ديموقراطية البيوتات العريقة .. في طائفيتها!
ليس أدل على بؤس الأوضاع السياسية التي يعيشها ويموت في ظلها الإنسان العربي من أن يكون لبنان هو »النموذج الديموقراطي« الأرقى والذي يكاد يكون قدوة لعشرات الملايين من »البلا صوت«.
إنهم يقرأون عن الديموقراطية في لبنان، ويتفرجون عليها عبر شاشات التلفزيون، وقد اقتحمت الآن عبر الفضائيات حواجز القمع والصمت المفروض، فتثير فضولهم وربما إعجابهم: كل يقول، وكل له رأي، وكل له صوت، وكل له مرشحوه، وكل له شعاراته… هذا يعارض الحاكم، وذاك يوالي المعارض، هذا يتهم الوزير بالرشوة، وذاك يتهم »الأمير« بالسرقة، هذا يشهّر بذاك لأنه مع الصلح مع إسرائيل، وذاك يرد مدافعا عن »السلام« بوصفه الطريق إلى الحرية والازدهار الاقتصادي وكرامة الإنسان.
الكلام كثير، وفيه كل المعاني السامية وعكسها، كل القيم ونقيضها، كل المفاهيم العصرية وكل ترسبات العصر الحجري.
على أن الأخطر والأدهى يكمن في الجذر الطائفي لهذه الديموقراطية.
إن الشعار الذي يشق صفوف الجماهير وصولا إلى غرائزهم، وأخطرها غريزة الدفاع عن النوع أو اللون الطائفي، هو الشعار الذي يخاطب »المجموعة« باعتبارها »أمة تامة« مهددة في وجودها!
وثمة »اتفاق جنتلمان«، وهو التعبير المهذب عن التواطؤ الفعلي القائم بين الطائفيين: فكلما اندفعت في تهييج طائفية جماعتك أفدت حليفك (الموضوعي) إذ ستجيئه طائفته على شكل قطيع مهتاج تهتف له »بالروح بالدم نفديك يا حامينا«.
هي دورة جهنمية لا تنتهي موضوعها الأول والأخير هو السلطة، وسلاحها الفعال هو الطائفية، وعلمها الخفاق والمخادع طائفي بالضرورة.
تتحدث عن فساد السلطة، مثلا، فيوافقك الجميع، فإذا ناديت بخلعها أثرت غضب طائفة القائم بالأمر: تتلاشى السياسة، وتندثر مطالب الشعب بالإصلاح، ولا يتبقى غير الحرص على حقوق الطائفة.
والديموقراطية أضعف بكثير من أن تهزم الطائفية.
تهاجم المتسلط، فإن كان شيعيا، ساندك السنة فاستُنفرت الطائفة الشيعية ضدك، وإن كان مارونيا هبّ جميع المسيحيين للدفاع عن امتيازات الطائفة.
الكل يعرف أن الطائفيين في حلف دائم وثابت لا تنفصم عراه، وأن الانقسام الذي قد يحصل، في لحظة الاختلاف على الغنائم إنما يستهدف تثبيت الزعامات القائمة.
لا مجال لتغيير جذري: فإن خاب الأب ولم يعد بالإمكان التستير على فشله، يتقدم ابنه فيتسلم راية الطائفية، باسم التغيير والتجدد، ويندفع لإكمال الرسالة.
مع الطائفية يرث أبناء الزعماء الشعارات الديموقراطية، وكل يبرر الإرث بحق المواطن في أن يختار قيادته بحرية.
على هذا ففي لبنان 17 نوعا من الديموقراطية:
ديموقراطية مارونية معقودة راية قيادتها لخمس أو ست من الزعامات التاريخية، والباقي من الطارئين الذين سيسقطون عند أول صدام جدي بين الطائفية والديموقراطية.
ديموقراطية سنية تتوزع قيادتها بضع عائلات عريقة، مع »فسحة« للزعامات التي قد يفرضها الوضع العربي، بالشعار السياسي الوهاج، أو بالذهب الأكثر توهجا.
ديموقراطية شيعية كانت احتكارا لبعض العائلات، ثم جاء »الهمج« من الدهماء والغوغاء »فشرشحوها« ووزعوها على الأحزاب والحركات الثورية، حتى قيض الله لها مَن أنقذها وأعاد احتكارها وحصرها بين فصيلين (على الطريقة الأميركية) بغير أن يلغي الزعامات والبيوتات العريقة، ولكنه أعاد ترتيب المقاعد.
