والنساء من آل تريم يكتبن حياة الخليج بالإنكليزية
عرفنا عن مشروع جريدة «الخليج» قبيل صدورها في مسقط رأس مؤسسيها الصديقين الراحلين تريم وعبد الله عمران، الشارقة، في دولة الإمارات العربية المتحدة.
فلقد زارنا، قبل أربعين سنة، تريم عمران ليحدثنا عن مشروع «الخليج»، التي كان الأخوان عمران يصدرانها في الكويت، بصفة مؤقتة، وينقلانها إلى الشارقة لتوزيعها، ثم اتخذا القرار ببناء دار صحافية في الشارقة لتعود الصحيفة إلى حيث يجب أن تكون.
ولأننا رأينا في تريم رفيق سلاح، فقد أسعدنا أن نقدم له كل مساعدة يطلبها.. وهكذا أوفدنا إلى الشارقة بعض الزملاء العاملين في «السفير»، كما يسّرنا أمر اتصاله ببعض من يحتاجهم مشروعه من الفنيين.
كنا نرى أن «صوتنا قد غدا صوتين وسيفنا قد غدا سيفين» على حد تعبير الشاعر الراحل أمل دنقل… ولقد اجتهدنا في تقديم نموذج مميز من التعاون بين صحيفتين يربط بينهما خط سياسي ـ فكري واحد وإن عاشتا ظروفاً عملية مختلفة.
وشكلت «الخليج» في انطلاقتها انتقالاً نوعياً في المجال الصحافي في الخليج العربي. لم تكن صحيفة الأغنياء، بل كانت صحيفة سكان الخليج جميعاً، من عرب المشرق وعرب المغرب، تكتب فيها ولها مجموعة من المفكرين والصحافيين الممتازين، وتطرح القضايا القومية بمنظور تقدمي واضح، مع الحفاظ على رصيد من التقدير والاحترام مع الأسر الحاكمة هناك، ورعاية طيبة من المغفور له الشيخ زايد بن سلطان وأمير الشارقة الشيخ سلطان القاسمي.
استمر التواصل والتعاون، وتواترت اللقاءات في بيروت كما في الشارقة، وكان المنتدى الفكري السنوي الذي تنظمه دار الخليج موعداً للقاء مفتوح مع نخبة من مفكري الأمة والكتّاب والبحّاثة اللامعين.
ثم ضرب القدر ضربته الأولى فرحل تريم عمران… وكان على الدكتور عبد الله عمران أن يتخلى عن موقعه في السلطة وأن يتفرغ لحماية نجاح «الخليج»، التي كانت قد غدت مؤسسة كبرى تصدر عنها جريدة سياسية بالانكليزية ومجلة سياسية ومجلة نسائية، وملاحق اقتصادية ورياضية… فضلاً عن الاستمرار في عقد المنتدى في موعده السنوي في الثالث من أيار من كل عام.
قبل شهور ثلاثة، غيّب القدر عبد الله عمران، عشية انعقاد المنتدى.
ولقد ذهبنا للتعزية وحضور المنتدى، وتوثيق العلاقة مع خالد عبد الله عمران، الذي فرض عليه القدر أن يتولى المسؤولية بعد رحيل المؤسسين.
على أن هذه المناسبة الحزينة قد أتاحت لنا التعرف إلى سائر أفراد الذرية، وتحديداً إلى كريمتي عبد الله عمران، أميرة وعائشة التي تتولى رئاسة تحرير جريدة «غولف تودي» الصادرة بالانكليزية عن دار الخليج، والتي يمكن اعتبارها المرأة العربية الوحيدة التي تتولى مثل هذا المنصب الصحافي الممتاز.
في هذه الجلسة التي شاركنا فيها زميلنا الكبير جميل مطر تعرفنا إلى المرأة الإماراتية بوعيها السياسي ومستواها الثقافي، إضافة إلى رقتها ودورها في خدمة مجتمعها، وصولاً إلى الصحافة.
ولقد أهدتنا «الزميلة» عائشة عبد الله عمران تريم بعض كتبها، التي تضم مقالاتها الصحافية، وبينها «في مواجهة اللامبالاة».
يمكن القول، من دون مجاملة، إن عائشة تريم كاتبة بحق، وهي ناقدة اجتماعية مميزة، ثم إنها طموحة في وطنيتها وفي التعبير عن أملها في أن تتقدم بلادها على المستويات كافة، وضمن هذا التقدم أن تقوم المرأة بدورها الذي لا غنى عنه في خدمة بلادها.
