محمد علي شمس الدين ينزل على الريح.. عند سدرة المنتهى
أستطيع الادعاء أن لي صلة قربى مع «شعراء الجنوب» خصوصاً أنهم قد اختاروا «السفير» منبرااً يؤذنون منه للمقاومة وتحرير الأرض وإنسانها، منذ أول سطر في قصيدتهم التي شكلت ديواننا الأثير.
والحب موطن الشعراء، يلهمهم ويفتح عيونهم على مكامن الجمال، ويمكنهم من دغدغة الروح ويزرعهم في الوجدان.
ولقد اجتهدت في تذوق الشعر وفي التحايل على عجزي أمام إبداعه بأن أترنم دوماً بأبيات من قصائد تسكننا فتأخذنا إلى النشوة، وتصلب عودنا في مواجهة الصعب، وتعلمنا لغة العشق لنقرأ وجد الحبيب ونرسل إليه لهفتنا وقد اكتست لحنها الشجي.
وأعترف أن محمد علي شمس الدين قد حملني على أجنحة قصائده إلى مهجع الحلم، وقد زاد مع رفاقه الذين نفروا يغنون الأرض وأهلها من تعلقي بالشعر الذي يكشف فقر كتبة النثر وقصور لغتهم… وتحايلت أحياناً على مقاربة الصور التي يبدعونها فكنت أعجز وأرتد إلى شجني وأمكث فيه، ثم أندفع مجدداً إلى الدواوين بلغتها المشرقة وأخيلتها التي تدخلك بيت السحر، فأقرأ ما يجعلني أتباهى بأنني من الغاوين.
قرأت طبعاً لقبائل آل العبد الله ولشوقي بزيع وجودت فخر الدين وآخرين أسكنوا الجنوب وجداننا، من غير أن ينسوا أن يعلّمونا الحب وأن يسرحوا بنا في مهاوي العشق حتى نكاد نتصوّف.
ولقد أبدع كل من هؤلاء الشعراء مكتبة في أدب المقاومة، لكن الأخطر أنهم أضافوا إلى ديوان العشق فكتبوا على أجنحة الفراشات رسائل وجد لا تخطئ عنوانها.
قبل أيام، هبط عليّ «النازلون على الريح»، آخر إبداعات محمد علي شمس الدين الذي اكتشف أن الحب يمنح لغته أجنحة الفراشات ويجعل صوره أبهى، فبات طائراً مسافراً كأنه الضباب فوق غابة أو السراب، وأن «سبعين من السنوات تساوي خمس دقائق من أيام حبيبه».
[ [ [
تسري عيناي فوق الكلمات المجنّحة التي تقولك بأشواقك، برغباتك، بعشقك للحياة، وتعود إليك صور لحبك الأول من خارج الندم ولحبك الأخير الذي لا تريده أخيراً، لأن قلبك يرفض أن يعيش فراغ الخيبة ومرارة الوداع في قلب غصة القصور.
تختلط عليك المشاهد، فتفترض أنه إياك يعني، وأنه قد دخل بيت السر في أحلامك وقرأها امرأة امرأة، ثم دفعها إليك متحدياً أن تصعد إليه في وادي العيون التي أخلاها من الخفر لتسكنها صورته وحده.
تحاول أن تتسلق المعنى في ديوان العشق الممتد بامتداد حياة محمد علي شمس الدين، فإذا النساء تسد على خيالك الطريق فيقصر عن اكتناه المبنى، وتستحيل اللغة أطيافاً مموسقة لحكايات وله نسيت بداياتها ولا تحب أن تستعجل نهاياتها المعلقة عند سدرة المنتهى، وقفاً على محمد علي شمس الدين الذي يقوم عند عتبتها المقدسة حارساً بشعره الذي صار سحراً.
…»وكل ما في الأمر أننا نريد ما نقول ولا نقول ما نريد»
…فهو يخاف «إذا ما دنوت فأوشكت أن يشعل البرق جسمه… فبيني وبينك نصف ثانية لأقطعها… وسيلزم أن تكون الأرض خاوية ويلزم أن تقوم قيامة الأشياء».
إنه «يوم الأحد الواقع فيه صمتي»… فلتكن الثرثرة لغيره، فأبو حامد الغزالي في محنته، وكثيرة هي المراكب التي أتت تزور كعبته ولم تعد.
