هوامش
*****
عبد الله أوجلان .. أغمض عينيك يا رجل لننام!
لكي ينتهي التاريخ لا بد من إنهاء الإنسان.
وها هو الإنسان الذي قاوم طويلاً يسقط أخيراً في الفخ الأممي الذي شاركت في نصبه القوى المهيمنة اللاغية للتاريخ: شبكة المخابرات الدولية التي تمسك بتلابيب الكرة الأرضية وترصد منافذ الفضاء وتثقب أعماق المحيطات لتصل إلى مكمن السر فتعتقله ثم ترفع أصابعها بإشارة النصر!
يا لمجد كلمة »لا« التي لها وجه عبد الله أوجلان!
تلتفت العينان المتعبتان وقد أنعسهما المخدّر فتهرب من نظرتهما الواهنة وجوه من تبقّت لهم ذاكرة.
ليس العتاب تماماً. ليست هي خيبة الأمل. ليست المرارة. ليست الدهشة، وليس بأي حال الخوف: لا كلام، فلقد قُطع لسان التاريخ، لكن عينيه تنثران الإدانة فوق رؤوس المتفرجين على نهاياتهم صامتين.
يبحث عبد الله أوجلان بعينيه عنا، ونتأمله فنقرأ في وجهه الخشن الملامح أسماءنا، ونرى أيدينا محشورة في القيد مع يديه، ونرى الأغلال تحيط بصدورنا مع صدره حيث يتردد النبض عفياً، بعد.
نغض أبصارنا مع اختفاء الصورة، ويطأطئ الانكسار رؤوسنا، وحين نحاول التعليق تخرج كلماتنا مثل عواء كلب عجوز، وقد نعلن غضبتنا ببعض الشتائم للأتراك الأجلاف وللصهاينة القتلة ولجلاوزة العالم الأميركيين، وللروس الساقطين واليونانيين الجبناء والكينيين التافهين الذين يبيعون »شرف بلادهم« و»سيادة دولتهم« بحفنة من الدولارات.
قد يدلق بعضنا كأسه في جوفه دفعة واحدة تعبيراً عن »ثورته«،
وقد يرتمي آخر في حضن عشيقته ليدخن حزنه فيها،
وقد يجعل ثالث قلمه يقول ما لا يملك هو أن يفعل،
وقد يستعيد رابع سيرة الثورة وكأنها واحدة من حكايات ألف ليلة وليلة، تنفع للترفيه عن المحبطين في سهرة يأس.
لم يعد في هذا العالم الفسيح مكان لطفل، لوردة، لحلم، لشاعر، لعاشقة، لفكرة مضيئة، لابتسامة.
لم تعد الكرة الأرضية تتسع لشعب، لوطن، لأمة تشهر دمها لتأكيد وجودها، ويتساقط فتيتها وشيوخها والنساء قتلى لتأكيد حياتها.
أُسقطت المعاني النبيلة للكلمات من القاموس. لم تعد كلمة »الثورة«، مثلاً، تنبع من الإنسان وتتصل به وتحمله على جناحها إلى مستقبله المرتجى. صارت »الثورة« تتصل بالآلة وحدها، بالجهاز وحده، بالنظام الجديد وحده.
بدلاً من أن تستحضر ثورة الاتصالات والمواصلات، مثلاً، الإنسان، فإنها أكدت على إلغائه. إنها تدمج الجميع بالجميع فلا يعود ثمة أحد.
»الفرد« حاضر، طبعاً، لتسويق الآلة ولاستثمار »الثورة«… العلمية!
لكن »الإنسان« مغيّب تماماً. الفرد تجريد، لا مثنى له ولا حاصل جمع. أما الإنسان فهو »مواطن«، والمواطنون شعب، وللشعوب أوطان. يلغى الإنسان فتتهاوى الأمم وتغيب تماماً بعدما ألغت »الثورة« المسافات والحدود والفروقات بين »الأفراد« حيثما وُجدوا، وجعلتهم نسخاً مكرّرة عن بعضهم البعض، على اختلاف الملامح، ومهما كانت جنسياتهم.. الأصلية!.
* * *
بفضل الهيمنة المطلقة للسيد الأميركي على ثورة الاتصالات والمواصلات بمداها الكوني، فلن تعرف إلا قلة قليلة من سكان المعمورة الحقيقة عن عبد الله أوجلان وقضية شعبه المنكورة عليه هويته والمحروم من أبسط »حقوق الإنسان« التي باتت القناع المثالي للاستعمار الجديد: يُسحق الإنسان بذريعة حماية حقوقه!.
يا لعظمة عبد الله أوجلان!.
