الجلاد »يكتشف« ضحيته
الخبر من هندوراس، وقد نشرته الصحف على صفحاتها الأخيرة باعتباره من »الطرائف« مع أن التدقيق فيه يؤكد جديته، ولو من حيث المبدأ،
يقول الخبر: إن منسق مجلس المنظمات الشعبية سلفادور زونيجا أعلن أن »محاكمة رمزية ستعقد ابتداء من 20 تموز المقبل لكريستوف كولومبوس وعصابة من القتلة وأتباعهم الذين رافقوه في عملية غزو بلادهم«.
ولقد اختير موعد المحاكمة (20 تموز) لأنه يوافق احتفال هندوراس بيوم »ليمبيرا« الذي يحيي ذكرى التصدي للاستعمار الإسباني، أما الحكم وسيكون إعدام كولومبوس فسينفذ في 12 تشرين الأول، وهو يوافق يوم وصوله إلى الشاطئ الأميركي.
من زمان وتلك الجملة البسيطة التي تبدأ بها الكتب المدرسية حكاية »اكتشاف أميركا«، تحيّرني وتشغلني فلا أستطيع أن أقبلها ببساطة، ولا أستطيع أن أرفضها حتى لا أتهم بالجنون،
ولقد كانت تأخذني كثير من الأفكار الساذجة والمبسطة، من نوع: كيف ولماذا اتفقت الروايات الرسمية أو المعتمدة رسمياً وتوحّد النص المدرسي عن »اكتشاف« أميركا، طالما أن تلك »المجاهل« كان بها أهلها، وكانوا يعيشون فيها مثلما يعيش الإسبان في إسبانيا والإنكليز في بريطانيا والفرنسيون في فرنسا وسائر خلق الله في بلاد الله الواسعة؟!
مَن تراه اكتشف مَن، يا ترى؛ الرحالة الإسباني الذي خرج من بلاده في مهمة استعمارية، ولكي يأتي بثروات الأرض للثنائي الملكي بطل محاكم التفتيش وإبادة العرب والمسلمين واليهود في إسبانيا، أم أولئك الأقوام أو »الشعوب« التي كانت تعيش كما تسمح لها ظروف حياتها بالعيش في بلادها المخبوءة خلف البحار والمحيطات؟!
ما قُدِّم إلينا مع الكتب المدرسية، ثم في الروايات الرسمية، ثم في الأشرطة السينمائية، أن الرجل الأبيض قد حمل الحضارة إلى تلك البلاد البعيدة التي كانت شعوبها تعيش حياتها بسلام، فلم يعرف عنها أنها اعتدت على غيرها أو ركبت البحر إلى بلاد أخرى لكي تعمل السيف في أهلها وتنهب خيراتها بعد وصمها بتهم خطيرة أبسطها »الوحشية« و»التخلف« ومعاداة الحضارة!!
ليست هي المرة الأولى التي تقلب فيها الأدوار فينسب إلى الضحية دور الجلاد ويقدم الجلاد في صورة الضحية،
ولا هي المرة الأولى التي يزوَّر فيها التاريخ فيصبح المستعمِر محرراً والمسلوبة أرضه إرهابياً خطراً تتوجب إبادته حماية للجنس البشري.
ولا هي المرة الأولى التي تتكشّف فيها عنصرية الرجل الأبيض، فيدعي لنفسه الحق (العلمي!!) بإبادة الأجناس الأخرى أو استعبادها سواء أكانت سوداء كما في أفريقيا أو خلاسية كما في أميركا اللاتينية أو سمراء كما فوق الأرض العربية أو صفراء (حتى لا ننسى الصين وحرب الأفيون وكوريا ومنشوريا وصولاً إلى اليابان..).
إنه حدث يجب أن يستوقف أول ما يستوقف أولئك الذين يدعون أنهم معنيون بالحقيقة العلمية، والذين ينقبون ويبحثون ويستخرجون من بطون الأرض اللوحات والأحجار المنقوشة والتماثيل ويستنطقونها لكي يقدموا شهادات ميلاد للشعوب والقارات والحضارات متعجلين قبل الاعلان الرسمي لنهاية التاريخ!
في هندوراس ستجري محاكمة كولومبوس »لأن كثيراً من الهنود في الأميركيتين يعتبرون أن وصوله إلى أراضيهم في العام 1492 كان بداية لحملة إبادة جماعية استمرت خمسة قرون«.
المأساة أن معظم العالم يرى في هذه المحاكمة نكتة سمجة أو أنه يعتبرها »مأساة« مرّ عليها الزمن، ويرفض مناقشة الأمر وإعادة النظر في ما نراه الآن بديهيات:
مَن اكتشف مَن؟!
إذا كانت تلك الأرض مسكونة ببشر مثلنا، يعيشون فوقها، ويموتون فيها جيلاً بعد جيل، فمن المؤكد أنهم لم يهبطوا إليها من كوكب آخر (المريخ مثلاً) خصوصاً وأنهم يشبهوننا تماماً، فأين هو »الاكتشاف«؟!
لماذا يغدو الاستعمار اكتشافاً؟!