هنا فقرات مختارة من بعض كتابات عائشة تريم:
تحت عنوان.. «الحب والمدينة» كتبت تقول:
«ها هي الإعلانات في الأسواق تروّج للفيلم المنتظر، الذي إن شئنا أعطيناه حسب ما نراه مناسباً عنوان «الحب والمدينة»، كي يكون متلائماً أكثر مع خلقنا». والفيلم الذي يتكشف عن مغامرة جديدة لمجموعة من الفتيات لم يصور في العاصمة أبو ظبي، لكنه سيعرض على أنه صوّر فيها.. وكأن بطلته «كاري» حملت على بساط الريح من نيويورك مع صديقتها لقضاء أسبوع مدفوعة تكاليفه كافة في أبو ظبي. إجازة ممتعة يتخللها ركوب جمال واسترخاء بجانب برك الترف، وصولاً إلى النوادي الليلية، حيث الرقص الشرقي يوحي بالكثير».
حقيقة الأمر أن الفيلم صوّر في المغرب ثم ادعى منتجوه أنهم قد صوّروه في أبو ظبي «.. ولقد تمتع النقاد والمهاجمون في الغرب كثيراً على حسابنا».
في هذا الفيلم تسأل الإبنة شارلوت الصغيرة أمها: «هل مثل بلاد ياسمين وعلاء الدين»؟ وتجيبها أمها: «نعم يا حلوتي ولكن بإضافة بعض المطيبات».
في مقالة أخرى بعنوان «غرباء في وطننا» تلامس عائشة موضوعاً حساساً يتصل بالمؤسسات التي تفرض قوانينها والتي تجسد تفرقة عنصرية محضة (…) وكوني مواطنة فأنا أتكلم من واقع خبرة شخصية عندما أقول إنني تعرضت لنظرات شزر لا نهاية لها وأنني كنت موضوعاً لأحاديث هامسة كثيرة وأنا أتنقل بين عدد من مراكز التسوق المختلفة في البلد. وصحيح أننا ـ نحن الإماراتيين ـ نمثل أقلية في وطننا، لكن ذلك ليس سبباً في معاملتنا بمثل هذه الطريقة بأي حال من الأحوال (…) ويشعر المواطن بأن العيون تطارده وبأن هؤلاء المراقبين يشرئبون للمواجهة (…) ويمكن لبعض المطاعم في إمارات بعينها أن تمنع المواطنين الذين يرتدون ثوبهم الوطني من دخول المكان!».
وفي مقالة بعنوان «جرائم لا يعاقب عليها القتلة» تكتب عائشة عن «جرائم الشرف» بوصفها تسمية من أكثر التسميات تناقضاً: فمن هم الشرفاء الذين يقتلون من دون أن يرف لهم جفن»:
«العذاب امرأة. عبارة لفتت انتباهي عندما كنت مراهقة في السادسة عشرة من عمري. لم أكن حينها على قدر من الاطلاع والمعرفة والخبرة كي أحكم على مدى صحة العبارة. لقد كانت بالنسبة لي مجرد كلمات تتسم بالجرأة..
«من الصعب أن نتخيل أنه حتى يومنا هذا الذي تتمتع فيه الكثيرات بخيارات حرة في حياتهن، ما زالت الآلاف من النساء لا يعرفن معنى التحرر، وما زالت أفواههن مكمّمة، وما زلن مقيّدات بسلاسل اجتماعية قوية. بالكاد يحاولن التكيّف معها من أجل البقاء على قيد الحياة لا أكثر. لكن بعض النساء تمردن على أوضاعهن ودفعن الثمن غالياً..
«إن الحلقات المعدنية التي تتكوّن منها السلاسل وتقيّد النساء صدئة وكثيرة، ولقد تركت إحدى السلاسل أثراً عميقاً في نفسي، وما زلت أعيش في سجن ذلك الأثر المرير والمشهد الذي يتكرر بكل قسوته أمام عيني كلما رأيت صورة تذكّرني بها نشرات الأخبار… فمن هم الشرفاء الذين يقتلون من دون أن يرف لهم جفن؟ جريمة شرف؟ مصطلح معيب وخطر، وجريمة بشعة بحد ذاتها..».
[ [ [
عادت إلى ذهني وأنا أقرأ كتاب الزميلة عائشة تريم بلقطاتها الذكية وملاحظاتها التي تنضح وجعاً، صور قديمة للمرأة التي كنا نلمحها كشبح في بعض المكاتب أو الإدارات الرسمية، ولم يتيسّر لنا أن نسمع صوتها، بل لعلنا كنا نتحاشى مبادلتها التحية حياءً أو امتناعاً عن إحراجها.