لا عمر للشاعر، شعره العمر.. والشعر أزمان يعبرها فيصغر الزمان، تلتهمه القصائد التي تستولد بشرها فيسكنون الوجدان ويعبرون الأجيال التي لا تتعب من الشدو، راسمة لوحة مستقبلها بذلك الخزين المتدفق من عبقريات الذين أضافوا إلى الحياة لمسات الجمال بأرواحهم، وبحكايات حبهم التي تمثلها من أتوا بعدهم فغنوها لكي يعيشوها:
«هكذا، أن نكون جميعاً كما الطير والضوء والماء في تدفقه
والفضاء في الكتاب الذي خطه الله في سدرة المنتهى جملة واحدة
ذلك أنه «سيكون للرجل المؤجل في غد وقتان: ماض لا يعود وقادم لا يقبل»
«ويكون للرجل المؤجل صورتان/ تقول واحدة لجارتها: إجمعيني»
ولسنا نجد مَن يجمع صورنا، أيها الممسوس بسحر الهوى، عاشق الصبا والجمال، فنحن «نسير مثل ريشة على الحبال» لا نستطيع أن نجتب خديعة السؤال، لأننا غالباً ما نهوي قبل أن نصل»، فنحن مثلك، على طريق وحشتنا، كأنما الشرود غاية الشريد… وقد بعثنا طيورنا إلى السماء فلم تعد بل أسرها الفضاء أو قتلها أولئك الذين يصادرون الفضاء!
ومثلك صرنا نحن الطريق في اللانهاية التي مشينا فوقها، مع أننا لم نلمس الليل الذي أشعلت فيه شمسه المخبّأة لحبيبتك و«طفلنا الذي لم يبق فوق الأرض غيره لنا…».
«…وفي الفضاء طائر مسافر كأنه الضباب فوق غابة أو السراب.
ففي غد يحدودب الزمان مثل حافر الحديد ويجرح القصب أحشاءه في الليل».
والليل العربي طويل طويل، أيها الذي يرى ما لا نراه، ونحن كما وصفتنا: «تقلنا المراكب التي تغادر الضفاف نحو الغرب ثم لا تعود».
ونحن من تلك الشعوب التي يمد إليها الله ساعده وهي تنتقل من مقرها إلى مستقرها… نتمسك بموتنا ونسافر فلا نعود، وبديهي أن نفقد الطريق حين تجيئنا في الشتاء لأن لا المكان في مكانه ولا الزمان
… ولقد غرقنا مثل جبل الجليد في ضوضاء سكوتنا المدوي وقد أفقدنا الصراخ صوتنا وأضعنا الطريق وجلسنا على الرصيف وصرنا مثل ريشة على الجبال، لكننا ما زلنا نسعى إلى خديعة السؤال ثم نغرق في خديعة الجواب.
بين الديوان والديوان يفاجئنا محمد علي شمس الدين بأن الشاعر فيه قد بات أعظم عشقاً في مراهقته التي تجدد لغته وتغنيها بسيرة حبه الموصول ما اتصل نور العين بألق الجمال وما اتصلت الحياة بأسباب متعتها التي نغفل عنها في قلب ادعائنا أننا مشغولون بالأهم.
إننا نهرب من لغتنا لأننا لا نعرفها، فإذا أحببنا اكتشفنا أنها تتسع بالحب وأنها أجدر بالحياة من أولئك الذين ينسبون عجزهم إليها.
الشعراء حفظة اللغة أيضاً، فهم يعيدوننا إليها فإذا قلوبنا فيها، وإذا حبنا منسوج بخيوط حريرها المتوهجة لا يغادرها.
«خذلتني الرؤيا وصباحي أفلت من كف الليل/ فلأخرج من بين سيوف النوم قليلاً»
ولقد خرج محمد علي شمس الدين إلى السبعين التي تساوي خمس دقائق من أيام حبيبه:
«أشعر أن البحر أسير في كفي كالعصفور
ولخمس دقائق من أيام الرب أعدت الشعر صبياً وغادرني الشيب.
وسبعون شتاءً وخريفاً سقطت خلفي/ وتكاد عظام الموتى تنهض حين ألمسها»
الحب، الحب، الحب… هو الشاعر والشعر والقصيدة والحب واحد من أسماء محمد علي شمس الدين:
«حينما لمست هذا الليل يا حبيبتي/ أشعلت فيه شمسه المخبأة وبقعة تلألأت أمام ظلنا/ الذي لم يبق فوق الأرض غيره لنا/ وقد دفنا تحته أقدامنا/ لنبدأ الطريق من جديد»
«في اللانهاية التي مشيت فوقها/ صرت أنا الطريق»
يستخلص النازل على الريح وهو يمضي في رحلته التي ترفعه إلى حيث يأخذه الحلم:
«أخاف إذا ما دنوت فأوشكت أن يشعل البرق جسمي
على «طور» عينيك، أو أن يتيه الكلام
وأومأت للشمس أن اقبلي، وللقمر المحتجب أن تقدم
وصعد بي نحو العلى فسموت
وحين وصلت إلى سدرة المنتهى
سمعت الشجر الطير أوابة/ بلا طلل دارس/ وهي تبكي»
ولأن الجنوب هو «القبلة» التي نتوجه إليها بالصلاة، فقد أكمل محمد علي شمس الدين رحلته إلى مقصدها:
«البرتقال دمعة الليمون/ أجراس تدق هناك/ من بدء الخليقة/ بين يافا والجليل/ والبرتقالة شمس هذه القبة الزرقاء
… ولعلها، وجه لمريم نائم في دمعة الشجر النبيل
… فالبرتقالة طفلة زرقاء من يافا/ مصورة على طرف الغصون
سوداء من فرط الخديعة ربما/ صفراء من فرط الجنون»
«النازلون على الريح» سوف يمكث طويلاً معي أتعلم منه لغة الحب حتى وإن أعجزني زمني عن اقتحام بيت الشعر فوقفت مستمعاً عند بابه فأطرب ثم أذهب لأغني حبي ولا أتعب.
