»الحلفاء« يكافئون العرب مرتين: سايكس بيكو وحرب الخليج!
قال لي مستبقاً رد فعلي المحتمل:
أعرف أنك ستكرر اتهامي بأنني »بومة«، وبأنني لا أرى إلا الوجه القبيح للأمور، وانني أبحث عن ميت لأبكي لأنني لا أعرف التفاؤل ولا أرى من الوردة إلا الشوك، ولا من العبقري إلا صلعته، ولا من الحسناء إلا أسنانها المعوجة التي تحتاج إلى تقويم… لكنني سأعلن رأيي مهما كانت العواقب! ورأيي ببساطة اننا نعيد إنتاج المأساة التي حكمت حياتنا منذ الحرب العالمية الأولى وحتى اليوم.
لم أفهم قصده تماما فسألته مستوضحاً:
ما العلاقة بين الوردة والحرب، وعن أي مأساة تتحدث فمآسينا أكثر من أن تحصى!
قال وقد هدأ بعدما استوثق من سيطرته على »الجو«:
أود أن أسألك، بداية، عما إذا كنتَ قرأت كتاب »حكاية فيصل« الذي أصدره خالد زيادة قبل أسابيع.. ففيه بعض الجواب.
لم ينتظر رداً، بل هو اندفع يقول كمن يرافع في محكمة:
في الحرب العالمية الأولى، كان العرب ممزقين وتائهين وعديمي القيمة وفاقدي الهوية داخل الأمبراطورية العثمانية التي كانت تخدعهم بشعارها الإسلامي في حين انها تحاربهم في انتمائهم القومي وتصادر حاضرهم ومستقبلهم.
وجد العرب في الحرب فرصة للتحرر واستعادة هويتهم، خصوصا وقد جاءهم الحلفاء بشخص بريطانيا يبيعونهم أحلامهم ويحدثونهم عن ضرورة التحرر من ربقة الاستعمار التركي، وعن استعدادهم لمساعدتهم في العودة إلى التاريخ ووصل ما انقطع من إسهامهم في الحضارة الإنسانية.
كان الوعد بسيطا: إعادة بعث الدولة العربية الواحدة الموحدة، وتمكين أشتات العرب الممزقة أوصالهم والمبعثرين في ولايات شتى، من الاجتماع أو التوحد تحت راية الانتفاض على الاحتلال العثماني.
باع الإنكليز وعدهم إلى »الزبون« النموذجي: الشريف حسين بن علي بن عون، شريف مكة قبل أن يُتم عبد العزيز آل سعود اجتياحه الحجاز وتوحيد تلك الأرض بقبائلها وأعرابها ليقيم »المملكة العربية السعودية«.
وقف الشريف حسين على شرفة قصره في مكة وأطلق الرصاصة الأولى معلنا الثورة العربية على الاستعمار التركي.
لاحظ ابتسامي، فتوقف صاحبي عن الكلام للحظة، وقال:
أعرف أن نظرة من على بعد ثلاثة أرباع القرن قد تظهر ذلك المنظر كاريكاتوريا، لكنه يوما كان حدثا محوريا، وكان ذا أهمية قصوى في التأثير على الأتراك الذين كانوا برغم تخليهم عن الخلافة يتمسكون بأنهم قيادة العالم الإسلامي ومرجع المسلمين، والعرب على وجه التحديد، ويشنقون كل عربي يخرج عليهم… وما أولئك الذين نحيي ذكراهم في السادس من أيار كل عام إلا نماذج للمناضلين الذين جهروا بعروبتهم ونادوا بالوحدة العربية ونادوا بضرورة التحرر من هيمنة الاستعمار التركي.
قلت أستحثه على اختصار مطالعته:
نعرف ذلك كله فماذا تريد تقول من استعادة التاريخ؟!
قال صديقي بنبرة حزن في صوته:
أريد أن أقول إن التاريخ يعيد نفسه معنا، ولكن الإعادة مثل البداية مأساة، حتى لو كانت تبدو أو تظهرنا للآخرين مهزلة.
ألححت بطلب التفسير فقال الصديق بنبرة الحزن ذاتها:
يومها أسلمنا قيادنا إلى الحفاء بغير شروط. قلنا لأنفسنا: إنهم أهل ثقة، وقد أقسموا بشرفهم ولا بد سيصدقون.
قاتلنا معهم. قاتلنا ضد إخوتنا في الإسلام. قدمنا الشهداء بالآلاف. طاردنا فلول الأتراك حتى الحدود »الأصلية« لتركيا.
من قبل أن يتم النصر للحلفاء، ومن قبل أن يجف حبر التعهدات التي قطعها لنا باسمهم الإنكليز، كان رجلان أحدهما بريطاني والثاني فرنسي يعقدان ما عرفناه في ما بعد باسم اتفاق أو معاهدة سايكس بيكو لتقاسم المشرق العربي.
