إسرائيل »تستعير« لغة هزيمتنا، والنصر أفصح منا!
للنصر لغته القاطعة في وضوحها، البسيطة في تعابيرها، المختصرة جملها، إذ تقول العيون والملامح ما تعجز عن حمله الكلمات.
وللهزيمة الجمل المقطعة، والثرثرة الطويلة بكلمات ممطوطة ومعها فواصل من التأتأة وصمت المتدبر حيلة ليحجب الحقيقة المجلجلة بألفاظ ميتة، يرافق ذلك هرب بالعيون من مواجهة الآخر حتى لا تكذِّب ملامحه ادعاءاته والتبريرات.
… وها نحن نتبادل مع إسرائيل اللغة والمفردات نتيجة للتبدل الذي أحدثته المقاومة الباسلة في المواقع، إذ أخذتنا إلى النصر تاركة إسرائيل تتخبط تحت عيون العالم أجمع في مستنقع هزيمتها المكشوفة.
صارت لغة إسرائيل »عربية« إلى حد كبير، مفرداتها هي تلك التي احترفنا استعمالها حتى لم تعد بنا حاجة إلى التفكير قبل أن نطلقها سيولاً من الاعتذارات والتبريرات واللجوء إلى المقادير والأحوال الجوية والحظ اللعين!
مرة من قبل حدث ذلك لإسرائيل: في الأيام الأولى لحرب 1973.
على أن »المباغتة« كانت يومذاك العذر الجاهز.
أما في حالة لبنان المقاوم فالنتيجة جاءت تتويجا لسنوات طويلة من الجهاد ومن التضحيات، ولمواجهة امتدت لعقدين أو أكثر حتى لم يعد للمفاجأة مكان!
مع ذلك فوجئت إسرائيل، فانهارت أسطورة حضورها الذهني الدائم، وجاهزيتها الكاملة في كل زمان ومكان، خصوصا وأن المسرح العالمي ورأيه العام (اليقظ!!) جاهز دائما لتلقف منطقها وتعميمه ولتبني ادعاءاتها واعتمادها نهجهاً لا يجوز التفريط به أو التحوير فيه.
وعلى سبيل المثال وليس الحصر فإن الإسرائيليين »يستعيرون« منا الآن كلمات وتعابير من نوع: بوغتنا! لم نكن نتوقع الانسحاب المهين! الفشل الصاعق« الإذلال! القصور! مَن المسؤول عن التقصير؟! الانهيار! خيانة الحلفاء. التخلي عن الأصدقاء الذين خدمونا طوال 25 سنة! خلال أقل من 24 سنة تم شطب »الحزام الأمني«! القرار ليس في يدنا! »حزب الله« يقرر لإسرائيل!
أما في السياسة، فالإسرائيليون قد »استعاروا« منا كل ما يتصل بالأمم المتحدة، فصارت لهم »الملجأ« و»الملاذ« إليها يتوجهون ومنها يطلبون تأمين الحدود، ووقف التعديات، وسحب القوات المغيرة، والحرص على تطبيق قراراتها المعتقة!
كذلك فقد »استعارت« إسرائيل من فولكلورنا السياسي التعابير الدالة على التلاوين الطائفية، وأخذت ترد إلينا بضاعتنا، فنسمع منها »خطابا« موجها إلى »الشيعة« وآخر إلى »المسيحيين« وثالثا إلى »الدروز« ورابعا إلى »السنة«.
ومع أن المنطق الإسرائيلي يعتمد، ومنذ مقدمات إنشاء الكيان، سياسة »فرق تسد« والتعامل مع »العرب« على أنهم مجموعات منفصلة ومتباعدة من الأقليات الطائفية والمذهبية، إلا أنها حاولت عبر تجربة »جيش لبنان الجنوبي« ان تواجه دولة لبنان الموحد بنموذج كاريكاتوري لتوحيد قسري (وعسكري) في أحضان جيشها، فإذا بهذه الميليشيا المزودة بكميات هائلة من السلاح تتحول إلى عبء يثقل خطى قواتها المنسحبة من جنوبي لبنان ويكشف حجم هزيمتها الصاعقة.
* * *
هذا عن إسرائيل، فماذا عن لبنان المنتصر؟!
ما زلنا، شأننا شأن سائر العرب، نخاف من النصر، ربما لأننا نحس أن أكتافنا أضيق وأضعف من أن تتسع لحمله الثقيل!