ولكننا في ما بعد، وعبر التجربة المميزة لنادي دبي للإعلام، ثم في جائزة الصحافة العربية، خاصة «اكتشفنا» نخبة من الأخوات الإماراتيات يؤكدن حضورهن المميز بشجاعتهن في إبداء الرأي وفي التحرر من «تراث» العباءة بوصفها «حاجزاً» نفسياً..
وها هي عائشة وشقيقتها ومثلهما أفواج من الصبايا المؤهلات تأهيلاً عالياً يؤكدن الحضور المؤثر للمرأة في دولة الإمارات، سواء في المجالات الثقافية أو في الإدارة والأعمال الحرة، وإن بقيت ثمة «كانتونات» للأجانب لا يدخلها أهل البلاد، وبالذات النساء منهم.
وهذه واحدة من مشاكل النهوض في بلاد عظيمة الثروة وقليلة السكان، تعتمد في الكثير من مجالات العمل فيها على «جيوش» من الأجانب.
مع الإشارة إلى أن «الوافدين العرب» يتعاملون مع مسألة النساء في الإمارات بحساسية بالغة، لأنهم يعرفون ـ في بلادهم وبحكم تربيتهم ـ أن الاعتراف بالمرأة كشريك كامل للرجل، وفي مختلف المجالات ما زال ينتظر المزيد من التقدم والتشبّع بروح العصر في الوطن العربي الكبير جميعاً.
جودت فخر الدين: «ثلاثون قصيدة للأطفال» والرسوم لعليّه…
أقدم جودت فخر الدين على مغامرة لم يجرؤ غيره من الشعراء على تنكبها: لقد كتب شعراً للأطفال. قصائد من أبيات معدودات تناولت موضوعات مألوفة، يسهل على الصغار فهمها: جيران، على الأبواب، نافورة، أمي، صوت أبي، شتاء، عصفورة، طيور، سمكة، إكواريوم، هيا نلعب، حلم، الغابة…
ولقد استعان الشاعر برسوم مميزة ببساطتها، مفرحة بألوانها، ترتاح لها عيون الأطفال وتقرأ فيها بعض المعنى الذي قصد إليه الشاعر، وقد أنتجها ابنه علي مستعيناً بالكومبيوتر ليحوّل الكلمات المموسقة إلى مشاهد مبهجة.
هي تجربة جديدة ولافتة، إن في الشعر أو في الرسوم التي تبسّطه وتقرّبه إلى قرائه من اليافعين الذين يقرأون المعنى رقيقاً، قريباً من أذهانهم وما تحفظه ذاكرتهم عن «الموضوع» الذي اختصره الشاعر ببضعة أبيات هي «قصائد تقوم على استخدام سلس للأوزان، وعلى تنوع في المواضيع، وعلى ابتكار في الصور، توسّع آفاق تفكير الطفل ومخيلته، من شأنها أن تحبّب إليه الشعر واللغة العربية».
هنا بالتحديد أهمية ما أنجزه جودت فخر الدين: لقد بسّط اللغة بتنشيط ذاكرة الطفل، ولم يدخله في امتحانات صعبة، ثم جاء الرسم بخطوطه المحدودة وألوانه المبهجة ليقرّب المعنى إلى ما يشاهده الأطفال في يومياتهم.
ففي قصيدة «كل صباح» فاتحة «الديوان»، يقول الشاعر:
«أفتح بابي صبحاً ـ للشمس والعصفور ـ تنهض تحت قميصي ـ بضع أغان وزهور». ويتعمّد الشاعر التركيز على المشاهدات اليومية للأطفال.
في قصيدة «ثوب»: باء ـ بيت، تاء ـ توت، حاء ـ حور، طاء طير
بيت الطير فوق الحور ـ والأشجار ثوب الدار.
أما في قصيدة «عصفورة» فيقول: عصفورة من ورق ـ لوّنتها بالأزرق
أطلقتها للأفق ـ هوت ولم تزقزق.
