صبرا وشاتيلا: الموت في المدينة المقتولة!
جاءت الأخبار الأولى همساً يتسلّل من قلب الرعب وانكسار المتروك لقدره: الجثث تغطي المخيمات! وحده الله يعرف كم من النساء والأطفال والشيوخ قد ذُبح. لا أحد يجرؤ على الدخول، ولم يعد في الداخل أحد ليخرج فيبلّغ وقائع المذبحة!
كانت قوات الاحتلال الإسرائيلي قد اقتحمت بيروت ومدت ليل الموت فوق أحيائها التي قاومت بناسها وحجارتها حتى الضوء الأخير..
أما البنادق فكانت قد فرغت من طلقاتها، وكان قد هجرها الثوار القدامى، الذين اتخذوا طريقهم إلى »منفى« جديد هو الأبعد عن فلسطين التي تسكنهم ولا يسكنونها، والتي أعطتهم الاسم والكنية والهوية والمعنى وبقيت تنتظرهم على رصيف فارغ بينما هم يجرون في اتجاه المرافئ القصية.
كانت المدينة التي هجرتها روحها منذ حين مقطعة الأوصال، غارقة في عتمة الضياع، يعتصرها الوجع والعطش والظلمة والقهر الذي وحده يستولد الخوف ثم يكون التحدي لقوافل الدبابات والجنود المصفحين والصواريخ الدقيقة التوجيه والطائرت التي تتصيّد ضحاياها من البعيد فلا يرونها ولا يستطيعون تفادي الموت الهابط عليهم من السماء المحترقة.
مع الليل دخل القتلة إلى المخيمين المتداخلين بحيث باتا مساحة واحدة للآلاف من الذين يعيشون في قلب الفقر بلا أسماء.
كان القتلة يعرفون أن مصير هؤلاء الذين يتكدس بعضهم فوق بعض، ويتوالدون بلا انقطاع، ويتناتشون الأرغفة وأقراص الفلافل وحبات الزيتون، لا يعني أحداً… بل وثمة من يفرح لتناقصهم، ومن يفرح أكثر لإبادتهم و»تحرير« الأرض »المغتصبة« منهم، وهم الذين »يحتلونها« منذ ثلث قرن. المغتصبة أرضهم هناك يغتصبون أرض الغير هنا! لهم الموت. إن إسرائيل الآن هي المخلّص!
فاض الموت عن الفلسطينيين، لكن الفقراء جميعا من جنسية واحدة، فليمت اللبنانيون والسوريون والمصريون والآخرون من أبناء السبيل، الذين لا آباء لهم ولا أمهات، ولا مرجعية تسأل عنهم وتحاسب، ولا من يثأر لدمهم المراق.
تفنن القتلة في تنفيذ الجريمة.
تلذذ بعضهم بتقطيع أوصال النساء.
واستمتع آخرون بتمزيق الأطفال نتفاً.
أما من هو أكثر سادية فقد انطلق يلعب الكرة الطائرة برؤوس الرجال الذين كانوا يحلمون بالثورة ويقبّلون الرشاش ويتمرّنون على مواجهة الموت بإرادة العودة إلى البيت المهجور واستعادة المصير من أيدي هؤلاء الذين صاروا القضاء والقدر.
كانت الذريعة المعلنة: إنهم أنصار بشير الجميل ومحبوه! وكان قد انتُخب قبل أيام قليلة في ثكنة عسكرية محاصرة بالدبابات الإسرائيلية، رئيساً للجمهورية اللبنانية التي كان »شارون« قد دخل قصر الرئاسة فيها فاتحا وحاكما مطلقا يسعى في خدمته ملاك الموت.
بشير الجميل؟! ولكنّ المدينة كلها في قلب النار الإسرائيلية، والمخيمات تحت حصار لا يخرقه عصفور الدوري، وكل السلاح في المزابل، والثورة في الذاكرة، والمقاتلين اختاروا أن يسافروا إلى تقاعد اليأس مبكرين، وهواء البارود يخنق الورد والياسمين.