نكاد »نطمئن« في أحضان الهزيمة، ولا نثق بقدرتنا على تحمل وطأة النصر!
ذلك أن حماية النصر والاندفاع به قدما أخطر من إنجازه ميدانيا!
النصر للوطن، أما الكيان فقد يتهالك وقد يتهاوى تحت وطأة إنجاز عظيم، يتجاهل التسويات الهشة التي قام عليها أو يتجاوز طاقتها على التحمل.
كأنما كتب على اللبناني أن يحوّل بدمه الكيان إلى وطن.
والكيان هو ائتلاف مفروض أو اضطراري بين مجموعة من الأقليات على أسس مرتجلة تفرض تغييب كل ما هو جذري ودائم، وتقدم الطوائف على ما عداها، وتنشئ توازنا بين العصبيات والحساسيات فإذا ما اختل هذا التوازن انهار كل شيء!
وهكذا فكلما حاول اللبناني أن يتخلص من طائفيته انتصب شبح الحرب الأهلية في طول البلاد وعرضها.
كأنما كُتب على اللبناني أن يعيش أسير طائفيته، وأن يحميها حتى لا يتهدده الخطر على المصير.
كأنما كُتب على اللبناني أن يقاتل طائفيته، فإذا ما اقترب من النصر عليها قتلته طائفية الآخر، أو هي ألزمته بأن يعود إلى جحر طائفيته ليسلم!
كأنما كُتب على اللبناني أن يعيد صوغ نفسه كبيراً بعدما حُجر عليه في أسار الغرائز والمنافع والمؤسسات المستفيدة من الطوائف والمتعيشة عليها، وهو صغير.
الطريف أن العالم كله يشارك في قهر اللبناني وحجزه داخل طائفيته، يستوي في ذلك علمانيو الغرب وملحدو الشرق، والعرب بمختلف مذاهبهم والإسرائيليون على اختلاف تفرعاتهم العلمانية والمتدينة!
لكأنه استثمار مفيد ومربح للآخرين جميعا،
ولعله معيار التوازن بين القوى جميعا، فإن اختل داخله انهار التوازن وتصادمت إرادات ومصالح عظمى ونشبت حروب.. عالمية!
* * *
كل انتصار على إسرائيل هو، بداية، انتصار على الذات، على الواقع المريض والمتعفن، على الطائفية والمذهبية، على الطغيان والفردية، على القمع والظلم واحتقار الإنسان، على الاستكانة للهزيمة كقدر والاستسلام لإرادة الأجنبي.
كل هزيمة في المواجهة مع إسرائيل عززت من قبضة النظام في الداخل، فطغى وتجبر، وابتعد عن الناس وهمومهم وفرض عليهم الخرس، بذريعة الاستعداد للعودة إلى ميدان المعركة… ثم انتهى به الأمر مستسلما عند الإسرائيلي وسط العجز الشعبي المطلق عن ردعه، أو عن رفض هذا الخيار المفروض!
وكل نصر في المواجهة مع إسرائيل يؤدي حكما إلى مزيد من الديموقراطية إذ يتضمن اعترافا بالإنسان وبقدراته، بعقله وكفاءته وبجدارته في أن يختار.
كل هزيمة تأخذنا من الدين إلى الخرافة، ومن الإيمان إلى الطقوس والشكليات التي لا تنفع إلا في تأكيد اختلاف واحدنا عن الآخر في الشكل ثم في جوهر الإيمان، حتى لنكاد نفترض أن في السماء من الآلهة بعدد الطوائف والمذاهب والفرق والشيع على الأرض، أو يصبح الذين يتحكمون بنا على الأرض هم البدلاء عن الخالق الأوحد والله الذي لا إله إلا هو.
وكل نصر يأخذنا إلى مزيد من الوعي، ومزيد من النضج، ويطهر نفوسنا فلا نعتبر الاجتهاد في فهم النص تجديفا، ولا نرى في الشعر بدعة من عمل الشيطان، ولا نحاسب في الرواية نوايا كاتبها كما نقرر أو نريد أو نفهم، ولا نتلهى بالسفسطة وتكفير الآخرين لنخرجهم من الوطن بحجة تطهيره بينما نحن نفقده عقله وإرادته وقدرته على صناعة مستقبله.
ليكن، لمرة، النصر عربيا، بمفاعيله.
ولتكن الهزيمة، لمرة، إسرائيلية بنتائجها وتداعياتها غير المحدودة.