وبعد عام من هذه المعاهدة كانت بريطانيا تعطي اليهود وعد بلفور الشهير بالمساعدة على إقامة الوطن القومي اليهودي فوق أرض فلسطين.
قلت وقد ضقت بهذا الشرح التفصيلي لوقائع معروفة وقد عفا عليها الزمن:
حكى بدري!.. شكراً أنك قد كشفت لنا هذه الأسرار الرهيبة.
لم يتوقف الصديق أمام سخريتي بل أكمل يقول وقد تكاثف حزنه:
ذلك ما كان في الماضي، فلنستذكر ما جرى في أيامنا، وبالتحديد قبل عشر سنوات أو أقل، مما يشكل إعادة مفجعة للتاريخ.
في 2 آب 1990 ارتكب صدام حسين خطأه الفاحش، فأقدم على غزو الكويت. جاءنا الحلفاء بقيادة الأميركيين هذه المرة، وطلبوا إلينا أن نقاتل معهم مقابل أن يساعدونا على استعادة بعض حقوقنا في فلسطين، وبعض ثرواتنا الوطنية، وبعض أراضينا المحتلة، وأن يوقفوا أو يحجموا دعمهم لإسرائيل بحيث لا يستمرون في جعلها متفوقة على مجموعنا، عسكرياً واقتصادياً.
كنا، كعرب، ضد احتلال صدام حسين الكويت، ونريد إخراجه منها حتى لا تكون سابقة تهز اليقين بوحدة الهوية ووحدة المصير.
ولقد تورطنا، كما الشريف حسين، فارتضينا بتحالف غير متكافئ..
مرة أخرى التحقنا بالغرب في قتال ضد أنفسنا… ففي آخر المطاف أرسلنا جيوشنا أو بعضها للقتال ضد جيش عربي.
ومرة أخرى خدعنا الغرب، فاستخدمنا لتبرير تدميره العراق، ثم أخرجنا من المعادلة وأبقى قواته العسكرية في منطقة الجزيرة والخليج جميعا، مستنزفا ثرواتها الطبيعية وأرصدتها الهائلة.
أما حصتنا من هذه »الغنيمة« المسمومة فكانت مؤتمر مدريد،
ولكن، قبل أن ينعقد مؤتمر مدريد كان »الحلفاء« الجدد، بالقيادة الأميركية، قد زادوا من تفوق إسرائيل على مجموع العرب، كما أنهم بالسيطرة المباشرة منعوا انعقاد قمة عربية لرأب الصدع وإعادة وصل ما انقطع، ثم انهم شجعوا عددا من الدول العربية على الاعتراف بإسرائيل، وفرضوا على العرب القبول بمبدأ المسارات المتعددة في مدريد بحيث لا يلتقي عربيان فينسقان مواقفهما، واستغلوا ضعف القيادة الفلسطينية وتهالكها على أي »مكسب« سياسي، فيَّسروا لها أمر »العودة إلى الداخل«، تحت السيطرة الإسرائيلية ولخدمتها.
وها هم العرب اليوم في حال أسوأ من تلك التي انتهوا إليها بعد مغامرتهم العظيمة في الثورة العربية الكبرى تحت قيادة »الحلفاء«!
انهم لا يستطيعون أن يتلاقوا في قمة، أو على أي مستوى إلا وإسرائيل معهم وبينهم.
وهم قد تورطوا في العلاقة معها من قبل أن يستعيد شعب فلسطين الحد الأدنى من حقوقه في أرضه، يستوي في ذلك حقه في القدس، أو حق اللاجئين في العودة أو حق »السلطة« في ممارسة سيادتها على ما »سُلِّم« إليها من أرض فلسطين.
ران علينا الصمت أمام الصورة المفجعة لواقعنا…
بعد لحظات عاد صديقي ليختم هذه المقارنة التاريخية بقوله:
إن ما أصابنا في عهد حلفاء اليوم أبشع بما لا يقاس مما أصابنا في عهد حلفاء الماضي. فبعد الحرب العالمية الأولى توزعت بريطانيا وفرنسا بعض أقطارنا، وظلت بقية منها خارج السيطرة، أما اليوم فجميعنا تحت الهيمنة الأميركية، ومن ثم فإننا خاضعون لسيف التفوق الإسرائيلي.
إن السيادة علينا للأميركيين، لكن قرارنا يخضع للإرادة الإسرائيلية.
في بداية القرن كان الحلم، وها نحن نبدأ القرن الجديد أسرى كابوس رهيب يصعب تقدير مداه الزمني ونتائجه على الأرض.
ولم يكن ثمة مجال لمزيد من الكلام فهرب كلانا إلى الصمت.. المدوي!
حب في قلب نار الثلج!