رجل فرد، بملامح جبلية صلدة، وشنبين كثيفين، وعينين لامعتين، استنفر كل أجهزة القمع في العالم أجمع: الغرب والشرق، أميركا وأوروبا وآسيا وأفريقيا، الدول المسيحية على تعدد المذاهب من كاثوليك وبروتستانت وأرثوذكس (على وجه الخصوص) والدولة اليهودية الرائدة، وبعض الدول التي كانت إسلامية فارتدت، الحكومات الديموقراطية العسكرية والفاشية!.
تبقى فكرة الثورة أقوى من عالم الحديد والنار والمخابرات القائم!
يبقى الإنسان هو الأقوى.
تدخل مشيخة نفطية صغيرة حتى تكاد لا تُرى، بيت الطاعة الأميركي عبر البوابة الإسرائيلية، فتغدو »دولة« ثم تغدو قطباً له حق »الفيتو« في القضايا العربية، وتحديداً في الصراع العربي الإسرائيلي.
وترمي قيادة الكفاح المسلح الفلسطيني سلاحها وتستسلم لعدوها الإسرائيلي فيجعلها »سلطة« تفتك بروح الانتفاضة في شعبها، وتقوم لحمايتها الدول المانحة، وتُفتح لها أبواب البيت الأبيض. يصبح عرفات ضيفاً دائماً على كلينتون لا يتأخر عنه إلا إذا كان يعبث بسيجاره بمكامن اللذة في جسد مونيكا لوينسكي!.
يهجم نايف حواتمة وقد واتته الفرصة، أخيراً، وبعدما كاد ينفد صبره، لمصافحة الرئيس الإسرائيلي الآتي للتعزية بالحليف الخالد الملك حسين، فتُفتح الأبواب أمام ملك الثرثرة الثورية والملفق الممتاز لنظريات الانحراف من قبل ومن بعد.
باب التوبة مفتوح دائماً لمَن يحوّلون سلاحهم إلى صدر شعبهم.
دار الخيانة تتسع للجميع.
أما الأحلام بالتغيير فيضيق عليها هذا العالم الواسع.
وعبد الله أوجلان بحجم قضية.
إنه أكثر من عشرين مليوناً في رجل، فكيف سيتسع له هذا العالم الذي غدا زنزانة!
عبد الله أوجلان: أغمض عينيك، رجاءً. دعنا ننام يا رجل!.
قصص مبتورة
قالت تستدرجه: أراك تجلس صامتاً تتأمل ولا تتكلم، تسمع ولا تعلّق، لكأنك مشغول بغيرنا.
تمتم معتذراً بأنه لم يجد في ما يدور من حديث ما يمكن أن يضيفه.
قالت: ولا حتى بالنظر؟! لطالما سمعناك تستنطق العيون شعراً!
ابتسم يداري حرجه، فواصلت اسفزازه: ألا تقول لك عيناي شيئاً؟
قال متحرجاً: منذ أن بات ممكناً تبديل لون العيون، وتزوير الحدقات والأهداب والرموش، صار واحدنا بحاجة إلى ترجمان ليقرأ العين الجديدة بلغاتها الجديدة المتعددة.. وعذري أنني لا أعرف غير اللغة الأصلية.
* * *
قام يودّعها، وطوّقته بذراعيها في حركة استعراضية قبل أن يخفيهما الباب.
كان يعي تماماً أنها تريد بآثاره عليها أن تثير حسد صديقاتها اللواتي كانت كل منهنّ تحاول الإيحاء أنه في السهرة لم يغنِّ إلا لها.
رفع صوته من خلف الباب بالموال: »فيك ناس يا ليل بيشكو لك مواجعهم«.
وأقفلت الباب مغضبة فانكسر الصدى، لكن الصوت تواصل كأنين حصان أسير.
* * *
انهمر ثلج العمر بغير صوت، فتراكم تحت ناظريه على المنشفة.
قال لنفسه: الشيب ليس دليل الشيخوخة. قد يغزو الشيب شعر فتى دون العشرين.
نظر إلى وجهه في المرآة، فخاف. أحسّ أن الشيب قد بلغ عينيه!
* * *
قال ينصح صديقه: إياك أن تجلس بين امرأتين. إياك أن تمزق نفسك بين رغبتين. ستكون الضحية إن هما اختلفتا، ولسوف تختلفان، وستكون أرض الاتفاق متى اتفقتا وهما ستتفقان، لأنك الملعب لا اللاعب.
* * *
كان محاصَراً بالنساء من حول طاولة ضيقة، فمن أين تسلّلت المرأة الوحيدة في المدينة، وكيف عبْر همسها لم يعد يسمع كل ذلك الهذر النسائي الصاخب؟!
* * *
ظلّ طوال عمره يخاف البحر لأنه لا يعرف السباحة.
