منير العكش يوثق أسطورة تأليه جورج واشنطن بالمذابح (2)
نتابع هنا مع الكاتب والباحث الأكاديمي منير العكش في المهمة ـ الرسالة التي انتدب نفسه لإتمامها بإثبات أن الولايات المتحدة الأميركية هي «إسرائيل العظمى» التي أقيمت بحد السيف وسيول الدماء وجبال من جماجم الهنود الحمر قبل أكثر من ثلاثمئة عام من إقامة «إسرائيل الصغرى» في بلادنا العربية.
ولقد أمضى منير العكش سنوات وهو ينقب ويبحث ويقرأ في مكتبات الجامعات وفي الوثائق الرسمية التي اعتمدها مؤرخو الفترات المختلفة لقيام هذه الدولة العظمى بأبطالها التاريخيين الذين أضيفت عليهم قداسة استثنائية، وأهمهم وأخطرهم جورج واشنطن «صانع المعجزات في أرض كنعان»…
لم يصرف منير العكش الكثير من الوقت لتوكيد المؤكد من العلاقة الأبوية بين الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل:
«ليعلموا أن الفضل للرب وحده في اختيار محررهم (موسى وواشنطن) ورعايتهم؟ ألم يعبر واشنطن بالأميركيين بحراً من الدم الأحمر، كما عبر موسى ببني إسرائيل البحر الأحمر».
يمكن، هنا، إضافة ملاحظة من خارج السياق وهي تتصل بحجم «الاستعارة» التي مارسها بعض القادة العرب مع الألقاب التي أطلقت على جورج واشنطن.. ولو أنها هنا كانت أقرب إلى الكاريكاتور أو التقليد الممسوخ.. بل إن بعضهم قد تجاوز بألقابه حتى زاحم العزة الإلهية أو كاد.
موسى أم واشنطن؟
«حطّم قلب بلادهم، امحُ مدنهم وقراهم عن بكرة أبيها. أحرق حقولهم ومزارعهم. اتلف محاصيلهم وكل ما لديهم من مونة للسنة المقبلة. أنزل بهم أقسى العذاب وأفظع الأذى.
ـ من رسالة واشنطن إلى الجنرال هوراسيوغايتس»
لم ينتظر التاريخ المنتصر لحظة موت جورج واشنطن ليطوّبه مع الأنبياء والقديسين والآلهة ويجعل منه أيقونة مقدسة، بل قدسه حياً وحاك حوله شبكة من الأساطير ما زالت إلى الآن في سباق مع تاريخ أميركا. زينة هذا الكرنفال التنكري لم تكن مصنوعة لذاتها، أو غريبة عن أرضها ومجتمعها، بل كانت مرآة لآمال المستوطنين وصرخة في الظلام لطرد مخاوفهم من الدم الذي يقطر من سكاكينهم. أساطير استمدت لغتها ومعانيها من أدبيات العهد القديم، وسرت على مدى أكثر من مئتي سنة في أثداء كل مرضعة أميركية حتى صارت أميركا هي الرجل وصار الرجل هو أميركا.
«لا بأس إذن بوصف النبي موسى بأنه جورج واشنطن بني إسرائيل».
كل هذا التماهي الملفق صنعه الاستيطان والمستوطنون من سدى ولحمة المعنى الإسرائيلي لأميركا. ففتحُ كنعان العبراني والأميركي كلاهما لا يستقيم دون استيطان الأرض واستيطان العقل واستيطان الذاكرة. إنه الوجه العملي لفكرة أميركا التي صاغها المستوطنون البيوريتانس من فكرة إسرائيل الأسطورية؛ فكرة احتلال أرض الغير (كنعان الهندية Indian Canaan)، واستبدال شعب بشعب، وثقافة بثقافة وتاريخ بتاريخ.
ولا شك في أن ثقافة الهنود المسالمة هي التي أغوتهم بتصديق وعد واشنطن بأن تكون لهم دولة مستقلة ذات سيادة، لكن مقتلهم ومقتل دولتهم الموعودة لم يكن في ثقافتهم المسالمة وحسب، بل في غيابهم عن معنى أن يُسمي الغزاة بلادهم بلاد كنعان وأن يشبَّه الرجل الذي يقود زحف المستوطنين في بلادهم بالنبي موسى.