في الطفولة كان الليل هو بيت الثلج. ما ان تغيب الشمس وتهبط العتمة، حتى يفتح الليل أبوابه فتهمي رقاع الثلج من السماء المجمدة بالبرد فتغطي السطوح والدروب والأشجار والحكايات والعصافير، وتشل حركة الناس والحيوانات ما عدا القطط والكلاب، في حين تتوفر الذرائع للعشاق: الشباب للمساعدة في فتح الأبواب المقفلة بمناسف الثلج، والصبايا لكي يأتين بمزيد من الحطب أو من جرار المياه بديلاً مما تجلد.
نستفيق صباحا في قلب الصمت الأبيض فنعرف أنها كانت ليلة عشق مديدة بين العتمة اللاغية للون وبين الرقاع الهابطة بغير توقف من أفق معتم يغلق أستاره الكثيفة فيحجب الأشعة الخابية للنجوم والقمر والمجرات التي كان يستعين بها الأجداد لتحديد مسارهم إلى الرزق.
ذلك اليوم لا يُنسى… وإذا كان غيري يتذكره »بالثلجة الكبيرة« فأنا أتذكره بحدث نادر لا أتصور أن أحدا غيري قد عاشه.
كان جدي قد أيقظني لألحق بموعد المدرسة… ولكنني لم أغادر الفراش حتى لا يغادرني نعاس النشوة التي يبثها الدفء والأحلام التي لمّا تنطو أخيلتها.
فجأة دوى الحدث الفريد في قلب الموقد الطيني العريض الذي ترتفع مدخنته السميكة وكأنها عمود الزاوية، وهي من الطين أيضا، إلى السقف حاملة معها دخان الاحتراق إلى الخارج وكأنه أنفاس دافئة للذين احتشدوا في البيوت ذات الغرفة الواحدة المتسعة للجميع ولكل الأغراض.
سقط الحجل في المدخنة، وحين كادت تبلغه ألسنة نار الموقد أخذ يرف بجناحيه محاولاً الابتعاد عن المحرقة..
فوجئ الجد كما فوجئ الحجل، وأثارت حركة العجوز المرتبك والطائر المذعور النار فارتفعت ألسنتها وبدأت تطاول الريش الملون للغرّيد الذي يحجز ليطرب.. لكن اليدين الخشنتين العاصيتين على الاحتراق كما على الخدوش تمكنتا من التقاط الحجل الذي كان يخبط بجناحيه بجنون، وأبعدتاه بسرعة عن خطر الحريق.
كنت قد قفزت من فوق النعاس ونشوة الأحلام، فها ما هو أبهى أمامي مباشرة… ومددت يدي متلهفا للإمساك بهذا الطائر الآتي بشارة الصباح الجديد. وبينما أنا أتأمل النقش البديع في تناسقه وقد بعثره الرعب من دون أن يفسد جماله، سمعت صوت الجد يأمرني: أخرج به إلى ظاهر القرية فأطلقه. إنه حجل عاشق. وهو بالتأكيد كان يحاول إنقاذ رفيقته فعرّض نفسه للخطر من أجل حمايتها، ولا بد من أنها تبحث عنه بجنون.
احترمت خبرة صياد الحجال العريق، واحترمت أكثر كبرياءه وهو يطلق الأسير. وخرجت بالحجل أحضنه وأغوص في الثلوج فلا أستشعر برداً ولا أهتم لانخساف الأرض بي هنا وهناك.
على بُعد مئات الأمتار كانت أنثاه، ترسل النداء تلو النداء وتقفز من جدار إلى شجرة فإلى صخرة مكللة بالأبيض المهيب.
حين لمحتني ركّزت عينيها الصغيرتين عليّ، وتابعت حركتي من دون أن يفارقها الذعر… إلى أن جاءها صوته فاندفعت نحوي ترف فوق رأسي، عن يميني، عن يساري، وتعود فتواجهني مباشرة محتفظة بمسافة الحيطة الكافية.
التفت من حولي. لم يكن ثمة إلا الثلج وصدى النداء الملهوف الذي يطغى فيه الشجن على النغم المطرب.
أطلقت الحجل فسعى إليها وسعت إليه، وانطلقا يشدوان بصوت الفرح.
قال جدي »يترجم« لي ما سمعت: أسمعت شكراً يُطرب كهذا الشكر! لك الآن فضل عميم يتجاوز إنقاذ حياة طائر إلى مساهمتك في صوغ قصة حب خالدة، لعلك غداً ستعطي عنوان: »حب في قلب نار الثلج«.
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
بين المحبين مَن يتطرف فيعتبر النظر، مجرد النظر، إلى الآخرين خيانة. هؤلاء قلوبهم أصغر من الحب، وعقولهم أضيق من أن تتسع لعالم الحب الرحب. في حبيبي، يلتقي قلب يتسع للناس جميعا، وعقل يحيط بالدنيا جميعا، ولست أضيق بضيوفي. إنهم كلهم في رحابي فممّن أخاف؟!
ش