إنه العيد… فليكن الكتاب أرض التلاقي
ينهمر سيل بطاقات الدعوة إلى حفلات توقيع النتاج الجديد للكتّاب والمبدعين شعراً وقصة ورواية. إنه العيد!
يخترق معرض الكتاب الأحزان ونوبات اليأس من احتمالات تبدل الأحوال المخزية والمهينة لكرامة الإنسان. تتهاوى ألقاب الرئاسات المفخمة والمتعالية ويتضاءل حجم الواحد منهم فيغدو أصغر من كتاب.
تتراصف الكتب كمصابيح وتنسحب الظلمة تدريجياً إلا في صدور من في نفوسهم وقر، والذين يكرهون الكلمة لأنها تفضح جهلهم الذي يأخذ إلى ظلمة التعصب والبغض والاستقواء بالخارج على الأخ الشقيق.
يستمد النادي الثقافي العربي دوره التنويري، بعدما أعفاه انعدام «السياسة» من أنشطته الجامعة، من هذا المعرض الذي يتخذ موقعه كمهرجان للفرح بالإبداع، وللابتهاج باستمرار القراءة كطقس، كانخراط في الحياة بدل التغرب أو العزلة أو الانغماس في كراهية الآخر الذي لا يعرفه.
سيزحف الطلبة والطالبات في طوابير. سيتخلّون للحظات عن أجهزة التواصل الاجتماعي ليعودوا بعيونهم إلى الكلمة المشعة فوق صفحات الكتب، مبشرين بأن عصر الكتابة لما ينقض، وأن ثمة فسحة من العمر بعد للذين يسكبون أرواحهم شعراً ونثراً.
رواية وقصة، فوق الورق الأسمر الذي يكتسب قدراً من التوهج مزدهياً بما يحمل من الأفكار والرؤى والأخيلة والحكايات التي ستأخذهم إلى مكامن المتعة والطرب في لغتهم الجميلة.
إنه العيد! فارتدوا أغلفة الكتب الجديدة كبطاقة انتساب إلى عصر النور في المدينة التي تستمد ألقها من الإبداع وليس من البورصة وصفقات السمسرة في عمليات بيع الأوطان وتهجير أهلها إلى الغربة في بلاد الآخرين… الذين يقرأون!
اغتيال التاريخ: المدن العربية تتساقط على أهلها
تتساقط المدن العربية، تباعاً. تفقد ملامحها وأهلها. تتشلع، تفتقد قلبها ونبضه. تتهاوى معالمها. تتحول إلى أشلاء. تتمزق وجوهها. تتبدى صريعة، مثخنة بجراحها، نازفة ناسها. لكأنها قد شاخت فجأة. لكأنما ضربها الزلزال. لكأنما صدعت أركانها البراكين. يمشي أهلها كأنهم أغراب فيها، ينكرونها ولا تنكرهم وإن أخذت عليهم أنهم لم يحموها. يعبرون شوارعها التي فقدت ألقها وتكومت في جنباتها العمارات المهدمة أو المفجرة وقد اندثر سكانها… بعضهم من قتل فدفن في أشلائها، وبعضهم من هجرها بالخوف، ومن تبقى يدخل إليها متسللاً ويخرج منها محاولاً الانتصار على خوفه.
لا بغداد هي بغداد، وقد تحول دجلة إلى ساقية من دموع، ولا البصرة هي البصرة وقد سقط عن شط العرب اسمه، لا الموصل هي الموصل ولا نينوى تعوّض بتاريخها الحاضر، ولا ذكريات الثورات تنفع في صناعة المستقبل.. وأربيل قد غدت بعيدة، بعيدة، تكاد تقطع شرايين الجسد الواحد لتستقل بذاتها، مع وعيها أنها لا تعوض بغداد ولا مستقبل لها خارج العراق، لا سيما اذا ما استذكرت أن ظالميها هم هم من ظلم إخوتهم في سائر أنحاء بلاد الرافدين شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً.
خرائط بلادنا تُرسم الآن بالخراب والدم والضحايا.
لا دمشق هي دمشق والدم لا الدمع يتدفق في مجرى نهر بردى ولا دموع لكي نكفكفها لأن العيون قد أغلقت على وجعها، ونزفت معه البصر.. ويوسف العظمة أسقط نفسه عن قاعدة تمثاله قبل ان يغتاله صاروخ أو تنفجر به سيارة مفخخة. أما عدنان المالكي فقد غيّب نفسه حتى لا يُقتل مرة أخرى. لا القصّاع يزهو ببيوته الجميلة التي صارت فنادق، ولا القديس توما يستطيع حماية بابه والكنيسة والمدرسة. ولا ابن عربي يستطيع وقف المذبحة بشعره الصوفي الذي أبدعته عذاباته.
