لهتلر يستحقون التأديب، ولو بالموت!
الطريف ان الغرب يؤدّب مثل هذه الدول ذات الأنظمة الدكتاتورية على نقص الديموقراطية فيها، وتزعم حملاته الاعلامية في جملة ما تزعم ان الحرب ربما حملت أو أوصلت إليها الديموقراطية: إسقاط الطاغية!، تمكين الشعب من التعبير عن رأيه!!، إتاحة الفرصة للحرس الجمهوري أو للجيش لخلع الطاغية!.
والأطرف أن الحملة الغربية تخرج من بلادها لتدمر بلاد الآخرين بقرار يعبّر عن التزامها الديموقراطية: كونغرس وتصويت وتفويض، بالأساليب الديموقراطية تماما..
أي اننا نُقتل بقرارات ديموقراطية،
ونُقتل مرة ثانية لأننا لسنا ديموقراطيين.
يحيا الاعلام العربي!
تحيا الديموقراطية الغربية!
يحيا الحاكم الذي يلغي شعباً ودولة ليؤكد وحدانيته، ديموقراطياً!
تحيا الديموقراطية الغربية التي تسحق لتبقي حاكماً، بحجة انها إنما تؤدب الشعب المعني وتحرّضه على طلب الديموقراطية!
لك أن تختار موتك: بصاروخ؟! بقنبلة جرثومية؟! بمواد كيماوية؟! بقذائف تصلك عابرة القارات؟!
أما حياتك فتصنعها أنتَ… متى قرّرتَ أن تصنعها!
نصيحة عمرها نصف قرن إلى الدولة البغل!
للجائع البندقية و»إرهاب الدولة«، أما الغني والنافذ فلهما الدولة وخيراتها!
ليست »الدولة«، بعدُ، »الأب الصالح«، ولا هي المؤسسة الجامعة المحققة للمساواة والعدالة والإنصاف بين »مواطنيها«، بل ان »شعبها« ليس في نظرها مجموع مواطنيها، بل هو مجموعات من »الرعايا«: رعايا الاقطاع القديم، أو رعايا الرأسمالية المتوحشة، أو رعايا »أصحاب الدولة«.
تارة تعطى للرعايا هويات طائفية، وتارة هويات مذهبية، وتارة ثالثة هويات جهوية، المهم ألا يُحتسبوا في عداد المواطنين أصحاب الحقوق الشرعية في خيرات بلادهم، أو في مشاريع تنمية مواردها… وهم الأصل في الموارد: أليسوا الآكلين من جهدهم، الشاربين من عرق جباههم، وهم البناؤون والزارعون والفلاحون والصنّاع والدارسن المدرّسون والموظفون والكادحون المعطون نتاج جهدهم للدخل القومي؟!
قبل »ثورة الجياع« الأخيرة، كان المحرومون، الذين لا يجدون من الخبز ما يكفي عيالهم، قد رفعوا صوتهم، أو حاولوا رفعه بالاحتجاج أكثر من مرة، في »بلاد« بعلبك الهرمل، أقله للفت نظر »الدولة« الى واقعهم البائس.
وأكثر من مرة كانوا قد شكوا وتظلموا ونظموا العرائض والاحتجاجات ليلفتوا نظر الدولة الى أنه لا يجوز أن تستمر المفارقة: يعطونها أبناءهم لعسكرها، فلا توجه عسكرها إلا لتأديبهم… كأنما التأديب يلغي الجوع أو يزيد من دخل مَن لا دخل له، أو يقوم مقام الجامعات والمدارس والمستشفيات والمستوصفات والطرق والمصانع والإرشاد الزراعي واستصلاح الأراضي ومساعدة الفلاح بالجرار والبذار والأسمدة والقروض الميسرة.
هنا وثيقة عمرها نصف قرن، تقريبا، تثبت »عراقة« المشكلة في تلك »البلاد« التي لم تعرف الدولة إلا بندقيةً، كما تثبتت ان »الدولة« أعند من بغل، وأنها ثابتة على موقفها!! لا تبدل فيه مهما تبدل أصحابها.
الوثيقة نص مستخرج من كتاب »بغية الراغبين في سلسلة آل شرف الدين تاريخ أجيال في تاريخ رجال كتاب نسب وتاريخ وتراجم« للراحل الكبير الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين.
النص مستخرج من كتاب وجهه الإمام شرف الدين الى رئيس الجمهورية الشيخ بشارة الخوري على اثر تجريد حملة عسكرية على عشائر الهرمل، وذلك في أيلول سنة 1949/ ذي الحجة سنة 1368. وقد جاء فيه:
وبعد..
فإن عشائر الهرمل، لم يخرجوا على طاعة، ولا فارقوا جماعة، فلمن إذاً تسرج الخيل العراب، وتشرع الأسنة والحراب؟
ألهؤلاء… وهم أباة ضيم، لا يبيتون على خسف ولا يقيمون على هوان، في عصر تفتحت على نوره العقول والأبصار، واغترف منه لبنان، حتى غدا قبلة الأنظار، من دون أن يصيبهم صيب من ديمته، أو فاضل من نعمته، بل تُركوا للتخلف يحبس عليهم في مكانهم، يتآكلهم الثأر، ويغتالهم الجهل والمرض والفقر، حتى أصبحوا بين نارين؛ نار الحكومة الموقدة، ونار أوضاعهم الموصدة.
وإن أخشى ما أخشاه، أن تدخل النائحة إلى كل بيت في لبنان، إذا التقى الجمعان، والتحم الصفان. فالحملة العسكرية لا يستهان بها عدة وعدداً، والمعتصمون في الجرود لهم من المواقع ما يسلطهم على الوقائع، والدم ينادي الدم!…
ألاَ أعدتم النظر يا صاحب الفخامة، في أسلوب تأديب الجامحين وغزو المتمردين؟
ألاَ ترون أن تغزوهم بجيش من التسامح تريشون به جناح الوطن المهيض، وتشفون جنبه المريض؟
ألا ترون أن تؤدبوهم بنقلهم من البداوة إلى الحضارة، ومن البطالة الى العمل، ومن اليأس الى الأمل؟…
ألا ترون أن إعمار المدارس والمستشفيات، يغني عن إعمار السجون والقبور؟ وشق الشوارع والطرقات يغني عن شق الجيوب والصدور؟
أجل: إن لنا من سمو خلقك وفكرك وسعة أفقك وصدرك، ما يكفل تحقيق ذلك، ويضمن للبنان التقدم والازدهار، ولأبنائه السعادة والخير والاستقرار…
والسلام عليك تفشي السلام، وترعى الذمام!…
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
كلما سمعت عن نجاح باهر أدركت أن وراءه قصة حب… وكلما سمعت عن فشل أحسست أن الحب يذوي ويتراجع. الفاشل لا يعرف كيف يحب. إن الحب جدارة، ومَن كانت تنقصه الجدارة فلا يعرف أن يحب.
حبيبي فوق، كيف أبلغه وأستحقه إن لم أرتفع إليه؟!
إن حبي يحفزني كل يوم على اختراق الحجب والارتفاع أعلى وأعلى… وحبيبي ينتظرني على القمة. القمة جائزة المحبين.