طلال سلمان
*****
هوامش
عن أحزاب البكاء وسلطة الأحزان
صغاراً كنا حين وافقت أمهاتنا، وبعد توسل دامع، على اصطحابنا إلى موائد البكاء لمناسبة العاشوراء.
كانت »مجالس العزاء« تقام في القاعة الخارجية للمزار المجهول صاحبه والذي منحه الناس، باحترامهم الشديد للمجهول وبعشقهم العميق للأساطير، مرتبة القديس أو الولي الصالح.
عند الباب الخارجي كنا نحتشد، نحن الصبية، نتأمل قوافل النساء الآتيات بملابس الحداد، والحزانى من قبل ولادتهن بدهور، واللواتي بالكاد يمسكن أنفسهن عن الانتحاب حتى يبلغن المقام ويشرفن على المشهد الكربلائي الذي لا يغادر مخيلاتهن أبداً.
وبرغم أننا لم نكن قد بلغنا بعد سن المراهقة، فلقد كنا نصاب بخيبة الأمل ونحن نتطلع إلى الوجوه الترابية فترتد إلينا عيوننا وكأنها اصطدمت بالفجيعة، ويكاد يستقر في إدراكنا أن ليس للصبا والجمال والهوى والشباب مكان في حياة هؤلاء المعذبات من المهد إلى اللحد: على أيدي آبائهن بداية، وأشقائهن إلى جانب الأمهات والآباء متى قاربن سن البلوغ (وهي مبكرة جدا وتعلنها بداية التفتح أو التكوّر في أجسادهن)، ثم أيدي أزواجهن الذين لا يختلفون صرامة، وربما قسوة، عن أسلافهم الصالحين.
يدخل »المقرئ«، وقبل أن يتخذ مجلسه ويباشر قراءة »المصرع«، يتسلل إلى أسماعنا، نحن الصغار المحتشدين إلى جانب الأحذية عند العتبة، نشيج خافت، لا تسكته إلا الدعوات إلى توحيد الله وتكبيره والصلاة على خاتم الأنبياء وسيد المرسلين.
يبدأ »المقرئ« روايته بشيء يشبه الشعر ولكنه ليس منه، ومع مباشرته سرد وقائع الرحلة الأخيرة لقافلة سيد الشهداء تكون النسوة الغاطسات في السواد قد غرقن في نحيب لن ينتهي إلا مع نهاية التلاوة التي سيقل تدريجياً عدد مَن يستمع إلى تفاصيلها إلا عند الوقائع الدموية المفجعة التي تترافق مع محاولة الوصول إلى الماء.
يتحوّل »المقرئ« الى »بكَّاء«، وإن ظل قادراً على أن يراقب من تحت جفنيه، بين الحين والآخر، مدى استغراق النسوة في بحيرة الحزن المفتوحة بلا ضفاف على تلك المأساة الإنسانية الفريدة، أقله بهوية ضحاياها المشرَّفين نسباً والمميَّزين مسلكاً والمقتدى بسيرتهم العطرة في كل زمان ومكان.
أما نحن الصبية فكنا ننتظر أن تحين اللحظة الموعودة حين يتم توزيع »الحلوى«، وكانت غالباً ما تقتصر على راحة الحلقوم مع البسكويت وربما شيء من الملبس.
لم يكن الظلم يأتي من الخارج. كان البكاء على ظلم الحاضر الذي تقرر الرواية أنه مستمر، متصل حتى ليكاد يكون هو القاعدة: نولد مظلومين، نعيش مظلومين وبالظلم وفيه نموت.
الظلم عند الباب. الظلم في الطريق الترابية المعتمة. الظلم في القرية المطفأة العيون. الظلم في المدرسة التي يغيب عنها العلم والمعلمون ولا يسكنها إلا الذلة والعجز عن التغيير.
من يوجه الظلم الى الخلف؟! من يجعل الأمل وراء ظهره؟!
مَن، الآن وهنا، يريد أن ينتقم من الخطأ العتيق الذي ضاع مدفنه لأن من تورطوا فيه لا يتمنون شيئاً ولا يطلبون غير النسيان؟!
الظلم هو السلطة، إذاً، والحزن اعتراض، وللمعارضين المقتلة.
لكن المقتول ظلما لا يموت، والحاكم بالقتل ظلما لا يجوز أن يحيا.
الظلم سياسة، إذاً، والمظلوم »متآمر« يريد السلطة، والبكاء حزب الانقلاب، و»المقرئ« داعية للنظام الجديد الذي سيولد من قلب النحيب الذي يحفظ الحق من أن يُهدر و»الشرعية« من أن تُزوَّر وتعطى لغير أهلها.
كان علينا أن ننتظر زمناً قبل أن يصبح للبكاء أحزاب ومؤسسات وسلطة لا تجد لحماية أنفسها ما هو أفضل من الاستمرار في البكاء لتؤكد شرعيتها.