المجد للمقاومة. المجد للذي يرى الله في أرضه، ويرى الله بقلبه وبعقله معاً!
هنيئاً لك بما شغلك عني
ترقرق الصوت في أذنيه نغما شجيا،
لم يسمع الكلمات، لكن انتعاشه فضح مدى تلهفه إليها.
قالت وقالت وقالت، وهمهم، ثم هم بأن يقول وعاد فعدل، ابتسم، ضحك، لوّح بيديه ابتهاجا، احتضن السماعة، ثم أبعدها خوفا من أن تكون عيناها فيها.
انقطع الخط، فهدأ روعه، واحتشدت في ذهنه الكلمات التي لم يقلها حتى ضاق بها. انتظر أن تعاود الاتصال فلما يئس جلس يكتب إليها رسالة. بعد الجملة الأولى توقفت يده، وانتبه فجأة إلى أن ليس في ذهنه ولا على سن قلمه أية كلمة. أخذه التفكير إليها. إنه بالكاد يعرفها. مَن هي؟! ما طبيعتها؟! ماذا تريد من دنياها؟ كيف تنظر إلى الناس والأيام. أين الحدود بين المجاملة والاستلطاف والرغبة والحب؟! ما هو موقفها من الآخرين، من الأفكار والآراء والأحداث؟! ما اسمها الثلاثي؟!
إن الهاتف من جديد. خلا ذهنه من الأسئلة جميعا، ولم يتبق في صدره غير اللهفة وغير الشوق إليها وغير الرغبة في لقائها، هي التي في البعيد البعيد.
جاءه الصوت غليظا جدا فأبعد السماعة عن أذنه كالملسوع.
قال الصوت الذي يعرف صاحبه جيدا: ما لك؟! هل تشكو من ألم أو انني شغلتك عن أمر كنت مستغرقا فيه؟!
قال معتذرا: أبدا، أبدا، كنت بعيدا فجئت متعجلاً ولم أعرفك للوهلة الأولى فعذرا.
قال صاحبه: هنيئا لك بما شغلك عني. سأكلمك في ما بعد. ليتني في مثل حالتك المبهجة!
لقد فضحه إذن. أتراها هي الأخرى تعرف ما هو فيه؟!
مزق الورقة البيضاء نتفاً. أخفى القلم. وترك الغرفة، وخرج إلى الفراغ حتى يحتفظ بسره الصغير، الذي مثل الهاتف سيظل كلاما من طرف واحد ينتظر جوابا من أخرس لا يعرف ما هو فيه لكي يعلنه.
تهويمات
} تموت المرأة قبل أن تموت غيرتها من المرأة الأخرى.
لا يبدل العمر من قواعد اللعبة، ولا يسقط الشيب أو العجز أحقاد الزمن القديم.
لا تتسع الأرض لحواءين. الجنة من قبل لم تتسع لواحدة كان ينقصها من تبادلها… الغيرة!
} ليس الصمت ملجأ. الصمت احتراق تحت شمس بدايات الصيف في قلب صحراء لا مجير فيها ولا ظل ولا قطرة ماء.
الخيار بين أن تحترق بالقرب أو تحترق بالبعد.
ما أعظم الكلمة التي تُنبت في قلب اليباب بشراً سوياً.
} طارت علامات الاستفهام رسائل بغير عنوان وبغير توقيع.
لا تنتظر الأجوبة ساعي البريد.
حين يكتمل الجواب تنتفي الحاجة إلى الكتابة.
} لم تسأله عن اسمه ولم يطلب منها العنوان. كان كل شيء معروفا إلى حد النسيان. تكره جسدك إن هو صار أهم من اسمك، وقد تكره اسمك إن هو ألغى حضورك.
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
الحب ليس نزهة في رياض الأنس. إنه الحياة بكل حلاوتها ومتاعبها ومشكلاتها وهمومها. وهو عظيم البهاء كالحياة، له إشراقة الفجر المندى، وله ظهيرته المنهكة بلسعات شمسها القوية، وله ليله المزركشة عتمته بطاقات النور تبثها النجوم ويرصعها القمر بخيوط نوره الواهنة. ليس للحب وجه واحد. ليس الحب إجازة من الحياة. إنه توغل فيها وارتشاف من رحيقها حتى الثمالة.
في قلب الوجع يقيم حبك… وعليك أن تحملهما معا لتحيا.