المسجد الأموي يهيب بالمصلين أن ابتعدوا لأن القتلة لا يوفرون بيت الله وسيقطعون رأس القديس يوحنا (النبي يحيى) مرة أخرى لأنهم يكرهون التاريخ، ولعلهم قد هدموا سور دمشق حتى لا يستذكر الناس أبا عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد.
الطريق إلى حمص مقطوعة، وحمص مقطعة أحياء محترقة، وخالد بن الوليد يستذكر الآن جراحه التي ملأت جسده فلم تشغله عن النصر… أما ديك الجن فقد اختفى سابحاً في العاصي حتى غرق فيه. وقرى الجوار هدمها طوفان الغلط… وحماه قد أسقطت عداوتها مع جارتها اللدود لأن قاتل المدن لن يهتم بالأخوة الجامعة، وهي عاجزة عن النجدة، خائفة من طوفان الأحقاد الذي يحاول تدمير العمران ويحكم على المصلين بالكفر ويستخدم المساجد منصات لإطلاق الصواريخ.
أما حلب التي احترق قلبها الذي يقيم فيه التاريخ والتي تهدمت فيها الأحياء الأنيقة التي كانت تقف معتزة بجيرتها لقلعة صلاح الدين، ويخطر فيها طيف المتنبي وقد بنى بأشعاره عمارة أعلى من أي قلعة وأبهى من أي قصر، يطارده منافسه على الإبداع أبو فراس الحمداني لكي يسبقه إلى «الحبيبة» التي أبكته فأشجانا، من دون أن يغفر له سيف الدولة التشبيب بشقيقته التي شطرها الشاعران العظيمان فقدما لنا بعض أرق الشعر الذي يكافحه همج القرن الحادي والعشرين، واحدة من أروع المعلقات.
المدافع لا تصنع حضارة، والدبابات لا توقفها دواوين الشعر، ومكفرو المؤمنين يقتلون الإبداع في الكتابة كما في العمارة وفي الموسيقى والغناء… وصبري المدلل ينكّس طربوشه وأصابعه تلاعب سبحته وهو يعهد إلى الشيخ حسن الحفار بأن يكمل ما أجاد فيه حتى الإبداع صباح فخري، من غير أن ينسى أن يسجد عنه سجدتين في المسجد البديع الذي تصرع القذائف المتساقطة عليه ومن حوله المؤذن وتغتال آيات الله البيّنات.. وأصحاب المطاعم من الأرمن المضيافين يناولون كل عابر بعض الأطايب التي اصطنعوها.
في الرقة وقف الدكتور عبد السلام العجيلي يصد غارات الجاهليين فأحرقوه بنيران إبداعاته في الرواية والقصة القصيرة.
وفي السلمية تصدى محمد الماغوط معززاً بكتيبة من شعراء آل الجندي وكتابهم بينهم، سامي وعلي وعاصم، لقتلة الشعر فرموهم بالدواوين وفيها من الشعر قديمه والحديث، ما يكفي لزرع البادية وروداً تسرح بينها الغزلان وترف من فوقها الطير الأبابيل،
يدوّي صوت سعد الله ونوس من حصين البحر مستولداً الأمل من قلب الخراب والقتل الجماعي.
من يقتل المدن الجميلة التي أبدعها رواد الحضارة ومهندسو الأجمل من العمارات، أديرة وكنائس وصوامع طالما لجأ إليها القديسون؟
… وها هي القاهرة تكاد تضيق بأهلها ويضيقون بها. غادرها الثوار البلا قيادة ولم تنفع ملايينهم التي ملأتها حتى فاضت عنها إلى الشرقية والغربية وصولاً إلى الاسكندرية شمالاً والصعيد جنوباً. وحين أخلى الشباب الساحات جاء الذين أضلهم أصحاب اللحى الطويلة والفتاوى الفتاكة يحاولون اغتيال ثورة المؤمنين بالتكفير.
«المحروسة» تكاد تغرق في كآبتها التي التهمت الفرح. الفنادق الفارغة تكاد تصير مستودعاً للأحقاد، والساحات الأنيقة تخرب قصداً، وتُرمى القمامة على تمثال نهضة مصر، ويغمض سعد زغلول عينيه حتى لا يرى البشاعة تحتل شوارع العاصمة التي كانت عنوان الوعي بالذات وطليعة التقدم في اتجاه المستقبل.