أما الديموقراطية الدرزية فثابتة الأركان في ثنائيتها الأبدية، لا تتأثر بتغيير العهود والسياسات، فإذا ما حدث تبدل فإن ما ينقص في المربع الأخير يزيد في المربع الأخضر، والعكس بالعكس.
ديموقراطية أرثوذكسية، وديموقراطية كاثوليكية، ديموقراطية علوية، وديموقراطية إنجيلية، ديموقراطية لاتين وديموقراطية قبطية الخ..
لكل طائفي ديموقراطيته الخاصة، المفصلة على مقاسه.
لذلك فالصدام بين الديموقراطية يدفع البلاد غالبا في اتجاه الحرب الأهلية، ثم يكون »الاتفاق« على إعادة أو استعادة »السلم الأهلي« بإعادة صياغة التقاسم الطائفي… ديموقراطيا!
كلما نهضت طائفة وحاولت تعديل موقعها تخلخلت أسس الديموقراطية اللبنانية فكانت الحرب الأهلية.
وكلما ضعفت طائفة وهجمت الطوائف الأخرى لاقتسام الغنيمة تصدعت الديموقراطية ومسّ الخطر الزعامات والبيوتات فأطلت نذر الحرب الأهلية.
إنها ديموقراطية الطوائف.
ولك أن تتصور كيف يمكن أن يكون الطائفي، الذي لا يقبل بدين غيره، ديموقراطيا يقبل رأي غيره.
لكنه لبنان. عاشت الديموقراطية الطائفية. عاش لبنان العلماني!
لماذا السفر إلى حزن الهديل؟
كنت قد حسمت أمري واتخذت قراري الأخير: أن أنساك مستبقيا منك ألمي. قلت لنفسي مختتما الجدل الداخلي العقيم: هو لقاء عابر على أرض التوهم، ولقد انتهينا وانتهى فلماذا التحسر؟
كنت قد اقتنعت وقنعت بيأسي وانصرفت، أو تظاهرت بالانصراف، إلى ما يجب أن يشغلني، فلست أملك ترف هدر الوقت والجهد في ما يمتع النفس ويبهج القلب.
فجأة جاءني الصوت عريضا وبه بحّة مثيرة: كان قريبا جدا وغامضا جدا، وفيه شحنة كثيفة من الشجن. كان أشبه بالشكوى منه بالرجاء، وكان أقرب إلى الأنين منه إلى الغناء، وعاد إليّ صوت ناظم الغزالي يترجم بلسان أبي فراس الحمداني نواح الحمام.
التفت فإذا هي خلف الزجاج، عند إفريز النافذة.
افترضت أنها كانت تنظرني، وأنها كانت تنوح لي شخصياً!
لا أدري لماذا، في هذه اللحظة تحديدا، رأيت وجهك يملأ النافذة: كان شفافا لا يحجب الزجاج، وكانت ملامحك واضحة، وفي عينيك الواسعتين تتنزه السماء بنجومها وقد انتثرت من حولها غلالة رقيقة من الغيوم الصيفية العابرة.
كنت صامتة، لا يترقرق صوتك بتلك اللكنة التي تميزه وتنعشني إلى حدود الطرب.
لم يحن بعد زمن العتاب، فلماذا السفر إلى حزن الهديل؟! ولم تمتحن الأجنحة بعد، قدرتها على الطيران الى ذرى المتعة التي بالكاد ترتسم وعدا في أفق اللقاء الذي تأخر عن موعده حتى كاد يكون تلاقيا بين غريبين يمضي كل منهما في اتجاه مختلف عن اتجاه صاحبه.
أيتها التي هبطت من الدنى المسحورة التي كنت أظنها باتت خلف الأحلام، لماذا يأتي بك الهديل ثم يأخذك مني الخوف من المباشرة بما لا ينتهي ولا ينقطع من بعد؟!
