من يشتري منّا الفلسطينيين وأبناءنا المؤهّلين؟!
هو موسم »التوطين« في لبنان!
وهو أخطر من موسم التفاح الشهير، ومن موسم الاصطياف، ومن موسم التزلج، بل وأكثر اثارة من شهر »التسوق« في البلد الأغلى.. على الجيوب كما على القلوب!
ومع أن الموسم »إقليمي« الطابع ولكل من »دول الطوق« القديم (!!) نصيبها منه، لا سيما الاردن حيث »الموطّنون« يزيدون عددا »المواطنين«، فإنه في لبنان يكتسب سمات »المهرجان العالمي« إذ تتداخل فيه أغراض السياسة وحساسيات الطوائف والعناصر والغرائز والمصالح والعواطف والدول والقوميات والأديان فإذا هو الموضوع الأول والأخير على مدار الساعة، لجميع الأحاديث والتصريحات مكتوبة ومسموعة ومرئية بالعين المجرّدة أو عبر الفضاء الفسيح!
»التوطين« كلمة سحرية، يمكنها أن تتضمن أو تختزل كل عناصر الموت والحياة: فهي قد تومئ الى الحرب الاهلية، وهي قد تبشّر بالرخاء الاقتصادي، وهي قد تشير الى خاتمة حتمية للصراع العربي الاسرائيلي، وهي قد تنذر بحرب إسرائيلية جديدة، وهي قد تؤمل بثورة مؤهلة لأن تواجه الاستحالات التي قبع العرب في كنفها قانعين.
»التوطين« طريق مختصرة جدا تأخذك من »الوطنية« الى »العنصرية« ومن »القومية« الى »الكيانية« ومن »الأممية« الى »الطائفية«، ثم بعد هذا كله لا تخرجك من دائرة النضال لتحرير فلسطين من النهر الى البحر!
في الأردن وصلت الحملة ضد توطين الفلسطينيين، الذين يفترض أنهم »مواطنون« فيه منذ خمسين عاما أو يزيد، وأنهم سبب »تكبير« إمارة شرقي الأردن الى المملكة الاردنية الهاشمية، الى حد مطالبة الملك بتطليق زوجته مع الاستعداد لتزويجه بأردنيتين بدلا من »أم حسين« الفلسطينية!
أما في لبنان فالجميع يفعل ما في وسعه »لإغراء« الفلسطينيين بالرحيل والا فإن سيف التهجير سيسل حتى لا تكون كارثة »التوطين«!
لكن هذا المخلوق المبتلى بأن يكون فلسطينيا لا يجد أمامه طريقا للخروج فيبقى وهو يقسم بالأيمان المغلظة أنه يرفض التوطين قبلنا ومعنا وبعدنا وأكثر منا، وإنه لا يطلب ولا يطمح لأكثر من أن يعود الى جلده… فلسطين، وعن أي طريق!
ولأن »العنصرية« استثمار سياسي مربح فإن كل القوى تتناوب على ركوب موجتها والتسلح بسيفها البتار!
تتبدل الحكومات ولا تتبدل السياسة، وتتبارى جميع الدوائر الرسمية في ابتداع الأسباب والتفنّن في تعذيب الفلسطينيين »لتطفيشهم« الى حيث ألقت.
نضيّق عليهم في سبل الرزق. نمنعهم من العمل. نحاصرهم في مخيمات الذل والحاجة وانعدام أسباب العيش. نستخدمهم في »العمل الأسود«، بغير ضمانات، وبغير قيود رسمية، وبالطبع لا نسجلهم في أي فرع من فروع الضمان الصحي، ولا نمنحهم إجازات عمل، ونتذرع بالدواعي الأمنية لنحقّر إنسانيتهم.
ونحن لا نفعل ذلك لكي ندفعهم الى التمسك بحق العودة الى بلادهم، أي الى فلسطين، بل لندفعهم الى الهجرة بعيدا عن فلسطين.
على أننا في كل ذلك إنما نعاملهم معاملة أبنائنا وأعز !