ولماذا تغدو الإبادة الجماعية والنهب المنظّم لثروات الشعوب المستضعفة خدمة للحضارة الإنسانية؟!
لماذا يضيع الحق التاريخي لإنسان ما في وطنه لأن إنساناً أقوى منه سلاحاً وأغزر منه معرفة، لظروف خارجة عن إرادته، جاء من آخر الكون فاحتل بلاده وانتزع منه أرضه وحوّل سعداء الحظ من الناجين إلى عبيد يسخّرهم في خدمة أطماعه والأهداف الاستعمارية لمليكه أو للطغمة الحاكمة في مملكته (أو جمهوريته!!) البعيدة؟!
إن التوصيف خطأ فاضح،
وبالتالي فإن التأريخ لهذه الواقعة يصبح لوناً من ألوان التزوير »العلمي«، خصوصاً وأن كل ما يدل على أصل الموضوع قد أخفي أو أبيد تماماً مع مَن أبيد من أهل البلاد المعنية!
لقد قُتل الأميركي الأصلي، أو الهندي الأميركي كما يوصف الآن، مرة بسيف الغازي، ومرة ثانية بقلم المؤرخ لتلك الغزوة، أو لمن جاء بعده فنقل عنه.
وإذا كان للأول عذره في نزعته الاستعمارية، فما هو عذر الثاني وعذر الذين يستمرون في النقل عنه وكأن ما كتبه هو الحقيقة الكاملة والتي لا يأتيها الباطل من أمامها أو من خلفها؟!
الضحايا يقتلون الضحايا، مرة ثانية!
إن كل الشعوب المقهورة والمغلوبة على أمرها تتناقل عن بعضها البعض أكاذيب وافتراءات واتهامات لا تمسّها في درجة تحضّرها فقط بل في حقها في أرضها وفي أن تحيا وأن تبني تجربتها وتقدم مساهمتها (مهما كانت متواضعة) في صنع الحضارة الإنسانية.
هل نقرأ غداً أن يهود بولونيا أو روسيا أو أوكرانيا أو بريطانيا أو الحبشة قد »اكتشفوا« أرضاً كان اسمها »فلسطين«، نسبة إلى شعبها، فجعلوها بعد إبادة شعبها »إسرائيل« مطبِّقين نظرية: »أرض بلا شعب لشعب بلا أرض«؟!
أم يقرأ أطفالنا أن أحفاد مكتشفي القارة الأميركية قد واصلوا اكتشافاتهم فوصلوا إلى أفريقيا وإلى آسيا وربما إلى أوروبا ذاتها، فاكتشفوا »إسبانيا« مثلاً والبرتغال؟!
قديماً، كان الإنسان الأبيض يكتشف الإنسان الآخر فيلغيه!
هل جاء الدور الآن على الإنسان الأبيض ذاته؟!
»مجنون رينيه« بين الخطي والشفهي
أفرغ إدمون رزق ما في صدره وخاطره على الورق، فملأ مجلدات، وتأنّق في إخراجها، واختار اللون الزيتي لأغلفتها، ثم صنّفها فاصلاً ما بين السياسي والوجداني والقانوني، حتى لا ننسى أنه »محام«، وأنه قد شغل في ما شغل منصب وزير العدل.
من أين لنا الوقت لنعيد تجميع العمر الذي انهمر سطوراً فملأ مجلدات؟!
من أين لنا الصفاء لكي نستعيد مع إدمون رزق لحظات الهناءة فنقرأ حبه نثراً وشعراً، ونقرأ أفكاره السياسية صريحة أو بالإيماء والتلميح، ونقرأ إيمانه بوطنه قبل السطور وبعدها وليس بينها؟!
على أن المثير في »دواوين أبي أمين« ليس غزارة الانتاج، بل هو ذلك العناد الهائل في ممارسة حبه لزوجته »رينيه« على امتداد أربعين عاماً أو يزيد!
»رينيه حبيبة وزوجة وأماً، رفيقة حياة وصديقة عمر«، تفرّغ إدمون رزق للكتابة لها وعنها وإليها، ومعظم ما نشره في مجلدات هو »مقتطفات من رسائل إليها« و»بعضه مقطوعات تجريدية من وحيها أيضاً«.
الوحي أعظم من الموحَى إليه،
وإلا من أين جاء إدمون رزق بكل هذا الشوق المغزول قصائد؟!
يدّعون أن الحب متعب،
لكن ها هو إنسان تفرَّغ طيلة عمره، ومنذ أن كان فتى مراهقاً، حتى بات جداً، للحب، وللحب وحده، فما تعب ولا ضجر ولا استكفى، ولا قال كل ما يريد قوله، بدليل أنه ما زال يهدِّدنا بالمزيد من الرسائل القصائد!
»مجنون رينيه«، أم »عاشق العمر« هو، أم »المأخوذ« أم المتوحّد مع حبّه وفي حبّه؟!
ومن أين تبقّى له كل ذلك الوقت ليشتغل في السياسة، مطلاً عليها من باب الأدب خطيباً وكاتباً، منخرطاً في الحزبيات والانتخابات والنيابيات والوزاريات والرئاسيات، مستبقياً بعض الوقت لشلة الإنس التي تتبارى فيها الحظوظ والمهارات ويخيب فيها المؤمن بقدره والمجتهد لتعديل المكتوب؟!