ولكن المدينة أرملة… وصباياها المجرّحات الخدود، المطفأة عيونهن بالمهانة، ينتحبن على أبواب الملاجئ وهنّ يقمن على حراسة الشباب: نحتاجكم غداً، فلا تنتحروا اليوم في عبث مواجهة مستحيلة! صارت القضية هنا. صارت المقاومة هنا. صارت الثورة هنا، وليسقط الموت العبثي! غدا موعدنا لقتل الموت الإسرائيلي!
تسللت خيوط من الدم من المخيمين المغتالين.
لم يكن أحد من الناجين قادرا على رواية ما رأى.
لكن رائحة الجريمة ملأت سماء المدينة، سماء المنطقة، سماء العالم.
انهار الخوف، وفزع الإسرائيلي من »إنجازه« فجلس في منتدى الدول يغسل يديه من دماء هذا الصديق!
خرجت الجثث عشرات عشرات، مئات مئات… جُمعت قطعها المبعثرة، فاستعادت الوجوه ملامحها، وأدلت بشهادتها الحمراء: لا تهم السكين! أنظروا المجرم في عينيه!
طافت أرواح المقتولين في المدينة، في البلاد، تحذر وتنبّه: القاتل هو الاحتلال. لا تطاردوا الأداة، إذا واجهتم الاحتلال سقطت الأداة تحت نعالكم!
دُفنت الأوصال المجهولة الأصحاب بلا أكفان.
وماذا يهم أن يكون »رأس« لبناني قد جُمع الى »صدر« فلسطيني، وأن يكون »وجه« مصري قد استعار ذراعي سوداني؟!
كان الجميع يتعجلون طمس صورة الجريمة: الآمر بالقتل والمنفذ الأجير والعاجز عن الانتقام والخائف من المحاسبة عن تقصيره، والذي استنقذ نفسه وترك شعبه بغير حماية.
وكان علينا أن نتفرج، بعد حين، على تظاهرة نصف المليون التي جمعتها »حركة السلام الآن« في تل أبيب لتمسح الدم عن وجه الإسرائيليين وعن أيديهم ومدافعهم وطائراتهم وصواريخهم، فتبرئهم جميعا من المذبحة.
وكان علينا أن ننتظر تقرير كاهانا لنعرف أننا نحن القتلة، وأن إسرائيل هي التي منعت همجية اللبنانيين من إبادة الفلسطينيين في مخيماتهم الفقيرة.
… وكان علينا، أخيراً، أن ننتظر قدوم »الرفاق الطلاينة«، بعد أربع عشرة سنة، لنحيي ذكرى هؤلاء الذين افتدونا فشكّلوا بأجسادهم المقطعة أوصالها سوراً حمانا من الموت الإسرائيلي.. ولعله ما زال يحمينا حتى الآن!
ما أقسى القصور. ما أسهل الرثاء!
الأستاذ المقص!
حين قرأت الاسم في الوفيات كان رد فعلي الأول التعجب من أنه ما زال حياً حتى اليوم، فحين عرفته قبل أكثر من أربعين عاما كان قد جاوز الخمسين من عمره، وكنت أحاول أن أتعرف إلى الحياة التي بدا لي أنه قد خبرها جيدا حتى بات مؤهلاً لأن يكون »أستاذاً« يدرب الناشئين والطامحين إلى حرق المراحل وصولاً إلى مرادهم فيها.
سألني بنبرة قاسية: هل تريد أن تكون مثلي؟!
قلت بلهجة المعتذر: بل أريد أن أتتلمذ عليك..
رفع بيده »المقص« ذا العينين الواسعتين ورماني بقنبلة السؤال الثاني: أتعرف ما هذا؟!
لم يكن ثمة مجال للخطأ، فالمسافة بيننا ذراعان، والمقص الفاغر العينين، المرهف الحدين، لا يمكن أن يكون شيئا آخر… قلت بصوت جهدت في أن أجعله طبيعيا: إنه مقص!
رد بحدة: بل هو رئيس التحرير!
نقلت بصري بين وجهه العريض المنبطح تحت صلعته اللامعة، وقد شغلت مساحة ما فوق الأنف الأفطس نظارتان سميكتان، وبين المقص الذي لا يمكن أن يكون بديلاً منه أو قناعاً له أو جزءاً من يده، ولم أحر جواباً..
كرّر جملته المقتضبة بلهجة زاجرة: إنه رئيس التحرير! أفهمت؟!
