إريك رولو »المتقاعد« ما زال يشاهد ويشهد على العرب!
حين جاءني صوته الملتبس، عبر الهاتف، شعرت بفرح غامر: ها هو اريك رولو في بيروت، مجددا… يا عودة الزمن الجميل!
وصوت اريك ملتبس، إذ يتداخل فيه الود وتساؤل العارف وظرف الماكر ولهفة الصديق… كما أنه ملتبس لأنه مثل صاحبه متعدد »الانتماءات«، فهو فرنسي ولد في مصر وعاش فيها صباه الأول، ولهجته ما زالت اسكندرانية، ثم انه يهودي الأصل لكنه نجح في بناء شبكة ممتازة من العلاقات العربية، ونجح في عرض العديد من قضايا النضال العربي، بحيث بات قريبا من العديد من زعماء العرب الذين كانوا يعملون للثورة أو يقولون بها.
باختصار، فإن اريك رولو كان أحد الأبرز والأدق بين الصحافيين الفرنسيين الذين اهتموا بمنطقتنا وكتبوا عنها كتابة »المعني« بطموحاتها وهمومها، خصوصا وهو قد عرف معظم قياداتها وأحزابها وحركاتها الثورية: من جمال عبد الناصر، الذي قرّبه وخصه بأكثر من حديث و»خبطة« صحافية، إلى حزب البعث بقياداته المختلفة، ومن القوميين العرب إلى الشيوعيين والماركسيين العرب، ومن حركة فتح بقاداتها الكثر وأجنحتها »الواحدة« في تعددها، إلى آخر فصائل الكفاح المسلح الفلسطيني، مع مكانة مميزة لصديقه الحميم صلاح خلف (أبو أياد)، من دون أن ننسى الصلة الخاصة بمعمر القذافي وثورته في ليبيا.
كان العرب يومها صانعي أخبار، من موقعهم كأصحاب قضية عادلة، ولم يكونوا على حالهم اليوم مجرد تفاصيل في أخبار يصنعها الغير… وكان اريك رولو مهتما وكان يرعى علاقاته العربية ويعززها باستمرار حتى بات مرجعا مسؤولا بالقضايا العربية في صحيفة »لوموند« الفرنسية المعروفة، برصانتها وقوة تأثيرها، ترجع إليه الحكومات الفرنسية وأوساط أخرى.
قال اريك عبر الهاتف: متى نلتقي؟!
وكنت متلهفا الى هذا اللقاء بعد غياب عن بيروت طال واستطال، أكثر مما تعودنا منه، حتى صار وصوله إليها »خبرا«… خصوصا ان العمل الدبلوماسي كان قد سرق اريك رولو من الصحافة، إذ اختاره الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران وكان صديقا شخصيا له ليكون سفيره في تونس اثر أزمة جديدة معها أدت الى قطع العلاقات بين البلدين المتكاملين (في نظر البعض) كالعاصمة والضاحية.. ثم ليكون سفيره في تركيا في ظل أزمة مفتوحة دائما بين أنقرة والعواصم الأوروبية عموما، ان بسبب الاضطهاد التركي المفتوح للأكراد (وهي تسميهم أتراك الجبال لتنفي أصلهم ومطالبهم المشروعة) أو بسبب الإلحاح التركي الدائم على طلب الهوية الأوروبية والانتساب الى الاتحاد الأوروبي ونعمه الكثيرة، خصوصا أن انقرة تنفي »إسلامها« بالبيزنطية!
… والتقينا، فقال اريك رولو انه جاء بيروت بدعوة من الاعلامي المتميز عماد الدين أديب لندوة يهمه موضوعها، وانه كان قبل فترة في سوريا، وبعدها انتقل الى إسرائيل، وزار »فلسطين السلطة« في غزة ورام الله، بعدما كان قد أمضى أكثر من شهرين في الولايات المتحدة الأميركية حيث زار العديد من مدنها والتقى العديد من مسؤوليها.
لاحظت ان اريك قد فقد الاهتمام بالأخبار، ولكنه لم يفقد الاهتمام بتحليلها أو بالتدقيق في شخصيات صانعيها وأهدافهم أو أغراضهم المباشرة أو بعيدة المدى.
وأخذنا الحديث الى إسرائيل التي يعرفها اريك رولو جيدا، وأين هي اليوم، فجزم الزميل »المتقاعد« بغير أن يستقيل من »فضوله«، ان المشروع الصهيوني قد فشل، وان إسرائيل الحالية محكومة بالخروج منه وعليه، لكي تبقى.