عن «بيرق» بسام المسلم والكويت عشية إعلان الدولة
ممتعة هي التجربة: أن تقرأ سطوراً في قصص فإذا هي تفتح أبواب الذاكرة فتعيدك إلى المكان، مع اختلاف الزمان، متيحة الفرصة للمقارنة بين الماضي والحاضر، مثيرة في النفس بعض ما ترسب من تجربة شخصية مثيرة حققت إنجازاً كبيراً في مجال الصحافة، لكن ظروف «الدولة» المستولدة حديثاً لم تكن تعطي هامشاً واسعاً للصحافة بما هي منبر من منابر الصراع الفكري والسياسي والاجتماعي من أجل الغد الأفضل.
فأما «قصص في مهب الريح» التي أعطاها بسام المسلم عنواناً موحداً «البيرق» فمتنوعة الموضوعات، بينها ما تسبق وقائعها وأبطالها ميلاد الكاتب الذي تصفه الروائية ليلى العثمان بأنه «موهبة كبيرة»… خصوصاً أن بعض حكاياتها تتوغل في تفاصيل المجتمع البدوي وهو يعيش مرحلة الانتقال إلى «الدولة قيد التأسيس» التي أعلن قيامها مع خريف العام 1962، في ظل تهديدات علنية أطلقها «الزعيم الأوحد» عبد الكريم قاسم، حاكم العراق آنذاك الذي كان يرى الكويت «قائمقامية تابعة لمحافظة البصرة».
ولقد شاء لي قدري أن أعيش شهوراً في الكويت، بين تشرين الثاني 1962 وحزيران 1963، بعدما اختارني أبرز مؤسسي الصحافة في الكويت الراحل عبد العزيز المساعيد، لأتولى مسؤولية إصدار مجلة سياسية أعطاها اسم «دنيا العروبة»، وفوّضني اختيار مجموعة من الزملاء الصحافيين وفريق من الفنيين في مجال الطباعة، وحدد لنا موعد الصدور، سلفاً: عيد الاستقلال الواقع فيه 25 شباط 1963.
من هنا إنني قد استرجعت خلال قراءة بعض قصص بسام المسلم، لا سيما تلك التي نقلها عن جيل آبائه والأجداد، صورة الكويت كما رأيتها خلال الفترة المحدودة لعملي فيها والتي انتهت بأن عدت منها بجواز سفر بدل من ضائع، حتى لا يتم ترحيلي بتهمة انتمائي إلى حزب شيوعي لم أكن فيه يوماً.
كانت الكويت آنذاك، أي قبل نصف قرن، مشروع مدينة استنبتت في قلب الرمل عند زاوية نهاية الاستدارة للخليج العربي. وكانت أبرز مبانيها ثلاثة: الأول قصر السيف، مقر رئيس الدولة الشيخ عبد الله السالم الصباح، والذي كانت له صورة «الأب» وقد تميّز بالحكمة التي مكّنته من أن يطلب أن يكون للدولة «دستور مدني» استقدم لكتابته بعض رجال القانون الدستوري المميزين من مصر وجهات أخرى…
أما المبنى الثاني البارز فكان لبلدية الكويت، وكانت أشبه بحكومة محلية، بل لعل إداراتها صارت وزارات بعد إعلان جلاء البريطانيين وقيام «الدولة».
وأما المبنى الثالث الذي كان يضج بالحياة فكان معقود اللواء لمجلة «العربي» ومطابعها، وكان يرئس تحريرها آنذاك «الدكاترة» زكي مبارك، كما كان لقب ذلك العلامة الذي أصدر مجلة للأمة جميعاً من الخليج إلى المحيط… وكانت، ولعلها ما زالت، الأوسع توزيعاً، إذا ما استثنينا مجلات الفن والموضة.