ثم إن كلاً من الرجلين لم يغادر دنيانا إلا بعد أن أنعم على شعبه بالنصائح الحكيمة. فموسى وواشنطن كلاهما أورث الأجيال اللاحقة أصدق الحِكَم في خطبة وداعه. ألم يكن «سفر التثنية» خطبة وداع موسى؟ كذلك كانت كلمة استقالة واشنطن من الرئاسة خطبة وداعه وسفر تثنيته. وهي كلمة لم ينطقها واشنطن عن الهوى بل رعتها العناية الإلهية لتكون بركة لكل العصور ونوراً لكل الأجيال. العناية الإلهية هي التي شاءت أن لا يغادرا دنيانا إلا وقد وضعا شعبيهما على أعتاب عاصمتيهما الكنعانية. كلاهما لفظ أنفاسه الأخيرة بعد سويعات قليلة من احتضاره. وكلاهما كانت عيناه في أبهى ألقهما وكانت عافيته في أروع مظهرها.
في أقل من أسبوعين صار انضمام جورج واشنطن إلى نادي أنبياء العهد القديم فناً أدبياً تسابق الساسة والأدباء والوعاظ على صقل جواهره. لم يكتف هؤلاء الرجال الملحميون بإضاءة وجه الشبه بين واشنطن وموسى، بل كان بعضهم يتحلى بحس نقدي شجاع كشف عن تفوق واشنطن على النبي موسى في خاصتين جوهريتين: أولاهما أن لا فضل لموسى في ما فعل لأنه كان يعمل بوحي من ربه، وكان يعتمد على معجزات السماء. أما واشنطن فلم يتلق وحياً من الله، ولأنه لم يكن يعرف ما إذا كان الله سينصره فإنه عوّض عن الوحي بما أعطي من قوة وشجاعة وحكمة. أما التفوق الثاني على النبي موسى فهو أن واشنطن فتح بلاد كنعان وأنجز مهمته على أكمل وجه بينما مات موسى قبل أن يتم مهمته ويدخل بشعبه أرض كنعان.
الدولة الموعودة
ليس هناك من يطرب للحرب على الهنود مثلي أنا
ـ جورج واشنطن
لم ندع منزلاً واحداً أو حقلاً من حقول الذرة في بلاد «الأمم الخمس» لم نزله من الوجود.
لم نترك في هذه البلاد أثراً واحداً يدل على الهنود
ـ الجنرال سيلفن بعد حملته على فدرالية الإركوا
عندما نسحقهم سحقاً كاملاً علينا أن ننادي بالسلام مستغلين خوفهم لتحقيق المزيد من المكاسب
ـ جورج واشنطن للجنرال سليفن
في جعبة واشنطن للهنود ودولتهم الموعودة معجزات أكثر هولاً مما كان في جعبة يهوه «رب الجنود» للكنعانيين. في جعبته جوع مقدس إلى أرض الهنود ودم الهنود، فعائلته التي تملك شركة أوهايو Ohio Company كانت من أبرز النخب الأوليغاركية في مستعمرة فرجينيا وقد جنت ثروات فاحشة من المضاربة بالعقارات، والشراء الاحتيالي، والزواج بالأرامل ذوات الأملاك الهائلة.
صحيح أن جورج واشنطن هجر الدراسة في الرابعة عشرة من عمره وكان شبه أمّي ولم يزر إنكلترا في حياته، لكن قلبه (حتى وهو يقود الثورة) كان معلقاً بقيمها ومجتمعها وأسلوب حياتها.
«العبودية (بمعناها العرقي والطبقي) هي الصيغة الأم لما يسمى اليوم في الحلم الأميركي» American dream، «فالعيش من دون رقيق في هذه المستعمرات، (كما اعترف قديس الاستيطان. وليم بيرد William Byrd) مستحيل أخلاقياً».