لكننا، ونحن في قلب الحزن، نفتقد الحزن الداكن المحفور في مآقي عيون الأمهات المولودات في قلب السواد، والمعشش داخل الأخاديد التي شقها التعب في وجوههن.
يحزن الناس من السلطة ولا يحزنون عليها.
تخاف السلطة حزن الناس ولا تحزن على خوفهم.
لا تلتقي السلطة بالحزن، يذهب الحزن إلى أهله الناس وتبقى السلطة في وحشة الفراغ والعدم ترعبها أصوات عويل المظلومين.
ولا بد للمظلوم من سيف. الدمع لا يسقط الظلم ولو صار طوفانا.
توقفوا عن البكاء، واشهروا أحزانكم سيوفاً لكي تصنعوا فرح الأيام الأخيرة للأمهات اللواتي لم يعرفن طعم الفرح لأنهن لم يلمحن في أياديكم غير »البسكويت« الذي يوزع عن أرواح الذين سقطوا من دون حلم التغيير الذي يبحث بعد عمن يرفعه راية للغد الفرح الموعود.
محمد علي شمس الدين على وشك أن يقول
الشعر هو الشاعر، والشاعر هو الحب والجمال، الحزن والتعب، الحلم والأرق، هو لحظة التمني وانفجار الزمن بالموعد المضيع على رصيف الشجن.
يتلبّسك الشاعر حتى لينطق بكلماتك، ولوحده تسمح، بل وتبتهج، بأن يقرئ حبيبك السلام، وبأن يعيرك أنفاسه لتلقّح بها عشقك داخلاً إلى روعة الجنون في بركان الظمأ.
تكاد تمسك به وهو ينزح رؤاك وأفكارك، أشواقك وتهويماتك، ليجعلها مشاعاً فيفضحك، ثم تبتهج لأنه غمر الناس بفيض حبك، ولأنه شريكك في التواطؤ إذ أوهم الناس انه يتحدث عنهم بينما أنت القصد والمقصود… وفي آخر القصيدة ينتصب الوهم مرهفاً وله ملامح الشاعر ورنة إبداعه المغنَّى.
محمد علي شمس الدين هو الالتباس المطلق، إذ لا حد فيه بين الشعر والشاعر وبينك أنت الذي تتماهى مستمعاً وقارئاً وموضوعاً وراوية وقافلة الشطر الأخير:
»كالنرد/ أقذف أيامي/ على عجلِ
وأنحني/ كي أرى في وجهه قدري
فواحد مثل شكي/ وهو مبتدأ
واثنان اخر ما يأتي به خبري
ولي ثلاثة أحوال يغرقها
ويحتويها قران الشمس بالقمر
لا يلتقي فوق جسمي وهو أربعة
من العناصر إلا الريح بالشجر
فإن تقابل ضداها بها اشتعلت
غمامة الله بين الركن والحجر«.
والشاعر هو السائل وهو الجواب المولّد لمزيد من الأسئلة:
»هل أقدر أن أفتح شباكاً/ نحو الله
أسأله/ يا جار/ تعال وساعدني
تعبت عيناي من التحديق بأحزاني«
والشاعر هو الذي يقف على حافة النبوءة ثم يخاف منها فيرتد عنها ولا يكذبها:
أنا الذي أتيت/ كي أزن للرمال عرسها
وأبعث الحياة في برودة الحجر
وأنحني كدمعة المطر
على يباس هذا العطش المجهول«
والشاعر هو الذي ينفخ من روحه في الماضي فيستحضره ويعتصر أحجاره لتقول ما اعتقله الخوف أو ما أطلقته للتمويه الخرافة:
»مائة/ واثنان/ وسبعة أقطاب
يحتفلون الآن بميعادي
في/ حفرتهم/ ويتوجني موتي/ ملكاً
فوق بلاد/ أجمل ما فيها/ قتلاها/«.
والشاعر هو الذي ينبت من الأحزان وروداً يجعلها صبحاً لأمل جديد:
»كان يا ما كان من عشرين عام
قرية أجمل من مليون عام
ينحني بين أيديها النهر
والريحان يهديها السلام
كان فلاحون مشدودون للطين
وفي الطين الثقيل
ابدعوا بالمعول الحر
زمان المستحيل«.
والشاعر هو الذي يضيء ما انطفأ ويشعل الأسماء التي لا تموت منارات على طريق الحياة المتجددة، وهكذا يعود ليبقى معنا حسن كامل الصباح:
»أسلاك هذا العالم القديم/ أظلمت
وأنت من دفعت فيه/ دفقة الضياء
وأبصرت عيناي وجهك الذي
ينام في أصابع السماء والشجر
وكان يحتويك الضوء والظلام
والسحاب والجنوب والقمر«.
