»الخالدون« معروضون: الناشرون يقرأون والقراء يتفرجون!
بعد السجادة الحمراء، لزوم التشريفات، سلّم إلى المدخل المفخم للمستودع الضخم الذي جمّله الديكور، فبات لائقا بالخالدين (أو بالمتسلقين أو بالهواة الذين رغبوا في أن يروا أسماءهم مطبوعة على ورق صقيل) من المبدعين كتابا وبحاثة وعلماء وشعراء كان يتبعهم الغاوون عندما كان القلب ينبض إحساسه منظوماً ومموسقاً ورقيقاً كجناح فراشة.
المدخل مسدود بجنزير يلتف نصف دائرة من حول طاولة، وحارسين يرتديان ثيابا شبه عسكرية، ويفتحان عيونهم بالارتياب والتحسب واليقظة حتى لا يدخل »الخطرون« أو يهرب من رقابتهما »لصوص الكتب« و»محترفو القراءة بالمجان«.
انتبه! أنت في معرض الكتاب.
المشهد في الداخل طريف: الأجنحة أنيقة، حسنة التنسيق والتنظيم، وفي معظم الأجنحة ظريفات لا تبدو على ملامحهن آثار القراءة، أو شبان بلحى تتسم ملامحهم بالوقار المتناسب مع المؤلفات التي يعرضونها والتي تتناول أساساً علاقات أبناء الأرض بالرفيق الأعلى… أما »الزبائن« فقلة معدودة، يغلب عندهم الفضول على التشوق إلى الثقافة: لعلنا نجد ما يستحق أن نقتطع ثمنه من قوت العيال!
أين ذهب القراء؟!
المؤلفون »معتقلون« هنا في كتبهم الجديدة أو المجددة، منقحة ومزيدة أو مستنسخة عن تلك التي نفدت طبعاتها السابقة.
والناشرون المتعبون، والذين باتت لهم تقاليد خاصة في المعارض، كمحترفين، كلهم هنا، والبعض جاء بأسرته معه لتعينه على »قتل الوقت« أو »ملء الفراغ« الذي لا يملأ المشترون أياً منهما.
أين ذهب القراء؟!
على امتداد الطريق إلى قاعة المحاضرات، وعن يمينك وشمالك، وفي العمق الجيدة إضاءته، تتراصف الأجنحة المختصرة، دور النشر، المحلية بمعظمها، والعربية بالقليل منها، والتي تشكل الدور الأجنبية نسبة ملحوظة بينها، والباعة أو البائعات فيها وأمامها أكثر من القراء الذين ربما يصيرون مشترين.
لاكتمال الطرافة في المشهد فإن كثيراً من الباعة لا ينتبهون للحركة المحدودة للداخلين والخارجين، لانهماكهم في… القراءة!
لا ضرورة للسؤال. وفي أي حال لا ينتظر الناشر سؤالك بل يمضي رأساً إلى ما بعد الجواب فإذا به يتحدث في السياسة:
الحالة عدم! لا حركة ولا دورة منتجة للمال! وأين المال؟! الكل مفلس أو مهدد بالإفلاس. الأزمة الاقتصادية خانقة، والضائقة المعيشية تعتصر الناس، الكتاب ترف! من يفكر الآن بالقراءة؟! صارت الهموم اليومية ثقيلة بحيث لا تترك مساحة للاهتمام بما يتعدى رزق اليوم وأقساط المدارس! القراء كثرة، لكن من أين المال؟!
يضيف ناشر عريق:
ألمح في عيون الكثيرين ممن يقفون أمام الكتب، هنا، حسرة وشيئاً من الحزن. يمسك واحدهم بالكتاب، يقلب صفحاته كأنما يستوثق من أنه هو ما يريده، ثم يركز على سعر النسخة المطبوع على قفا الغلاف، ويتنهد بحسرة قبل أن يعيده الى مكانه بكثير من التردد.
* * *
زمان، ونحن فتية فقراء أصابتنا لوثة القراءة وأغوانا الشعر والشعراء، فكنا ندور على »بسطات« الكتب، وأشهرها تلك التي كانت تفرش معروضاتها شبه المستهلكة على رصيف بناية العازارية التي تتوسط المساحة بين شارع بشارة الخوري وساحة رياض الصلح، في مواجهة دور النشر العريقة والمكتبات الحديثة أو المجددة التي كانت بين البشائر بانطلاقة بيروت لتكون منارة للثقافة في هذا الوطن العربي الكبير.