فأبناؤنا الخريجون، المؤهلون، يغادرون أرضهم أفواجا أفواجا… يهجّون الى أربع رياح الأرض، ومعظمهم يذهبون بتذكرة وحيدة الاتجاه ولا يعودون… ولعلهم من هناك يباشرون أحلامهم بأن يستطيعوا ذات يوم ممارسة »حق العودة«!
مع الفلسطينيين، وبذريعة إجبارهم على المحافظة على فلسطينيتهم، ندفعهم قسرا للذهاب بعيدا جدا عن فلسطين وطلب الرزق هناك.
ومع شبابنا أيضا، الذاهبين خلف الرزق، يصبح الخيار محسوما: من ارتبط رزقه ومستقبله، ومستقبل أولاده، بالأرض البعيدة لن يعود.
وإذا كان الشاب اللبناني المؤهل، الذي عنده جمهورية ذات سيادة واستقلال ومجلس وزراء ووزارات تزيد على الثلاثين عددا، ومجلس نواب عديده 128، وعنده جيش وأجهزة أمنية يزيد عديدها على المئة ألف.
إذا كان هذا الشاب لا يجد قوت يومه وضمان مستقبله في وطنه فيهج، فكيف بالفلسطيني الذي أسقطت المفاوضات القرارات الخاصة بحقه في العودة، ناهيك بإمكان تنفيذها؟
وأين يعيش هذا الممنوع من البقاء في لبنان المتعذرة عليه مغادرته الى بلد آخر يقبله؟!
وكيف سيعود (الى وطنه) ذلك الشاب الفلسطيني البائس الذي لا دولة له، ولا مكان في (وطنه) المحتل، حيث »الجيش« الاسرائيلي، وضمانة أمنه المخابرات المركزية الاميركية؟!
ولماذا إطلاق هذا السعير العنصري الذي يغذي في نفسه العنصرية المضادة فينتهي الأمر بانتصار العنصرية الاسرائيلية باعتبارها الأقوى و.. الأصيلة!
قد لا يكون جميع الفلسطينيين هم نماذج لذلك »المناضل البطل«، و»الفدائي الشهيد«، و»طفل الحجارة«، لكنهم بالقطع ليسوا نسخا مكررة من »أبي محجن« وأمثاله الميامين!
ثم أن »الدول المانحة« لم تقرر حتى هذه اللحظة »شراء« هذه البضع مئات من آلاف الفلسطينيين المنذورين لهجرة مفتوحة بين أقصى الأرض وأقصاها طالما أن أرضهم محتلة!
وهل إذا بالغنا في عقوبة اللاجئين المجبرين على البقاء فوق الأرض اللبنانية نزيد من الثمن الذي نطلبه لهم من الدول القادرة على الدفع بالمال العربي تكاليف الأمن الاسرائيلي؟!
وطالما أن »الفلسطيني« لا يستطيع منافسة »اللبناني« واختطاف فرصة العمل منه، فلماذا نضطهده ونجبره على أن »يخرج« قبل زميل دراسته الذي يبحث مثله عن »مهجر« يجد فيه القوت وفرصة ما للمستقبل؟!
هل المسألة »فكرية«، لنكتب عنها هنا؟!
أم أنها »سياسية« ولا يجوز إقحامها على »الثقافة«؟!
وأين تقع »العنصرية« من السياسة والفكر والثقافة؟!
وهل يمكن للمثقف أن يكون عنصريا؟! ألا تلغي العنصرية حقه في ادعاء التعبير عن ضمير شعبه؟!
تلك هي المسألة، يا حملة الأقلام!
غجر الكلمات!
أقول لنفسي: على الصدى أن يمشي رحلة بمدى الشوق.
وتقول لي نفسي: الحب يختصر المسافات بعدما تضفي عليه هالة قدسية!
وتقول لي التي تومئ ولا تنطق: كيف وصلت إليّ وأنا خارج ظنك، لولا أنك كنت داخل قراري! أردتك فحاصرتك وانتظرت أن تقتحمني فأخذك مني ثلج التردد الأبيض كالموت!
أين أنت مني؟! أين أنا منك؟
نملأ الهواء بفقاقيع الكلمات التي حبسناها لخوفنا من أن تنفجر بالغير، وبتنا نترقب بفرح أن تفجرنا فنتواصل!