قال اريك: أنظروا إلى تركيبة إسرائيل البشرية. ان فيها مليونا من الروس، أكثر من نصفهم من غير اليهود، وهم قد ادعوا اليهودية ليخرجوا من الاتحاد السوفياتي السابق، ثم من روسيا، وتعذر عليهم الحصول على الجنسية الأميركية فبقوا في بلاد جاؤوها كمعبر فصارت لهم وطنا اضطراريا! أضف الى هؤلاء مليونا من العرب (الفلسطينيين)، ومليونا ثالثا من اليهود العرب الذين جاؤوا من الأقطار العربية ما بين المغرب واليمن، أي ان أكثر من نصف سكان إسرائيل هم من غير اليهود »المطهرين«. تخيل المشهد بعد عشر سنوات، مثلا؟! أين تلك الإسرائيل من المشروع الصهيوني؟! انها محكومة بأن تصير جزءا من المنطقة وإلا زالت… وأين المشروع الصهيوني؟!
أما عن »السلطة« وما »تحكمه« ولا تحكمه من »مناطق«، فيحدث اريك ولا حرج.
يروي عددا من الحكايات والحوادث التي تؤكد كم ان المضطهَد يقلد مضطهِده بحيث يغدو مسخاً. وتتسع حدقتا عينيه وهو يخبرك أن رجال شرطة »السلطة« كثيرا ما يحدثون بعضهم البعض بالعبرية، وكيف انهم في مطار غزة وأمكنة أخرى يتبادلون الحديث مع رجال الأمن الإسرائيليين بالعبرية!
يقول اريك رولو: ان الفارق بين غزة وبين تل أبيب أو أي مدينة إسرائيلية هو تماما كالفارق بين قرية في أدغال أفريقيا وبين سان فرنسيسكو أو لوس انجلوس مثلا… فإسرائيل للمناسبة قطعة من أميركا وليس من أوروبا.
ويقول اريك ان رحلته من غزة إلى تل أبيب لم تستغرق إلا أربعين دقيقة، بينما استغرقت معه من غزة إلى رام الله أكثر من أربع ساعات بسبب من كثافة الحواجز (كل كلم تقريبا، حاجز وبنادق إسرائيلية).
يختم اريك رولو حديثه عن مشاهداته بالقول: ان الإسرائيليين لم يعودوا خائفين. اختفى شبح الحرب من عيونهم. توطدت ثقتهم بقوتهم كما بعجز العرب عن الحرب، فباتوا يمشون في الأرض طرا. لم يعودوا بحاجة إلى السلام، وارتفعت مداخيلهم أكثر من حاجتهم، فأخذوا يُظهرون الضجر من.. ترفهم!
أما مشروع الدولة الفلسطينية فحديث خرافة؛ لا هي موجودة اليوم ولا هي ستكون غدا إلا من داخل إسرائيل وضمن مقتضيات أمنها.
أطرف ما قاله الزميل العريق الذي تجاوز سن التقاعد ولم يتقاعد وان »هرب« من الصحافة إلى »الكتب«، انه أراد أن يلتقي مسؤولاً إسرائيلياً، فاختار الجنرال اوري ساغي (رئيس الوفد المفاوض مع الفلسطينيين).. وحين أغلق عليهما الباب سأله ساغي: من أين تجيء؟! رد رولو: من فلسطين!
و»نقز« الجنرال الإسرائيلي، وتفكّر لحظة قبل أن يسأل: آه.. قصدك من »المناطق«!!
ستتأخر ولادة فلسطين، إذاً، حتى تصير إسرائيل جزءا من المنطقة، بفعل ان غالبية سكانها لن تكون من اليهود، وعندها ربما تجد »الدولة الديموقراطية« فرصة لولادتها على أرض الواقع… أرض فشل المشروعين: الصهيوني والعربي؟!
لا يحب اريك رولو التنبؤ. هو حرفته السؤال. ونحن مثله.
فأما أسئلة رولو عن لبنان فأجوبتها مرجأة. يكفي اليوم هذا القدر من »الأخبار المفرحة«!
لك الله يا بعلبك في مهرجانات الطائفية الآكلة للفن!
لست ناقدا فنيا ولا أحب أن أكون،
ولست خبيرا محلفا في الموسيقى والغناء وإن كنت أتمنى أن أُحسب في عداد المتذوقين.