أما بنغازي وطرابلس ومصراته وصولاً إلى سرت فتحولها الاشتباكات بين القبائل والجيوش وميليشيات الاخوان المستولدة حديثاً والعصابات السلفية الى ساحات قتل قد يمتد حتى يقضى على العمران.
… وتونس مهددة بفوضى دموية لن تنفع معها الشعارات الدينية التي تحاول أن تقدم طبعة جديدة للإسلام السياسي مطعمة بالفرنسية وإن شابتها لكنة أميركية.
إنه عصر اغتيال المدينة العربية. إنه زمن اغتيال «العرب» وإسقاط جدارتهم بأن يكونوا في هذا العصر.
إنها إعادة للناس بالإكراه الى الجاهلية في زمن النور والتنوير وسقوط المسافات واختصار الطريق إلى الغد الأفضل.
على أن كل محاولات الاغتيال لن تنجح في القضاء على الثورة، بل لعل الثوار سيزدادون صلابة وسيتعمق فهمهم وسيتبلور وعيهم بما يليق بهذه الشعوب صناع الحضارة.
«بوركيني»: صراع الرسامة المحجبة مع لوحاتها العارية
يداخلك فرح حقيقي حين «تكتشف» موهبة جديدة، سواء في مجال الكتابة أو الموسيقى أو الغناء وسائر وجوه الإبداع.
ولقد أمتعتني هذه الكاتبة الشابة مايا الحاج في روايتها الأولى «بوركيني».. فهي قد اختارت «شخصياتها» بعناية ورسمتها بإتقان يشهد لها بالتمكن في حبك السيرة والتوغل عميقاً في نفوس أبطال قصتها التي لم تشأ أن تحبسهم في أسماء محددة بل تركتهم يهيمون في التوصيف الذي يحدد الإطار الدقيق لأدوارهم في سياق هذه السردية الطويلة لاعترافات المحجبة التي تعيش عصرها وقد غللت نفسها اختيارياً بقيود يفترض أن تكون قاتلة لموهبتها كرسامة تختار لتأكيد حضورها «فتيات ونساء يتجاورن، لا يخجلن بعريهن وكأنهن يعرفن أن هذا المكان ـ أي المرسم ـ لهن»… وهي ترسم الأجساد بأسلوب التظليل «بينما أعيش أنا بظل جسدي».
ولأن مرسمها مزدحم بالعاريات فهي تشعر أن لوحاتها تحدق فيها وكأن بطلاتها يخاطبنها، وتعجب لأن تشهد لحظات ولادتها وهي تخرج من جسدها هي، فتشعر أن لوحاتها تحدق فيها وكأن من رسمتهن يخاطبنها.
الرسامة واحدة من ثلاث بنات لأسرة هانئة، وهي وحدها اختارت أن ترتدي الحجاب، برغم عدم حماسة أهلها، فالرسم هو عالمها.. و«تربطني بالجسد علاقة ملتبسة، أحس أحياناً أنني أضعته وضاعت معه ذكراه».
وللرسامة خطيب تحبه بشغف، ويحبها بحجابها… ولكنها ذات يوم، وفي متنزّه على الشاطئ، تفاجأ بمواجهة مع زوجته السابقة التي ترتدي أشرطة من القماش تكشف مكامن الجمال فيها، ويصعقها أن خطيبها قد استقبل هذه التي جاءت تفسد عليهما خلوتهما في ذلك المقهى البحري، بحرارة شديدة، وأنه انطلق معها في حديث طويل، بعد تحية قصيرة من «الضرة». وتخوض الرسامة صراعاً مريراً مع هذه «الوافدة» التي تمنح جسدها لكل ذي نظر بينما هي تتقوقع داخل حجابها. وتقارن، مرغمة، بين مواقع الجمال في جسد هذه الغريمة وبين جمالها المدثر بالحجاب الذي يخفي جسدها ولا يبقي منها إلا بعض وجهها. وتتأكلها الغيرة وخطيبها يستمر ينظر إلى هذه الوافدة بعدما عادت إلى طاولتها القريبة وقد انشغل عنها.
تنهمر تساؤلاتها حول قرارها بإخفاء جسدها بهذا الحجاب، وتخوض نقاشاً طويلاً مع الذات وأسباب اختيارها الغريب عن عائلتها، وهي الرسامة التي اختارت الصمت تاركة الكلام للوحاتها.. مع وعيها بأن الجسد هو النص الذي فيه تكتب الأقدار وتسبب الأسباب.