كنا، آنذاك، ندور متمهلين ونحن نحصي قروشنا القليلة، ونحاول المفاضلة بين الكثير مما نتمنى لو استطعنا شراءه من كتب صفحاتها شبه مطموسة الكلمات، لكثرة ما مر عليها من الأيادي ومن عيون المتلهفين إلى المعرفة.
كانت نزهة ممتعة شبه يومية، وإن ظلت الأخطر بينها تلك التي تقع في اليوم الأول من الشهر، وفي جيوبنا الراتب الزهيد، وقد اقتطعنا منه ما يكفي »تذكرة دخول« للولوج الى أفياء المعلمين الكبار: جبران خليل جبران، أحمد شوقي، ميخائيل نعيمة، وليم شكسبير، الأخطل الصغير، جرجي زيدان، الجواهري، موليير، سعيد عقل، توفيق الحكيم، توفيق يوسف عواد، فيكتور هوغو، نجيب محفوظ، سعيد تقي الدين، يوسف إدريس، محمد عبد الحليم عبد الله، سيد قطب، خليل مطران، جورج أنطونيوس، أحمد عبد المعطي حجازي وصلاح عبد الصبور، بدر شاكر السياب ونازك الملائكة، بطرس البستاني وعبد الوهاب البياتي، اليازجيان وأستاذنا الشيخ عبد الله العلايلي وتولستوي وديستوفسكي، خليل حاوي وتشيخوف واراغون وكافكا وبوشكين الخ…
كانت تغمرنا الغبطة كلما استطعنا شراء كتاب، ولو ناقص الصفحات أو بغير غلاف، وكانت أحلامنا بالتغيير وإحساسنا بالذات وقدرتنا على اللحاق بركب التقدم تتنامى كلما فرغنا من قراءة رواية عن رغيف البؤساء، أو ديوان شعر عن الثورة الآتية وفي رحمها الغد الجديد اللائق بكرامة الإنسان.
* * *
اليوم، تتوالد معارض الكتاب كالفطر. وصار لكل عاصمة معرضها، وأحيانا أكثر. أما بيروت فلها من المعارض ثلاثة. وهكذا تزايد عدد الشاكين من نقص البيع، وبالتالي المردود، كنتيجة لارتفاع كلفة الكتاب وتناقص عدد القراء الراغبين أو القادرين على شرائه.
تعددت المعارض، وتنوعت عناوين الكتب ولغاتها وموضوعاتها ومصادرها، العربية والأجنبية… وبقي أن يصير عدد القراء المشترين بعدد الكتب والناشرين.
إن الأمر لا يتعلق بترف الثقافة، بل بالأهلية لصنع الغد. فبين مواجعنا الوطنية والقومية أن نشهد مثل هذا التناقص في أعداد المهتمين والمعنيين والشغوفين بالمطالعة والقادرين على القراءة، ومن ثم على شراء الكتب، بينما نحن في عصر لا مكان فيه لمن بقي أو أبقته ظروفه السياسية أولاً، ثم الشخصية خارج دائرة نور المعرفة وإشعاع الحرف.
لقد تزايد عدد الفقراء، وتزايد عدد المتعلمين لكن أغلبهم لا يقرأون. أما الذين جنوا ثرواتهم من الهواء، بالفهلوة والشطارة فيجدون القراءة مضيعة للوقت، وإن هم زيّنوا صالوناتهم الفخمة بأغلفة أنيقة لكتب مفتوحة لغبار النسيان وحده.
إن الغد للقادرين على أخذه،
والكتاب سلاح فعال يؤهلنا لمعرفة طريقنا إليه.
عسانا نقرأ فنعرف، ونعمل فنصل.
وتحية لكل من كتب فقرأنا، ولكل من قرأ فكتبنا.
نتحرّر من كلماتنا أو نحرر الكلمات منا؟!
في اللقاء الأول كان عليهما أن يداريا انفجار الفضيحة، فقد كان كلاهما عارياً، يعرف الآخر تفاصيل جسده، ويسمع ما خلف التنفس ونبضات القلب وصولاً إلى اللهاث المحموم في اللحظات الحميمة.
