مشبوه بالمعرفة في حرم السلاطين
ملأنا الاستمارات، وحصلنا بعد نضال طويل على بطاقات السعد المغلفة بالنايلون، وخضعنا لآلات الكشف عن السلاح والنوايا، ولشمشمة الكلاب البوليسية الحسنة التدريب، ولنظرات الريبة يرمينا بها رجال الأمن المتعبون، بينما الكاميرات المكشوفة والمخفية تصور أفكارنا وآراءنا وعواطفنا تجاه هذا الحشد من السلاطين في القمة الطارئة.
وما الطارئ الذي فرض »الطارئة« غير استفاقة الناس، في غفلة من »الأجهزة« ذات الجبروت، إلى بشرتهم السمراء وقلوبهم البيضاء ودمائهم الحمراء فإذا فلسطين تسكنها جميعا، وإذا هم »عرب« عاربة أو مستعربة، لا فرق، لأن الرصاص الاسرائيلي ليس عنصريا كمطلقه بحيث يميز بين الأجناس والأعراق!
لا أذكر هل نحن تبعنا الكلاب أم أن الكلاب تبعتنا وهي تواصل شمشمتنا قبل أن ندخل القلعة الهائلة الحراسة، التي كان يتحصن فيها أهل القمة من سلاطين زماننا، على أننا في أي حال كنا والكلاب معا هناك، وكل بحسب رتبته،
أما نحن فقد ذهبت أصواتنا هلعاً،
وأما الكلاب التي تتفحصك فتعرف هويتك من حذائك المترب، أو من خوفك منها كما ممن تحرسه، فلا تحتاج إلى النباح، لأنها تعرف مهمتها جيدا: من أثار شكها قضت عليه مباشرة أو بواسطة العسس المندس تحت السجادات، وفي الجدران، وفوق الثريات وفي مسام الغبار ونثار الضوء وصولا إلى ما تحت جلدك.
صحافي؟!.
تنطلق صفارات الإنذار بغير إنذار، وترفع يديك مستسلما هاتفا بما تبقى من صوتك، فإذا تعذر فبإشارات من عينيك وملامح وجهك وكتفيك وحركة جسدك كله، بما معناه انك »صديق«، وانك تجيء بناء على طلب من السلطان وبصحبة بعض أتباعه، وانك لا تسمع ولا ترى ولا تتكلم…
صحافي… وهنا في حرم السر السلطاني المكين؟!
تقرأ في العيون أسئلة قاتلة من نوع: لمن تعمل، حقيقة؟!
أيعقل أن يكون حب المعرفة وحده قد جعلك تركب هذا المركب الخشن؟!
أيعقل أن تلزمك المهنة، التي لا يحترفها إلا الفضوليون والجواسيس، بتحمل كل هذه المشاق وكل هذه المهانات؟!
ولماذا تريد أن تعرف، هذا إذا ما افترضنا أنك ستعرف شيئا من هؤلاء الذين يثرثرون بالكلمات المطموسة المعنى، والمهموسة كما لو أنها اعترافات خاطئ نادم يطلب التوبة؟! ألست تعرف أن المعرفة منهكة؟ بل هي غالبا مهلكة؟
تريد أن تعرف ليعرف الناس؟ تقوم بواجبك في عصر الشفافية وسقوط السواتر التي كانت تحجب الأسرار؟!
هذا يعني أنك محرض، مهيج، وبالتالي من أهل الفتنة، والفتنة أشد من القتل؟!
ومتى كان من حق الجمهور أن يعرف فيفهم؟! على الجمهور الولاء والطاعة وإلا وضعنا العمامة، و»متى أضع العمامة تعرفوني«!! ثم أن الفهم جلاب مصائب.
الصحافي مصور، مجرد مصور ينقل للناس صورة السلطان ليطمئنهم إلى سلامة صحته وقوة بدنه وطاقته الهائلة على تحمل مشاق الانتقال من جناح إلى آخر، ومن حصنه الخاص إلى الحصن الجماعي الذي يمنع عليك النظر اليه.
تريد أن تعرف؟! إقرأ البيان! لقد أضعنا يومين في صياغة كلماته حتى تورمت لتوحي بمعنى ليس فيها!. قرأت فلم تفهم، وتريد شرحا لعلك تفهم؟! ومن قال ان عليك أن تفهم؟! الفهم يقودك إلى المقصلة أو الى الانتحار، ونحن نطلب لك السلامة… والآن مع السلامة، خذه يا أمن؟!
يتقدم الأمن الذاتي، يأخذك إلى الأمن الذي في الباب، يقودك أمن الباب ألى أمن الردهة، يسلمك أمن الردهة الى باب الممر، وأمن الممر الى أمن البوابة، وأمن البوابة إلى أمن الباب الخارجي، ويواكبك أمن ما بين البابين، بينما يحلق فوقك الأمن الطائر حتى تخرج من الحرم الأمني للقلعة إلى أمن الطريق.
كيف يمكن لمثل هؤلاء الخائفين أن يطمئنونا؟!