في قصيدة «أفكار» يصبح الجهد للتبسيط أكبر:
«أفكار، أفكار، أفكار ـ في رأسي تزدحم الأفكار ـ لا أعرف كيف تجيء الأفكار
«أحياناً تولد واحدة منها مثل مفاجأة ـ تولد في رأسي ـ وأحس بها تتفتح كالأزهار»
وفي قصيدة «شتاء» يقترب صدى الكلمات من أن يقول المعنى:
«قالت أسماء لجدتها ـ والريح تولول خلف الباب
أين عصافير حديقتنا ـ كيف تنام شجيرات الغاب
لا تخشي، قالت جدتها ـ بحنان كرذاذ الأمطار
هذا فصل للحب أتى ـ ليزف تباشير الأزهار»
أما «الربيع» فيعيد الشاعر إلى الضيعة:
«ضياعنا تقول ـ وقولها حقول/ ردائي البديع ـ يرسمه الربيع
فتضحك السماء ـ ويفرح الهواء»
وحين يجيء الدور على «الجبل» ينشط الشاعر ذاكرة الطفل:
«أذكر ذاك اليوم العاصف ـ وأنا خلف زجاج الشباك
يقابلني الجبل الواقف ـ في الريح وفي الأمطار ـ يضحك للأشجار
وهي تنادي بخوف وتميل بعنف ـ أحسست بشباكي مرتجفاً
وأنا أعجب للجبل الواقف ـ في ذاك اليوم العاصف»
أما «الأم» فلها حصتها بطبيعة الحال:
في كل الأوقات ـ أنادي أمي/ حين أكون حزيناً ـ حين أكون سعيداً
وأناديها حين يفاجئني ـ خوف أو برد أو جوع
وأناديها حين يحالفني ـ حظ أو حب أو فوز
وفي كل الأوقات وفي كل الأحوال أنادي: أمي أمي».
وحتى لا يأخذ «الأب» على خاطره يستذكره الشاعر «بوهرته»:
«أقوى صوت ـ صوت أبي حين يؤنّبني
أعذب صوت ـ صوت أبي حين يحادثني
وأبي حين يصادقني ـ أسمعه في كل الأوقات ـ يأتيني صوت منه يدخل في كل الأصوات».
إنه كتاب «مختلف»، مضموناً وشكلاً، وقد أضفت عليه الرسوم البديعة جواً جاذباً.
وإنها لشهادة للقيّمين على جائزة الشيخ زايد للكتاب أن تنتبه إلى أدب الأطفال، وأن تشجع المبدعين فيه فتكرمهم، لأنهم يستحقون.
نستذكر في هذه اللحظة الفنانين الكبار الراحلين الذين أسهموا في تأسيس «دار الفتى العربي» في بيروت، والذين أعطوا أطفالنا من الاحترام بعض ما يستحقون..
تحية إلى محيي الدين اللباد وأحمد حجازي وبهجت عثمان وآخرين كثر، استذكروا الأطفال فمنحوهم بعض جهدهم، من فوق رأس «الكبار».
وعسى نشهد تجارب جديدة لشعراء مثل جودت فخر الدين، لا يخجلون من اهتمامهم بالأطفال الذين يتذوقون النغم الذي أهمله «الكبار» بذريعة الحداثة.
تهويمات
قالت بوجعها: أناديك فلا ترد، هل تراك تسمعني أم أخذك غيري مني؟
قال بصوت جريح: بل أنتظر أن أشفى من صورتك الأولى، ولم يتسع صدري بعد لصورة جديدة. لقد قرّر قلبي أنني قد خدعته بك، فعاقبني بأن أصم أذنيه عن صوتي.
قالت: ولكن الحياة مليئة بالتجارب المرّة، ومع ذلك نعيشها..
قال وهو ينصرف: كنت أطلب ملجأً آمناً. كنت أطلب قلباً يوزع حبه على الدنيا فتغمرني ورودها بالبهجة. أنا الآن في الدوامة، مرة أخرى. شكراً. لقد ذكّرتني بإنسانيتي مرتين وهذا يكفيني، ولا أريد الثالثة.
[[[
كتبت إليه تقول: لا أريد منك إلا الاعتراف بوجودي فيك. هل أحرقت قصائدك التي طالما قرأتها على الناس وأنا أضمر الحسد لمن قيلت فيها.
لقد عشت على وهم أنك تعنيني في بعضها، في بيت منها، في شطر من بيت. أنا الآن بلا بيت. أنا على رصيفك، أنتظر مرورك لأراك ولا تراني.
صرت أخاف منك. صرت أخاف من صورتي في المرآة.. أتوهم أنك تطل منها فلا تنظرني. مع ذلك سأنتظرك مع كل نسمة منعشة، مع كل لحن شجي، مع كل كلمة تضج بالفرح. رجاء تذكّر ما كنت تقوله لي: العمر أقصر من أن يتسع لفرح حبيبين؟!
من أقوال نسمة
قال لي «نسمة» الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ يعطيني حبيبي كثيراً فأعطيه قليلاً، لأنني أخاف من حبي على حبي. وأهرب بوجعي فيطاردني بأمله.
كيــف الســبيل إلى التــوازن وأنا أرى حبــيبي ملء الكون، ولست أملك إلا قلــبي.. هل يكفي قلب واحد لحــب يملأ عليّ دنياي؟!