كيف تعيد تركيب قناعك أمام عيني هذا الذي يعرف السر الكامن في أعماق عينيك، وكيف تخفي تفاصيلك المنقوشة على جدار ذاكرته والتي تتحرك الآن منفصلة عنك فتفضح محاولات تنكرك خلف قناع الوقار؟!
من أين يبدأ الكلام الآن.. تلك هي المسألة!
الاسم جدول ينساب في مجرى مكشوف، من منبعه المعروف، إلى مصب يمكن تخيله أو افتراض موقعه مهما أتقنت محاولات التمويه.
لا بد من مصب، فأين أنت من المنبع الآن، وكيف يمكنك إخفاء المجرى أو حرفه بحيث يتوه القاصد أو يمكن تزوير المقصود؟!
تستقر اليد في اليد لا تستعجل أيهما الانفصال.
يتلجلج النطق، وتتعثر الكلمات بعلامات التعجب، ثم تنتصب علامات الاستفهام كأصابع اتهام: إلى أين من هنا، وقد بلغتما ساحة الصراع المكشوف للرغبات المخفية؟!
تحوم من حولهما العيون المتشوقة إلى حكاية، بينما يغزل كل منهما الحكاية الخاصة التي سيرويها عن نفسه لنفسه غداً، وتحاصرهما الآذان التي تحولت الآن إلى أجهزة تنصت على الغرائز والرغبات لكي تحولها مع الصباح إلى فضائح يسلي بها الحلاقون الزبونات القادمات لقص الشعر وإطالة الألسنة.
طوت اللهفة بساط الفضول على أهله، وارتفعت ألسنة الحريق فتباعد متصيدو اللفتات والهمسات، وخلا الجو للتوقع… فالمجال قصير، والتجربة في الخلف لكن أنوارها كشافة لما هو في الأمام، والفن صائغ ماهر للنهاية الواحدة في صياغات متعددة.
* * *
يتسع فؤادك، بعد، لمزيد من الأحلام،
ولكنك تبحث عن لحظات قصيرة تتكاثف فيها المشاعر والقدرات فتصنع حكاية بغير مقدمة وليست بحاجة إلى خاتمة.
الخواتيم تصنع نفسها.
وها أنت أمام بدايات صنعت نفسها بنفسها وتركت مساحة قصيرة للتدخل في تحديد السياق.
هل ما زال في بحرك متسع لشراع يجذبه هدفه بأكثر مما تدفعه ريحك؟!
تخرج من بطن كلماتك، تتأملك ملياً وأنت تتغافل عنها لتتأملها أكثر.
تتساقط حروفك واحدا واحدا، تتبعثر متيحاً لها إعادة تشكيل المعنى، بينما أنت منهمك في إعادة جمع حروفها المنتثرة في المدى المفتوح على غربة باتساع الرغبة.
حاذر أن تخطئ في إعادة التركيب فتستولد »غربة« جديدة بينما أنت تحاول طمس »رغبة« معتقة!
* * *
تتندى النظرة بالحسرة. تقول اللمسة ما لا يجوز أن تلعلع به الكلمة… ويصير للصمت ألف لسان يثرثر خرسه عبر الأغنية.
نسينا المغني والغناء!
أن أُغنّيكِ أبهى من أن أكتبكِ.
أن أكون أغنيتكِ أجمل من أن أكون حكايتكِ.
أمتع من كتابة الرواية أن نصنعها، أن نعيشها، أن نستولدها من قلب الجدول ونطلقها قوافل لاستنقاذ المهددين بالموت عطشاً في قلب صحراء الهجر والخذلان.
لم يحن زمن الكتابة بعد.
لنكن، مرة، الرواية لا الراوي.
لا يمكن أن نلتقي وبيننا سور من الأقلام… فلنهدم السور، ولنحرر الكلمات منا لكي تصنع لنا منفى العذاب الجديد.
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
يخطئ مَن يعذب جسده بحبه، تماماً كذلك الذي يضطهد حبه فينفيه بعيداً عن جسده. أليس الحب اكتمالاً؟ في رحاب الحب تجد توازنك المنشود، أما الشهوة فتأخذك إلى الاختلال فتخسر حبك بينما ترفرف روحك حول الطيف وقد أججها التوق إلى جسد تسكنه!