لماذا تقدمين النهاية على البداية؟
لماذا الهديل ونحن في الحرف الأول الذي إذا اكتمل بالثاني غنت طيور الأرض وأزهرت الشموس وصار الليل أرجوحة للحنين؟
إذا كانت البداية شجناً فأين جرح النهاية، يا ذات العينين الأوسع من مداي؟
ملاك في هاتف الشياطين!
جاءه صوت البعد ندياً فانتعش: ما زال يعيش في ذاكرة الحب، إذاً.
توزعت أفكاره بين كلماتها التي تحيي آمالا ذابلة، وبين شعوره بأنه يغرق أكثر فأكثر في لجة النسيان.
قال لنفسه: كيف يُحسب في عداد الأحياء هؤلاء الذين لا يحبون.
قالت وكأنما سمعت كلماته: اشتقت لأن أحس بذاتي، لأن أخرج من دائرة الإهمال والكلام المجفف، والابتسامات المتيبسة على شفاه لم تعرف القبل. اشتقت إلى البكاء والضحك، الى الشهوة والخطأ، اشتقت الى جسدي، فتذكرتك.
ورد وهو لا يسيطر على أفكاره: معك أرضى بموقع الشيطان!
قالت ضاحكة: لم أعرف عنك حبك للملائكة. كنت تقول إنك تمقت الذين لا وجود لهم إلا عبر الآخرين.
هتف: ومَن منا يمكن أن يكون، أن يحقق ذاته، ان يؤكد حضوره إلا عبر الآخرين.
دوت قهقهتها في أذنه، والتقط أجزاء من كلمات تفيد أنه التقط قصدها الأول.
لم يسألها موعدا، ولم تطلب لقاء.
قال لنفسه: أرادت أن تسلي وقتها بكلام مرسل مع من يريحها بغير أن يطلب مكافأة.
بعد لحظة انتبه الى انه قد نسي موعدا مع »ملاك« جديد.
قال لنفسه: هذه من علامات الشيخوخة، النسيان والملائكة والصوت البلا صدى، وجسد يظل أكبر من أن تناله داخل سماعة الهاتف المسكون بالشياطين!
قصص مبتورة
} سألته بكثير من الغنج: ألا تحب التفاح؟ خذ هذه من يدي!
ورد كمن انتبه من غفلة: لو عاش جدنا آدم في أيامنا هذه، ورأى كم هي عديدة أصناف التفاح، وكم تتعدد ألوانه وأحجامه وكم يختلف الطعم من تفاحة إلى أخرى، لما كانت جدتكن حواء قد نجحت في غوايته وطرده من الجنة. على أي حال، إذا كان الهدف التفاح فيمكن اعتباره قد ربح!
} قالت للمطرب وقد انتشت بالنغم: صوتك جميل، إنه يأخذني بعيدا بعيدا إلى عوالم لم يطأها بشري من قبل.
ورد المطرب وفي صوته أنة عتب أو حزن أو خيبة أمل: اذهبي إلى حيث لا أحد، وأحبي الفراغ والوحشة والصمت.
قالت: لم أقصد أن أجرحك.
رد وهو يقوم منصرفا: أنا الغبي، كنت أحسب ان صوتي هو الجسر بيننا، وها هو يأخذك مني ويبقيني وحيدا. لن أغني لمستمع يطلب الهجرة، بل أغني للحب باعتباره الناس وليس المنفى.
} سألته معاتبة: أما زلت حيث تركتك، شعورا ومكانا واهتمامات؟!
بوغت بالسؤال فلم يعرف بماذا يرد، وأنقذته بأن استدركت فقالت: حسنا، أعرف الجواب، وأعرف العنوان، وأعرف أن عليّ أن أقوم بالجهد كله، وأرضى ولا ترضى… متى تتمرد على بؤسك وتحس بأنني أنا المظلومة لا أنت؟! ألا تجد راحتك إلا في شقائنا معا؟!
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
أعجب لمن يعتبر الحب حالة عابرة تنتهي عندما يتدخل العقل. أعظم إنجاز للعقل هو الحب. الحب معادلة رياضية لعلها الأعقد في التاريخ الإنساني… أن يتكامل إنسانان ويتوحدا، بغير فراق، فيذوب واحدهما في الآخر، بغير إكراه، ليصنعا عالما رائعا وجديدا، بغير قسر أو ادعاء. وحده الحب يصنع بسحره المعجزة الإنسانية الأبهى.