ومع أنني ممن »يحشرون« السياسة، بمعناها الواسع، في كل الأمور، فأكاد لا أرى أمرا ولا أفهم حدثا ولا أسمع نكتة من خارج السياسة، بمنطقها الثقافي الشمولي، إلا أنني أقدّر الإبداع الفني عن أي جهة صدر، وبمعزل عن صراع الحضارات، وبعيدا عن الحذلقة العصبوية لأركان الصفحات والكتابات الثقافية، وأغبط هؤلاء المبدعين في مختلف مجالات الفنون؛ من الغناء والموسيقى إلى الرسم والنحت، إلى الشعر والمسرح والرواية والأدب عموما، وصولا الى الرقص بتنويعاته المختلفة من الباليه إلى الرقص الشرقي مرورا بالفولكلور الشعبي والدبكة منه في الطليعة.
على هذا، فلن أتوقف طويلاً أمام الحكمة من اختيار »نشيد الأناشيد« ليكون الافتتاحية في مهرجانات بعلبك لهذه السنة، التي بالمصادفة شهدت انتصار لبنان المقاوم على الاحتلال الإسرائيلي، فتم جلاؤه بعد 22 سنة على اجتياحه الواسع الأول، و22 سنة على القرار الدولي القاضي بانسحابه.
لكن عدم التوقف لا يُسقط حقي في الدعوة إلى عدم إقحام النص الديني أو شبه الديني، المقدس فعلا أو المصنف مقدسا، المأخوذ مباشرة من الكتب السماوية أو ما تبدى وكأنه قريب من نصها، في أي عمل فني. لأن »نقده« والحال هذه يقف بنا عند تخوم الفتنة، إذ سيغلب التعصبُ أو العاطفة الدينية العقلَ، وسيتحول النقد الى تجديف أو إلى اعتداء على مقدسات الآخرين، وكل ذلك يصب في خانة الحرب الأهلية التي لا تخبو نيرانها إلا لتجد من يشعلها مجددا.
كذلك يظل مشروعا، والحال هذه، أن تُساءَل لجنة مهرجانات بعلبك لماذا ورّطت نفسها في هذا الموضوع الذي يصعب تبريره أو الدفاع عنه، مهما حسنت النوايا، فكيف إذا ما اتخذ هذا التورط ذريعة لاشتباك طائفي بين المتسيسين أو اشتباك مسيس بين الطائفيين أو المعتبرين مراجع دينية معصومة لا يأتيها الباطل من خلفها أو من قدامها بينما هي قادرة على »تكفير« كل من خالفها في رأي أو اجتهاد؟!
وأعترف بأنني قصدت بعلبك ليل الأحد الماضي مدفوعا بالحرج أكثر مني بالرغبة، وبالفضول أكثر مني بالتلهف الى سهرة فنية لا تنسى.
فأنا بلا مؤاخذة صاحب مزاج في الطرب والمغنى، أسمع كثيرا وأختار قليلا، ونادرا ما يأخذني الانسجام إلى النشوة والى حيث يهزني الطرب.
ثم انني بحكم السن والتجربة فتي الأذن، متشوق إلى الجديد، برغم تقديري العظيم للعبقريات التي أعطتنا »كلاسيكيات« الغناء العربي الحديث: من محمد عثمان الى الشيخ سلامة حجازي الى زكريا أحمد والسنباطي والطويل والموجي، ومن محمد عبد الوهاب إلى أم كلثوم، فإلى أسمهان وليلى مراد، وصولاً الى فايزة أحمد وعبد الحليم حافظ، وانتهاء بقمم الغناء في لبنان: فيروز ونصري شمس الدين ووديع الصافي ونجاح سلام وصباح الخ…
قصدنا بعلبك لتحية مدينة الشمس ليلاً، وللتثبت من انها ما زالت تعيش غربة عن مهرجانها السنوي، وللسمر مع »البلدوزر« نضال الأشقر، والتعرف الى »نجمين« جديدين دوت شهرتهما قبل أن يسمعهما أحد: زاد ملتقى وفاديا طنب الحاج، وأخيرا لدراسة نتائج الاختراق الخليفي (نسبة إلى مارسيل خليفة) لهذه المهرجانات ذات السمعة العالمية، كما سمعة السيدات اللواتي تضمهن لجنتها، مع وعد للنفس بخاتمة منشية مع الصوت الجميل للمطرب سيئ الحظ و»الغشيم« في تقديم فنه: عبد الكريم الشعار!
كان الهواء قد أخذ يرق ويتخفف من أسياخ حرارته النهارية، والسماء صافية يسبح فيها هلال ذابل الضياء يسري في فضاء تتبعثر نجومه لتؤنس وحشة الصمت الذي يظلل الفقراء والبائسين الذين يموتون مثل مواسمهم وأشجارهم على الطرقات، بغير رثاء أو جنازات يتصدرها ممثلو الزعامات والقيادات والوجهاء.