وأقول للتي لا ينطقها الهوى: البعد أسهل وسائل التواصل، والتلاقي افتراق في الاحتراق، والصوت قليل الاحتمال، والحظ فضاح، والآلة صماء تلتهم الدفء وتوصل الكلمات مخنوقة، باردة، كاللحم المجفف.
وتقول التي تحاول أن تنسى الكلام: أحاول الخروج من الكلمات فتلتهمني العيون، فأعود راضية الى السكنى فيها، متوقعة أن أسمع تلك الجلبة الخفيفة لولوج المفتاح في القفل إعلانا بالحرية.
لكنك تريدني في الكلمات.
تريد بيتنا الكلمات.
ويقول الذي يتحدث بعينيه ويرى بيديه ويمشي بأوهامه المجنحة: نحن غجر الكلمات. نتنقل بينها وقد زركشناها بالأوهام الملونة وكل ما يلمع من زبد الأخيلة.. نفيء إليها من برد الوحدة ومن لهيب اللقاء، ثم نهدمها لنبنيها مجددا بيوتا من هباء لحلم أجمل ما فيه أنه فوق الحقيقة وإن كان دون التمني.
أسكت الصمت الصمت، وغارت الثرثرة في الثرثرة، وراحت الحكاية تلد حكاياتها الجديدة، ليطرب غجر الكلمات بكلماتهم المنداة بالوهم!
إنسانان خارج الجسد.
قالت الغجرية لمشتري ليلها: علاقتنا ظريفة لأنها صريحة، بسيطة جدا ومباشرة جدا. لا أنت ستطلب مني فوق ما أعطيه، لأنك لن تستطيع أن تأخذه غصبا، ولا أنت ستعطيني ما يكفيني لتكون غدي.
لا تبرعات ولا صدقة.
تعرف أنك لا تشتري حبا، وأعرف أنني لا أبيع ما هو موقوف على غيرك.
أنت لا تحترمني، وأنا الا أحبك. لكننا في الخوف متعادلان:
أنت تخاف من أن تكتشف الانسان فيّ فتحبني،
وأنا أخاف أن يستفيق الانسان فيّ فأرفضك.
المعادلة أن يظل »الانسانان« خارج علاقة الجسد.
ولكن أين هي الحدود؟!
أين ينتهي جسدي فتكون حقيقتي التي يفزعني نواحها المفتوح على ليل بلا قمر، بلا ظل ولا صدى ولا ارتعاشة ضوء يهدهدني بوعد الفجر والامتلاء؟!
هيا، أيها السيد. الأسئلة تفسد الصحبة التي من شروطها أن يظللها الخوف من انكشاف الحقائق.
اخلع أسئلتك مع ساعتك. اخلع كل ما نحتاط به للتنكر، فالعري هو قناعنا الأخير
عابر الأزمنة.
تعبر الزمان مفترضا فيه الثبات، وتنسى أن تنسى، ولا تنتبه الى أن الماضي لا يعمّر طويلا، وان الحاضر سريع الخطى، وان المستقبل ليس فضاء مفتوحا بلا مواقيت، وان ما كان »الغد« صار خلفك.
ولأنك عابر للزمان فإنك تضعني دائما في استراحة ما بين الطائرتين، همي الوحيد أن أستقبلك بقبلة الوداع على أمل اللقاء خارج التوقيت الرسمي للأعمار!
تخرجني من الزمان لكي نلتقي عند تقاطع الأمكنة. وفي عالم الحركة هذا تتوهم أنني وحدي داخل دائرة اليقين.
ألم تلاحظ الشحوب على أهداب نظراتي الساهمة بحثا عن بداية زماني الذي لا أريد أن أبدده صورة بلا صوت أو صوتا بلا صورة في صالة العابرين بين الأزمنة؟!
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة غير الحب:
الحب كالايمان يمنحك الاحساس بأنك أقوى من الموت. الحب طريق انساني الى الخلود. يحفظ وجدان الشعوب من أسماء العشاق أكثر مما يحفظ من أسماء أباطرة الموت. الحب هو ترنيمة الحياة. الجمال يأخذك الى الحب، والحب يستولد في داخلك الاحساس بالجمال، فتصير الحياة لائقة بالانسان.