كان لساني قد سقط في حلقي الذي جفّ الريق فيه تماماً، وعبثاً حاولت تحريكه، فلما عصاني هززت رأسي علامة الموافقة.
ارتاح، نوعا ما، فأكمل يزيد من اقتناعي: قصدت أن عبقرية حامله تتجلى في حسن اختيار ما يقص به من الصحف الأخرى لتكون مادة صحيفته.
هدأ روعي بعدما مر الدرس الأول بسلام، فظل المقص بعيدا عن صدري أو وجهي… وبدا على وجهي أنني أرغب في مزيد من التعلم، فاستجاب لرغبتي وعاد يقول: أتعرف فلاناً، رئيس تحرير الجريدة الأولى في لبنان، وفلاناً رئيس تحرير المجلة العربية الكبرى، وفلاناً الذي صار الآن مديراً للإذاعة… كل هؤلاء تخرجوا من هنا!
تابعت بعيني حركة يده المشيرة إلى الزاوية الشمالية في مكتبه الفسيح، فلم أجد غير سلة مهملات تكدست فيها قصاصات الورق التي لم يجد فيها ما يفيد جريدته…
هززت رأسي علامة الرضى بعدما اهتديت إلى موقعي الذي عليّ أن أبدأ منه رحلتي في اتجاه المستقبل.
… وما زلت حتى اليوم أحاول كتابة ما يمكن أن يختاره مقصه، لو أنه ما زال يختار، حتى لا يلقيني في ذلك »المعهد العالي« لتخريج كبار الصحافيين.
رحم الله الأستاذ المقص!
في حديقة الثرثرة
جلست »الزرافة« في قلب الليل. الثوب أبيض شديد البياض، والوجه الأسمر مرقط بالأحمر والأسود والكحلي. كان الصحب شديد الرجولة شديد الاهتمام بما قبل المرأة. أجالت بصرها بين السامرين والسامرات على الطاولات الأخرى ثم عادت الى من معها وقد فاض بها الضجر فأخذها إلى الصمت. لم يكن بين أصحاب الشنبات السميكة وربطات العنق المزركشة، رجل واحد.
قال طير الوقواق: هل أسلّيك، سيدتي؟
قالت وهي تلتفت إلى الطاووس وقد نفخ صدره إلى جانبها حتى كاد يغطي عينيه: سألهو بنتف الريش في صدر صديقي الملون.
تساءل الطاووس مغضباً: هل تتباهين عليّ بطولك؟ إن إناث الأرض جميعا ينتشين برؤيتي، أما الرجال فيقلدونني.
قال طير الوقواق: سنغدو مصدراً للفضيحة.
قالت الزرافة: الفضيحة أن تكونوا معي. إن العيون تتابعنا بفضول. الكل يعجب من جلوسي بين مَن لا يقدّر الجمال.
قال الطاووس: لأول مرة يمكنني أن أتباهى بتواضعي!
رف طير الوقواق بجناحيه مصفقا: لقد اكتشف كل منا، في هذه الجلسة القصيرة، أجمل ما فيه… الزرافة رأت نفسها ملكة للأناقة والتناسق، والطاووس رأى عقله أجمل من ريشه، أما أنا فقد وجدت فرصة لأن أغرد فأطرب!
أما الليل فقد أسدل ظلمته على أذنيه حتى لا يُتهم بالمسؤولية عن جلسة السمر الممتعة هذه، والتي لم ينفع نهر الخمر المتدفق في التخفيف من وطأتها على الساهرين.
في الجهة الأخرى كانت امرأة تذوب في أحضان عشيقها.
وكان ثمة رجل ينظر من خلف نظارتيه السوداوين بوله الى الزرافة التي لا تراه مع أنه لم يكن يرى غيرها في حديقة الثرثرة.
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
لا يقبل الحب الكراهية. فمن أحب سلماً اكتسب رقة لا تتحمل البغض أو الحسد أو الغيرة بمعناها المضاد للحب. الحب بحر بلا ضفاف، كلما غرفت منه فاض فأعطاك أكثر. محب واحد يستطيع أن يوزع السعادة على مدينة كاملة. ما زال قيس بن الملوح يعلمنا جيلاً بعد جيل، أن الحب لا ينتهي بالزمن، ولا ينقص بالشيوع.