بدأ الحفل بكل الطقوس التي ترافق القداس، وزاد من جلاله مشاركة الكورس الآتي من جامعة سيدة اللويزة، وأداء الفرقة الموسيقية المتميزة الأداء والآتية خصيصا من ألمانيا لتؤدي التأليف المبتكر الذي أعده اللبناني الذي عاش وتربى وتعلم في فرنسا حتى كاد يصير منها، زاد ملتقى، ثم تلك الإطلالة المشعة للمؤدية فادية الحاج، التي كانت تذكّر بالكادر الفيروزي الشهير، حتى لا نقول بصور القديسين والقديسات التي ينطفئ النور من حولها لتغدو وحدها مصدر النور.
صدحت فادية بما يشبه الكلام. لكن أحدا لم يسمع فيفهم كلمة مما تقول. كانت الموسيقى عالية بحيث يختفي الصوت في ثناياها، وتضيع معاني الكلمات وبالتالي الصور الجميلة التي تشدو بها المطربة التي كانت تبدو أقرب إلى تمثال منور.
فجأة، وعلى غير توقع، ارتفع أذان العشاء من المآذن القريبة، فأسكت المايسترو شديد الحيوية والتهذيب، فرقته، والمطربة، وانحنى وعصاه السحرية في يده، حتى أنهى المؤذن »دوره«، فعاد الى مهمته وارتفع صوت الموسيقى من جديد.
بعد فواصل بين فقرات لم نعرف لها منطقا أو سياقا، جاء عبد الكريم الشعار من طرف المسرح، ووقف فغنى مقطعا صغيرا مع الفرقة الموسيقية، ثم سكتت الفرقة تماما، وصمت القمر، والليل والمؤذن، ليرتفع صوت الشعار وحده في وصلة لم تُفهم وظيفتها، ولا أمكن الربط بينها وبين ما سبقها ثم ما لحق بها من الفقرات… ولم تطل كفاية بحيث تصير تعويضا مقبولا عما قبلها كما عما بعدها.
استراحة، ثم أُخلي الجو لمارسيل خليفة وألحانه وفرقته وابنه ذي الموهبة، فقدم خلطة من ثورياته القديمة وغربياته الجديدة، لم نفهم لها سياقا أو وظيفة، وإن كان الجمهور قد استقبلها بحماسة ذكرياته وشوقه الى من يعبر عن آلامه الحاضرة.
انتهت الحفلة مقطعة الأوصال والتي لا رابط ولا مضمون يجمع بين فقراتها المختلفة، التي قد تكون كل فقرة منها جميلة بذاتها لكنها لا تشكل »وحدة« إلا من حيث المكان، أي المسرح والمدينة والليل والقلعة والقمر وقرار اللجنة وملهميها الكبار.
قداس شبه كنسي بنص شبه توراتي يتخلله أذان العشاء في معبد روماني، في مدينة تتهددها »ثورة الجياع« ويحكم قرارها »حزب الله« الذي انتصر في إجلاء الاحتلال الإسرائيلي عن الجنوب بمقاومة أعطى حوالى ألف من شباب هذه المنطقة حيواتهم لها بغير منة،
ومؤلف لبناني بجنسية فرنسية وفرقة ألمانية تعزف لنص عربي مترجم عن ترجمة لأصله العبري (؟) تؤديه مطربة رقيقة في ظل موسيقى عالية وطاغية، تلتهم الكلام والصوت والمعنى وآذان الجمهور.
ماذا يتبقى غير الليل والقمر والهواء وصمت بعلبك الذي قد يخفي غضب الثورة أو عجز الفقراء عن تغيير واقعهم البائس.
يبقى هذه المعركة المفتعلة التي تستعيد مناخ الحرب الأهلية لتؤكد الصلة العضوية لأطرافها جميعا بالدين والفن، موسيقى وشعراء وغناء! عشتم، عاش الفن، وعاش لبنان!
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
قد تسبق الكلمة النظرة والابتسامة في فتح الباب للحب. المحبون ثرثارون حتى في صمتهم. مع الحب تكتشف ان للهواء لغة، ان للنور لغة، ان لليل لغة، للورد لغة، للفراشات لغة. يجعلك الحب خبيرا محلفا بكل اللغات التي بلا حروف. هذه الكلمة المن حرفين صنعت ملايين القصائد والروايات وما زالت ولاّدة. بها البداية، لكن لا نهاية للمدى الذي يفتحه هذان الحرفان السحريان متى اجتمعا.