هل كانت تهرب برغبتها في أن يكون جسدها لها وحدها لا يراه أحد، هاربة إلى لوحاتها التي تجعلها تنطق بما تريد، مفترضة أنها تتكلم بألسنة هاته الفتيات العاريات برغباتها المكبوتة، بإرادتها، في تصرف لا يمكن لغيرها أن يفهمه ثم يقبله.
بعد صراع عنيف، إثر العودة من النزهة التي ستبدل بعدها مسار حياتها، تغرق في غرفتها في أزمة علاقتها بالحجاب… تجادل نفسها طويلاً، ثم تتخذ قراراً خطيراً بأن تنتصر بجسدها على حجابها، وتقوم فتتعرى قبل أن تختار من أثوابها المهجورة واحداً يكشف مفاتنها وتقرر التخلص من حجابها، لتثبت لخطيبها أنها أجمل من تلك التي تخلت عنه أو تخلى عنها، ثم أهملها هي ـ خطيبته ـ لينصرف بنظره واهتمامه إلى تلك «الضرة» الفاتنة.
وأخيراً تقرر أن تنجز لوحات معرضها، فتغرق نفسها في مرسمها حتى إنجاز لوحة شخصية تكشف مكامن جمالها وان ظللتها بشيء من الحجاب.. وتستدعي خطيبها فيأتي ليراها وقد نزعت حجابها مظهرة مكامن الجمال فيها من قمة شعرها البني وحتى تفاصيل جسدها جميعاً… وتسحبه من يده لتمضي معه ليلة وهو مبهور بقرارها كمثل انبهاره بجمالها الذي سمحت له أخيراً بأن يرى تفاصيله البديعة.
ويجيء يوم معرضها فتذهب إليه متعجلة، متوقعة أن يكون خطيبها أول الوافدين.. لكنه يتأخر أكثر مما يجب فتشتعل في صدرها نيران الغيرة مع الخوف بأن يكون قد قرر هجرها… ثم يجيء وتجيء معه تلك المرأة التي غيّرت حياتها، فتفسد عليها فرحتها بمعرضها وتهز علاقتها بخطيبها، والتي ودعتها بعد وقت قليل لتنصرف… بينما هي تكاد تنهار فتداري نفسها عن الجمهور لتبكي في الحمام. قبل أن تعود شبه مدمرة، ويخرج بها خطيبها إلى الحديقة حيث تتوقف الكاتبة عن كشف النهاية التي يفترض أن تكون سعيدة وهي التي اختارت الصمت تاركة الكلام للوحاتها.
بقي أن نعرف أن «بوركيني» هو الاسم الذي اشتقته الاوسترالية المسلمة من كلمتي «برقع» و«بيكيني».
الرواية الأولى لمايا الحاج مبشرة بروائية متميزة.
تهويمات
÷ يأخذك الشوق إلى حبك متخطياً المسافات أسرع من الصوت. يضفي البعد على حبيبك ألقاً فتشع ابتسامته لتنور المسافات فإذا هو معك، يملأ عينيك بهاء ويضفي على روحك البهجة التي تحتاجها في صحراء القتامة وأخبار الموت التي تملأ عليك حواسك وتكاد تأخذك إلى اليأس.
بالحب وحده تنتصر على ظلمة القهر والشعور بالخذلان وتستعيد رهافة حسك بإنسانيتك.
سأخرج على الناس صائحا: أيها الناس: أحبّوا تصحوا!
[[[
÷ قالت معاتبة: نسيت عيد ميلادي. لا وردة، لا هتاف عابق بلهفة الشوق، لا موعد للعناق.. وأين ادعاؤك أنه عيد الحب، وانك تسكنه؟ سأعاقبك بتنهدتين.
قال معتذراً: لست على صداقة مع الأرقام.. وأرى كل لقاء عيد ميلاد جديداً. الحب يعيد خلقنا، وله علينا أن نحتفل بيوم تعارفنا..
قالت متخابثة: تبدل التاريخ وتسقط العادات والتقاليد حتى تهرب من أن تعيش معي لحظة الفرح.
ورد بهدوء: عمرنا الفرح، وكل لحظة نعيشها ولادة جديدة. هيا نحتفل.
من أقوال نسمة
قال لي نسمة الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ يصحبني حبيبي في غيابه، فأرى بعينيه أمكنة تجواله، وأتفقد غرفة نومه، فأزرع في نافذتها وردة، وأرش بعض عطري على فراشه فينتعش بي ويعبر بالنساء فيحسدنني وتلسعني عيونهن على البعد بغيرتهن التي تغمرني بالسعادة.
حبيبي معي دائماً.. عندي الأصل والباقي بعض ظلاله.