كيف إذاً لم يغرق بعد في بحيرة البنفسج، وهي أعمق من بحر، وأوسع من محيط، وأصفى من عينيّ حمامة؟!
تهويمات
} لا تغفر المرأة أن تفاضل بينها وبين أخرى.
إنها تريدك أن تشعرها وأن تتصرف فعلا وكأنها كل النساء، في حين تخضعك لامتحان مفتوح ازاء كل رجل تلتقيه أو تقرأ أو تسمع عنه.
} قالت وهي تغمز بعينها: أما زلت تفكر فيها؟
دارى حرجه باستفسار لم تقبله فمضت تستفزه أكثر: وهل نسيت اسمها أيضا؟! اما أنا فأذكر تفاصيل التفاصيل عن رحلة العمر تلك.
حاول الخروج من دائرة الحصار فامتدح تسريحتها وثوبها فلوت عنقها ومطت شفتيه وكأنها تقول: إلعب غيرها! أما حين تغزل بعينيها فقد التفتت إليه، ثم أشهدت عليه الحضور وهي تردد: أعرف انك تريد تغيير الموضوع، لكن حيلتك ناجحة، فلم تخلق أنثى لا يغرها الثناء… سأنساها الآن، لتبق في غيابها طالما انه يؤكد حضوري.
} قالت بنت السبعين: إهدأ أيها الشاب، حياتك أمامك فلا تهدرها بالتعجل، اشربها بعينيك، لا نعرف قيمتها إلا قرب النهاية..
قال: لماذا تتحدثين كعجوز؟!
قالت وهي تسوي شعرها: ليس كعجوز يا أحمق بل كصاحبة تجربة عريضة.
} قالت لصديقتها: نسيت نظاراتي، هلا أعرتني نظارتيك لا تأمل صورته الجميلة؟
قالت صديقتها: تتفرج الصورة على الصورة من أين يجيء وضوح الرؤية؟! من أين سيعبر الفعل؟!
} كتبت إليه تقول: أخيرا توصلت الى قرار.. لقد استقلت منك. كان عليَّ أن اختار بينك وبيني. سقط الوهم واكتشفت انني خارجك فباشرت التعرف الى ذاتي. تعبت منك. كنت أنظرك فإذا عيناك من زجاج، ولم أرَ نفسي مرة فيهما. اليوم أعرف انك لست الحب.. وها أنا ذاهبة إلى شبابي.
وجاءها الرد بسيطا: قبلت الاستقالة!
أما التوقيع فكلمة واحدة »الحب«.
} سيدتي، هلا تفضلت بلحظة صمت ليستطيع طائر الحب أن يطلق صوته بالغناء؟!
سيدتي، عطر الكلام يؤذي الحب، ويصيبه بالزكام!
سيدتي، هل تسمحين لي بأن أقطع ثرثرتك بعطسة أو عطستين؟!
} وقفت أمام المرآة تتأمل زينتها. للمرة الأخيرة لتطمئن إلى أنها محصنة كفاية قبل أن تتحرك لاستقبال الضيوف. لم يكن في ثوبها الطويل ثغرة واحدة يتسلل منها النظر الى داخلها، والعنق الطويل للحذاء يكاد يداني الركبة، وهو ضيق جدا يطبق على قدميها وساقيها كالكلابة.
وعندما مدَّت يدها إليه ورفعت عينيها إلى وجهه، طوت ذراعيها غريزياً تداري عري صدرها، ثم تعثرت بثيابها المكوّمة في الأرض ومعها الحذاء طويل العنق وهي تتراجع هاربة، لتستر ما لا يجوز كشفه للغريب.
وحين عادت إلى المرآة مذعورة وجدت الغريب قد احتلها تماماً بعينيه!
} قالت: أعاملك كعمري كله وتعاملني كأني بعض يومك.
ورد بعفوية: أعطيك ما أملك.
قالت: لست تعطيني، كلانا يأخذ ما يجعل الأيام حياة.
} ضبطته يتأمّل تفاصيل جسدها فقالت بكثير من الغنج: أنت تشتهيني ولا تحبني. أنت تطلب اللذة فحسب.
قال وهو يخفي عينيه بيديه: حسناً، انزلي عليَّ الحب!
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ما أعظم حبيبي، إنه يجعلني بهياً كحلم. إنه يؤكد فيّ إنسانيتي فيعطي لعينيّ معنى النظر، ليديّ معنى اللمس، لقلبي معنى النبض، لجسدي معنى العافية. إنه يأخذني حلماً فيجعلني إنساناً، ويحملني إنساناً فيجعلني حلماً.
ما أبهى أن تضيع في ثنايا الحلم وأنت تؤكد إنسانيتك بحبك.