وكان ثمة شارع عريض واحد مسفلت يحمل اسم الشيخ فهد الصباح ويمتد بين الخليج والسوق، يميزه فندق كارلتون في موقع غير بعيد عن مجلة «العربي»، في حين تقوم بعض الفنادق الرخيصة في الجهرة، الشارع ـ الحي الذي يكاد يكون قلب المدينة… ومن حول هذا القلب كانت حركة البناء تتسارع فتقوم الأحياء الجديدة على أنقاض القديمة، بينما تستحدث أحياء على شاطئ البحر، بعيداً عن القلب المزدحم الذي كان غالباً ما يشتهر بأسماء الأكثرية من ساكنيه القادمين من أقطار عربية مختلفة، فـ«النقرة» كان له اسمه الشعبي (لبنان) و«حولي» كان (فلسطين)، أما السالمية فكان يمثل تجديداً في العمارة، ويمتد على الشاطئ في اتجاه الفنطاس، الذي شكل مسبح الوافدين.
كان صاحب المجلة، عبد العزيز مساعيد، قد أصدر قبل سنوات قليلة، الجريدة السياسية الأولى والوحيدة «الرأي العام»، وكانت مطابعها في «هنغار» في محلة الشويخ… وبرغم أنه لم ينل من العلم إلا قليلاً فقد كان بعيد النظر، مغامراً دفعته جرأته إلى خوض رحلات بحرية صعبة، عبر المحيط، في أنماط من التجارة والتهريب، وصولاً إلى الهند. وكان في تحد دائم مع ذاته، ومع قدره، وهكذا قرّر التحوّل إلى الصحافة مدركاً أنها ستكون ذات شأن في مستقبل الدولة الوليدة، سياسياً وتجارياً، لا سيما أن البلاد مقبلة على طفرة عمرانية واسعة، ولسوف تقبل الشركات لتبني مدينة بل مدناً حديثة مستولدة سوقاً إعلانية مجزية.
… ومن عبد العزيز المساعيد الذي كان يطلب إلينا أن نناديه «أبو يوسف» سمعنا الكثير من الحكايات عن مجتمع ما قبل النفط، وسمعنا روايات أسطورية عن الرحلات إلى الهند، وعن «الغوص» بحثاً عن اللؤلؤ الذي كثيراً ما كلف الغطاسين حياتهم فابتلعهم البحر ولا مشيعين، وعن وجبات الجراد الذي كان يرى الفقراء فيها نوعاً من اللحم، ثم عن حكايات مؤلمة عاشها ذلك المجتمع الفقير الذي رزقه في ما يعطيه البحر والتجارة مع الجار الأقرب عبر الخليج، إيران، بينما وجهاؤه يتباهون في ما بينهم بمزارعهم في البصرة، وهم القلة القليلة من تجار الكويت.
لعلني أطلت فعذراً… ولنعد إلى «البيرق» وإلى القصص التي جمعها بسام المسلم من مهب الريح، وهو الحائز على بكالوريوس الآداب من جامعة ولاية أريزونا، والماجستير من كلية ماسترخت للإدارة، وقد بدأ حياته العملية صحافياً في وكالة الأنباء الكويتية قبل أن يندفع إلى المهنة التي تكاد تعادل الجنسية في الكويت بل والخليج كله، التجارة.
في المجموعة قصص من زمن ما قبل الدولة، أو من زمن بداياتها، حيث كان للثأر موقعه في المجتمع الذي يجتهد للتحوّل من البداوة إلى المدنية متخففاً من تلك التقاليد التي تمنع التقدم، بل وقد تذهب بأسباب الحياة.
كذلك فثمة مساحة لقليل من قصص الحب وللأحلام وعروس البحر وشهريار وجليب الضياع وغسالة أدهم، وانقلاب المفاهيم والتراتب الاجتماعي كما تحت برج الحمام: «كانوا يأتون إلى البراجة وبأيديهم مشاعل الزيت حتى إذا اكتملوا ساروا يشقون ليل المدينة كالفراش المضيء. ألحق بهم فيتبدد في نفسي رعب زرعته أحاديث النساء عن الدماء المسفوحة في الصحراء. بجانب البحر تحط الجموع رحالها، تنثر فوانيسها على الأرض وفوق أساس البناء. إليهم حملت الماء ومعهم حملت الطين مرات. عجباً بعد تلك السنين ما زالت رائحة الطين في راحة يدي وتحت أظافري».
بسام المسلم «شمعة جديدة» كما وصفه فهد الهندال.
من أقوال نسمة
قال لي «نسمة» الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ لم أكن أعرف أن قارئة التاريخ في الرمل تقرأ الحب دمعة دمعة في عين العاشق… وحين تعذرت الترجمة قرأتها همسة همسة حتى كاد يكتمل الديوان بوداع يستولد موعد الاعتراف.