والقصيدة النهر التي بدأت مع »حبيبتي آسيا«، قد بلغت منازل النرد وهي لمّا تكتمل. فالشاعر على وشك أن يفيق، على وشك أن يقول.
قصص مبتورة
} كان يمج من لفافته بحماسة ظاهرة كأنه يعتصرها حتى الثمالة!
وحين عبق جو الغرفة بغيوم الدخان جلس مسترخياً يداعب نساءه الكثيرات ويحابي بعضهن استفزازاً للبعض الآخر، حتى إذا حمي وطيس الشجار بين العشيقات المتنافسات غرق في نوم عميق!
} في المطعم الفخم جلس إلى طاولته المفردة نافشاً ريشه كالطاووس، تحيط به كوكبة من نساء الماضي يتخللهن بعض الرجال المتقاعدين الذين يدفعون ثمن الغداء استماعا لمغامرات الأمس والنكات الجنسية البليدة.
فجأة خطرت تلك الحسناء شامخة الجمال، فدارت الرؤوس والعيون تتسلقها ثم تتهاوى في غياهب الجهل: هي جديدة تماما، لا يعرفها أحد!
قال الطاووس: لا بأس، ستعرفنا هي!
لكنه حين تعرّف إلى صحبتها لم يستطع صبراً، فقام إلى حيث جلست ليستكمل التعارف فلم ينل أكثر من هزة رأس خفيفة وشبه ابتسامة عابرة ونظرة خاطفة أحس لها وقع السوط.
قال وهو يهوي فوق كرسيه، من جديد: المخدرات أفسدت علينا الناس والأمكنة!
ولم يُعرف قصده بالضبط، خصوصاً ان ماله ليس أكثر نظافة من مال تجار المخدرات… لكن الأخبث من بين صديقاته قالت بما يشبه الهمس: أخبَر الناس بالفساد هم الفاسدون، وأصلح الواعظين ذئب عجوز اكتشف متأخرا أن فريسته أقوى منه!
} قال يشكو همّه لصديقه: لكثرة ما أهجس بالنساء وأطاردهن بلا ملل لم أعد أستطيع الاستمتاع بصبحة واحدة منهن بالذات.. لقد صارت المرأة بعيدة عني بعد العين عن العين!
} قالت متأففة: يأخذ عليّ أصدقائي، مؤخرا، أنني أتصرف بحماقة.
وردت صديقتها بنبرة يفح منها الحسد: هنيئا لك حبك الجديد!
} جلس يشكو إلى صديقه بؤس حاله.. قال: الفقر يطارد الحب وقد يقتله.. إنني لا أملك ثمن بيت أتزوج فيه مَن أحب!
ورد صديقه متأففا: هنيئا لك حبك! عندي بيوت عديدة وأتسول كلمة حب! كلانا يحسد الآخر على همه!
} قال بلهجة الحكيم صاحب التجربة:
بعض النساء لا يعرفن الحب المفرد! أعرف امرأة لا تحب الرجال إلا اثنين اثنين! إنها تريد رجلاً ثانياً لكي تظهر حبها للأول.. أو أنها تريد أن يجتمع عليها المحبون لكي تتدلل وتمارس غنجها عليهم وتباهيها على صديقاتها. وفي العادة، فإن مثل هذه المرأة لا بد من أن تفيق ذات يوم من أوهامها فتغرق في بحور المرارة… إنها تفترض أن الرجال سيظلون يطاردونها، ويتهاوون في الطريق إليها واحدا بعد الآخر، فمن صمد كانت له.. وتنسى أن في الطريق الكثير من النساء، وأن الغيرة وحدها لا تنفع مصيدة للمحبين.
وعلق أقرب أصدقائه إليه بقوله: لقد طالت مطاردتك، كما يبدو، فأنضجت حكمتك!
} قال يشكو لنديمه:
إنها تبيعني رغبتي بالتقسيط! تستدرجني بالنظرة، بالهمسة، باللمسة، فإذا أقبلتُ تمنّعتْ، وإذا ابتعدتُ عنها أقبلتْ عليّ تظهر الندم! إنها تحاصرني وتذل رجولتي! ألم تجد وسيلة أفضل لتأكيد أنوثتها… وما نفع الأنوثة ولا رجال؟!
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
أعظم ما في حبي أنه يمنحني الدهشة. معه أعيد اكتشاف كل ما هو جميل وبهي وشهي. قبل حبيبي كانت الدنيا بلا قمر ولا ياسمين ولا بلابل ولا قوس قزح. حبيبي أعطاها منه رونقها، وأعطاني عينين جديدتين لأرى نفسي رجلاً. يصنع المرأة الرجل، ثم يكتشف أنها إنما هي التي تعطيه رجولته.. فيتكاملان.