كيف لهؤلاء الذين يصرفون على حراستهم بقدر ما ينفقون على جيوشهم أن يقاتلوا؟!
كيف لهؤلاء الخائفين من كلمة أن يخيفوا العدو؟!
كيف يحاسب الصحافي على عدم وصوله إلى المعرفة، أو خوفه من الوصول إلى المعرفة التي يحتكرها السلطان فإن عرفها غيره قتله وأخذ السلطة، أما ان عرفها الصحافي فعوضنا الله سلامتكم فيه!
نقش على بوابة العودة
أين الطريق إليك يا فلسطين ولكل حد من حدودك موته الخاص؟!
لكأن حدودك الضائعة هي الحدود بين الموت والموت.
من حيث جاءك قاصدك يجيئه الموت.
لكأن الموت هو الطريق، وهو الوصول.
لا بد من الانتصار على الموت بالموت ليمكن الوصول.
البحر قاتل، النهر قاتل، البر قاتل، الجو قاتل.
قبل الحصار حصار. وقبل الموت فيك موت في الطريق يسابق الموت من أجلك.
هل ثمة فرق بين موت برصاص العربي والموت بالرصاص الاسرائيلي؟
الحدود بنادق، والبيوت حدائق، والصدور زنابق حمراء، والموت عودة، والعودة ممنوعة بأمر الموت، وبين الموتين حياة، وبين الموتين وطن يعيد بعث الحياة في من يموت.
والوطن ولود، كلما ذهب إلى الموت جيل كانت أجيال من الفتيان تمنح أجسادها للأرض كي تحيا.
عمر الأرض يقاس بالشهداء. كل يضيف عمره الى عمرها فإذا هي منذ الأزل وإلى الأبد أرضه. هويتها دمه، وملامحها اسمه.
ولسوف ينتصر أهلك بالموت على الموت حتى تكون لك الحياة وعندها يُبعثون.
السكن في الظل!
في قلب الحشد يتوفر الأمان. تتهاوى نظرات الفضول، وتكف ألسنة الفضائح عن الثرثرة وتشويه لحظات السعادة المختلسة.
تتقافز الشهوة من العينين إلى الشفتين، إلى الكتفين فاليدين اللتين سرعان ما تنهمكان في غزل البهجة الطارئة.
تنط الشهوة إلى الطاولة، تعبث بالأخيلة مصطنعة من الدخان غلائل تتخفى بها وهي تقتحم شوقك الكامن في قلب الصمت والغيبة.
وحين يجيء المغني تستعيرين منه المعنى وتتركين للصوت أن يشغل غيرك.
تتقدمك الشهوة ولا تتأخرين. تطردك الغرفة الباردة فيتلقفك المقهى الذي يستعير الدفء من أنفاس الغرباء، لكن ارتعاشة الوحدة لا تغادرك، واحتمال المصادفة يظل يتنقل بك بين بقع الضوء حتى يلقي بالظل أمامك فتسكنين ويستكين لك الظل!
من ينسى الزمان هو المنسي!
لا تتراكم الأيام خلفنا. تتراكم الأيام بأثقالها فوقنا. تنهك الأكتاف وتلتهم نضارة الوجه. تمتص التماعة العينين. لا تعوض الدهون وجه الأمس. لا تعوض الصور الدم المتوهج بالشوق الذي يجعلك جميلة.
أتسمعين الظل؟!
لم تعد بك حاجة إلى المغني، وإلى صوت الضوء.
هل تأذنين للعتمة بالدخول؟!
يليق بك الزهري
بين مدى النظر ومدى السير صحراء من صبار الشوق وجمال الصبر على وعد اللقاء.
لكنه حين رفع رأسه إلى فضاء التخيل رآها تنسل من داخل التمني لتواجهه بعينين يسكنهما العتاب بينما تتحرك شفتاها بكلمات ذات ضجيج لإشغال جمهور الفضول الذي كان يحصي عليها أخطاء اللغة، في حين كان يشرب من صوت الصمت فينتشي وتضيع منه الكلمات.
يليق بك اللون الزهري.
تليق بنا ثرثرة الوقت التي تهون المسافة بين مصادفتين تمدان جسرا فوق بيداء الغربة والبرد.
لكأنه قدرنا: تتحدثين إلى غيري لتصلي إلي، وأنظر إلى غيرك لكي أسمعك.
والعين ثرثارة،
والأذن تسابقها فتسبقها إلى العشق في زمن الاحتجاب!
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
لا يغيب عني حبيبي مهما طال سفره. أحسه في أنفاسي، في خصلات شعري، في مسام جسدي، ينبض في شراييني. هل تصدق أنني أراني بعينيه، فأبادر الى تغيير الثوب، أو إلى تبديل التسريحة، أو إلى تغيير الطريق لأمرّ به حيث انتظرني وما زال والتقيته فاندمجنا وما زلنا وسنبقى واحدا، حتى نُسقط الغياب ونستعيد زماننا الذي نسينا بدايته ولا نعرف له نهاية.