هكذا راجت سوق النخاسة، وراحت سفن شحن الرقيق الأسود في بحر الظلمات تنوء بحملها وتلهث في سباق أهوج لا يشبهه سوى سباق البعير. ففيما كان عدد الرقيق الأسود عام 1700 في مستعمرة جورج واشنطن (فرجينيا)، مثلاً، لا يزيد على 13 ألفاً تضاعف بعد خمسين سنة ثمانية أضعاف ليصبح 105 آلاف. وقد كانت دراسة آباء الديموقراطية الأميركية لاقتصاد الرقيق خير تعبير عن هذا البُعد العبودي للديموقراطية.
وفي تقرير للباحثة ماري تومبسون ورد ما يفيد أن معظم أسنان جورج واشنطن في السنوات الأخيرة من حياته كانت مقتلعة من أفواه أرقائه السود بالقوة ومزروعة في فكيه.
رب الجنود
في مواجهة أفكار الثورة الاجتماعية الفرنسية وإغراءات عصر الأنوار زاد تعلق هؤلاء المستوطنين بفكرة أن «رب الجنود» سينقذ إسرائيل الأميركية ويضمن للأمة الأميركية كل ما نسبه العبرانيون القدامى إلى أنفسهم بدءاً من «الاختيار الإلهي» وانتهاءً بحق التضحية.
على مدى هذا التاريخ الأميركي ظلت أيقونة جورج واشنطن تنافس أيقونة السيدة العذراء في قدسيتها، وظلت عيون المستوطنين شاخصة إلى «إسرائيل الأميركية» التي بناها واشنطن بيديه على أنقاض كنعان وأشلاء الكنعانيين.
في مقابر التاريخ الرسمي ترى وجه واشنطن كما هو دونما زينة أو مساحيق اعتاد المؤرخون والفنانون على تجميله بها.
نعم! قد تكون مفاجأة غير سارة ـ للمتأمرك قبل الأميركي ـ أن تكشف هذه اليوميات عن وجه مختلف وصفته زوجة الرئيس جون آدامس John Adams بأنه «غضب الله». ففي تلك السنة وحدها (كما سنرى) دمّر واشنطن أكثر من ستين مدينة من مدن الإركوا، وقتل معظم أهلها، وأحرق حقولها ومزارعها في ما يسميه التاريخ الرسمي عقاباً لم يعرف العالم إلى الآن أسبابه ومبرراته.
واشنطن هو الذي كتب إلى الجنرال هوراسيو غايتس Horatio Gates (6 مارس/ آذار 1779) يأمره بأن يحطم قلب بلادهم، ويمحو مدنهم وقراهم، ويحرق حقولهم ومزارعهم، ويتلف محاصيلهم وميرتهم، وينزل بهم أقسى العذاب وأفظع الأذى، وهو الذي كتب إلى الجنرال سليفن John Sullivan نسخة من رسالة غايتس، ثم أمره في رسالة (31 مايو/ أيار 1779) بأن يدمر كل بلادهم ويعفرها بالتراب حتى لا تقوم لها قائمة.
من يراجع أوراق واشنطن فلا بد أن يرى مثل هذه الأوامر الإنسانية لكل القوّاد الذين أرسلهم لحرب الهنود وارتكبوا أبشع المجازر. فالمفوض الهندي سير وليم جونسون Sir William Johnson مثلاً يذكر أن لديه أدلة ثابتة على 18 مذبحة جماعية، كل ضحاياها من النساء والأطفال الهنود الذين مثّلت جيوش واشنطن بجثثهم، وسلختهم، وقطعتهم تقطيعاً شنيعاً. ولهذا فليس بمستغرب أن يستقبل واشنطن أنباء هذه الحملات الدموية بالتهليل، وبالثناء على سرعة جيوشه في تدمير مدن الهنود وحواضرهم وحقولهم وأهراءاتهم.
لم يكن واشنطن مصاباً بداء الاستيطان وحسب، بل كان كذلك يعاني من غول الجشع. كل الأراضي التي سطا عليها وزعم أنها بريّة بورٌ خاوية على عروشها هي أراض زراعية مسكونة منذ مئات السنين.
] للبحث صلة..
تكريم اللبنانات المؤتلفة في سمير فرنجية..