إدمون رزق نجح في »الخطي«،
بقي الشفهي يا أبا أمين!
أشهر حبّك فتحيا ..
كيف يدَّعي المحب أنه وحيد؟!
وكيف يفشل في المهمات الصغرى ذلك الذي يسبح في بحر من الحب بلا ضفاف؟!
وهل الكثير من الحب يؤذي كما النقص فيه؟!
كيف يفشل الناجح في استقطاب المحبين في حياته العملية؟!
أليس الحب جسراً، بل رافعة إلى النجاح؟!
كيف يدَّعي المحب أنه لا يتبيّن طريقه إلى ذاته بينما الحب منارة تضيء بأشعتها النفوس والأمكنة والأقدار فتعيد صياغتها لتصير جديرة بمستحقي نعمة الحياة؟!
لا غشّ في الحب ولا تزوير،
تكتمل حين تحب، فإذا استشعرت نقصاً توجّب عليك أن تفحص عاطفتك: هل هي مراهقة، أم رغبة عارضة ولو جامحة، أم نزوة طارئة، أم أنها أعظم من ذلك بكثير بحيث تعيد خلقك إنساناً مؤهلاً لأن تنجح فتبني بحبك الحياة التي يستحقها مَن أعطى الحب فأعطاه بلا حدود؟!
كيف يدَّعي المحب أنه لا يعرف نفسه، أو أنه قد أضاع طريقه، أو أنه فقد الاهتمام بحياته؟!
وكيف يكون حياة ذلك العمر المجفّف والمتيبِّس خارج نعيم الحب؟!
أوليس أن الحياة الحب والحب الحياة؟! فكيف يخاطر الحي بحبه أو المحب بحياته؟! كيف يمكنه أن يفسد حياته بذؤابة النور فيها؟ وكيف يمكنه الادعاء أن علة الوجود قد ضيَّعت عليه فرصة أن يحيا هناءته.
يصطنع الحب لك حياتك. يحملك الحب إلى النجاحات. يطلق شمس الصباحات ويغزل على سمر الليالي ويقرب يدك من أمانيك فتقطفها واحدة واحدة وتفيض عن حاجتك فتعطي من حبك فيسعد الآخرون وتزيد سعادتك؟!
مَن لا يحترم حبه يخسر حياته،
مَن لا يحترم حياته لا يمكن أن يحفظ حبه.
تحب فتحيا… لا تحب فتصير الأيام أثقالاً تتراكم فوق صدرك حتى لا تقوى على التنفس فتحاول الهرب من ذاتك بالادعاء أنك ستضحي بحبك من أجل النجاح، فتخسر مصدر أملك من دون أن تصيب إلا الفشل الدائم!
الحب أن تكون مسؤولاً عن إعادة صياغة الكون، فمَن عجز عن تحمّل مسؤولية نفسه كان حبه وهماً.
أشهر حبك فيرفعك إلى أعلى عليين،
واهرب من حبك فلا تجد نفسك أبداً.
الفرح بالآخرين ..
تعوَّدت، حين يدوي فرحه في أذني، أن أسمع منه إعادة بأسلوبه الممتع لآخر لقاء مع حبيبه،
كان كمن يخصني بسره، ببهجته، بلوعته، بالشرارات التي تجعله متوهجاً ورفيقاً وحنوناً ومزدحماً بالعواطف النبيلة.
بلا مقدمات، انطلق يقول كمَن يقرأ نصاً مكتوباً:
صوتها، آه من صوتها الذي يختصرني في أذن تكاد لعظيم نشوتها لا تسمع بل تمتص الذبذبات امتصاصاً!
صوتها يطوي المسافات ويطويني، ويتغلغل فيّ فانطوي عليه وينطوي فيَّ طيات فوق طيات، فلا تعرف الحد بيننا.
أطرب للثغة فيه، ثم تأخذني النشوة بالمعنى الواضح برغم تكسّر الحروف وارتباكها وهي تنطقها، إذ يفضل بعضها أن يبقى فلا يغادر الثغر الذي طالما تشهّيت أن ترسو شفتي عنده فلا يكون بعده سفر!
فجأة سألني بصوت ليس له:
هل أنت معي؟!
قلت بغير تفكير:
وهل تحتاج أحداً، بعد!!
قال بصوته الأول: الفرح بالآخرين حتى لو كان شخصياً! من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
في قلبك الصغير متسع للكون كله. كاذب مَن يدعي أنه مشغول بحبه عن الآخرين فلا يراهم أو يسمعهم أو يعنى بمشكلاتهم.
الحب نور وليس ناراً حارقة. الحب وعي بالحياة وليس غياباً عن الوعي وعنها. الحب أن تكون كل الناس لا أن تختصر الناس فيك. مَن رأى أنه غني عن الآخرين عاش في قلب ثلج الوحدة على رصيف الحياة، فلم يعرف الحب ولم يتعرَّف إليه المحبون.