بطاقة أنيقة لدعوة غير مسبوقة: «بسرور كبير أدعو كل الراغبين، بمحبة وسلام، المشاركة في العشاء الاحتفالي بالإنسان الفرد اللبناني سمير فرنجية. والتوقيع: أحمد الغز».
الداعي بعلبكي من المجتهدين الذين يحاولون أن يعرفوا أكثر بشبكة علاقات تتجاوز الحدود إلى بعض العواصم العربية، مع مكانة خاصة للقاهرة في مختلف حالاتها، إلى «مؤسسة الفكر العربي» وأميرها خالد الفيصل..
أما المدعوون فخليط من «المقاتلين» على مختلف الجبهات الفكرية والسياسية، فيهم المتحدرون من اليسار والذين انتهوا إلى يمين اليمين.. وفيهم نخبة من أصحاب الرأي الذين اكتووا بنيران الحرب الأهلية وامتداداتها المستمرة حتى اليوم، والذين سبق لسمير فرنجية أن «اخترقهم» فافترضوا أنه صار منهم، ثم سرعان ما فوجئوا بأنهم صاروا منه أو له أو فيه، بينما هو يكمل تجواله بين العقائد والأفكار والتنظيمات والجبهات التي تتوالد من ذاتها، أو يستولدها بنفسه قبل أن يكمل رحلته إلى محطة جديدة في المدى المفتوح بين زغرتا ـ إهدن وباريس عبر بيروت التي انشقت مدناً وظل فيها جميعاً، يتمشى ناعساً بين أحزابها وتجمعاتها وهيئاتها الاجتماعية وقد اكتسى وجهه ابتسامة تلمع معها عيناه ذكاء هو بعض مؤشرات الدهاء السياسي والفهم العميق لهذا الفولكلور الطريف الذي يغمر الأمم اللبنانية بالتميز.
توالى على منبر التكريم خطباء يشكلون قوس قزح من المتحدرين من الأحزاب العلمانية والتشكيلات السياسية المستولدة قيصرياً والهيئات التي أخذها الدين إلى السياسة وبالعكس، والمثقفين الذين تنقلوا بين اليسار واليمين بلا تحرّج.
كيف استطاع هذا الرجل الهادئ حتى لتخاله في حالة نعاس دائم أن يجتاح كل هذه الأحزاب والجمعيات والهيئات الدينية حتى رتبة بطريرك، والعلمانية إلى حافة الشيوعية، وأن يكتب بالفرنسية فيفهمه قراء العربية، ويكتب بالعربية فيفهمه الذين لا يقرأون إلا اسمه؟
ولعل أكثر من فهم هذا اللغز هو أحمد الغز فشمل بدعوته كل هذا الخليط الذي لا يجمعه جامع إلا سمير فرنجية: الرمز الدائم لاجتماع المتناقضات اللبنانية في شخص واحد.
على أن السيدة التي تابعت بقلبها قبل عينيها وقائع الحفل لم تستطع أن تخفي زهوها بزوجها الفريد في بابه والذي أعطاها وأعطانا قلماً يعكس ثقافة أبيه الذي علمناه العربية وعلمنا مئة لغة أخرى، حتى هذه اللحظة، والآتي أعظم، بدليل اختيار اسم سامر لابنه.
حكاية
ركن الهمس
جاءه الصوت رقيقاً خافتاً يكاد يكون همساً: أعرفتني؟
هتف كمن هزه الطرب: الله، الله.. لكأنك تسكنين صوتك.
قالت وقد رفعت درجة الصوت: لقد عجزت عن نسيانك. حاولت ففشلت، وأنا فرحة بفشلي.. متى نلتقي؟
قال: أكاد أقفز إليك فوراً..
ـ ولكنك لا تعرف عنواني الجديد. اهدأ، من الأفضل أن نلتقي في ركن الهمس.. ألست من أعطاه اسمه؟
… وفاض الركن بالهمس الذي امتد آهات من شجن، فانتشى جميع من كان هناك.
من أقوال نسمة
قال لي «نسمة» الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ تأخر بي زمان العشق، وجاء زمانها مبكراً، وحاولنا فنجحنا في استيلاد عمرنا الجديد الذي يحتسب بالصمت الفاصل بين عناقين.