حكايات مراهقين أحبوا بصوت وديع الصافي..
مع إطلالة ربيع 1953 سرت في الهواء أغنية بسيطة الكلمات لمغن شاب يدعى وديع الصافي.
كنت طالبا في مدرسة المختارة الرسمية التي انشأ المعلمون فيها، وبقرار شجاع منهم، صفوفا للثانوي، برغم اعتراض وزارة التربية نتيجة ضغوط من الرئيس الراحل كميل شمعون. وكنت «غريباً» وافداً من دنيا بعلبكية بعيدة، على انني كنت متميزاً بين أقراني، لا سيما في اللغة الفرنسية (نتيجة سنة دراسية في «الفرير مارتيست» في دير القمر)، ثم في اللغة العربية بفضل السليقة والقراءات المبكرة والكثيفة… ربما لهذا كان رفاق الصف يأتمنوني على أسرارهم، خصوصاً أن بيننا بعض الطالبات.
كانت الأغنية شعبية، وقد لاقت هوى عند «الجمهور»… ثم تحول «الهوى» إلى حماسة، فإلى مصدر للتباهي، عند بعض التلامذة والتلميذات، لا سيما أولئك الوافدون والوافدات من بلدة «نيحا» الشوفية، ثم بالتبعية من قرية «باتر» المجاورة، وكلاهما من أعمال «المختارة» بالمعنى الاجتماعي ـ السياسي.
صار الفتية من نيحا يتقصدون استعراض عضلاتهم على وقع أنغام وديع الصافي، وكأنهم من يغني، لإغاظة أبناء باتر، والأهم بناتها، حتى لو اصاب الرذاذ ابناء المختارة والجديدة وبطمه، زملاء الدراسة.
… وسمعنا بعض أهل المختارة يتحدثون عن آل فرنسيس في نيحا، وعن ابنهم الشاب الذي رفع رؤوسهم عاليا.. ثم عرفنا ان «الصافي» هو اللقب المعبر عن نعمة الصوت الذي يأخذ إلى الطرب ويسقط اسم العائلة «فرنسيس» ليصير مشاعاً لمتذوقي اللحن والغناء البلدي بالصوت العريض والممتد حتى آخر نغمات السلم الموسيقي وأرقّها عاطفة.
ولطالما ادعى الفتيان، في أمسية أيام الجمعة، ان وديع الصافي سيمر قبيل المغرب في المختارة قاصدا نيحا، من أجل استدراج المترددات من الفتيات إلى «مسيرة العصر» على الطريق الممتد نزولاً حتى الجسر «ونقطة الحدود» مع جديدة الشوف… وسط مراقبة «الذئاب» من فتية المختارة.
كان الجميع يتنابذون بالألقاب التي أطلقها عليهم «النقاش»، وهو عالم اجتماع فرنسي طاف في قرى الشوف وبلداته وصولاً إلى البقاع الغربي، فراقب الأهالي في سلوكهم اليومي وعاداتهم وتقاليدهم، قبل ان يطلق على أهالي كل بلدة أو قرية ما يناسبهم من «الألقاب» التي تعبر عن «شخصيتهم» الاجتماعية.
وهكذا كان أبناء المختارة يتباهون بأنهم «الذئاب»، في حين ان أبناء باتر هم من «البسينات»، أي القطط، أما أهل نيحا فهم من «النور»، وأبناء «الجديدة» كلاب، في حين ان أبناء عماطور «ديوك مزهرة»، أما أبناء مزرعة الشوف والكحلونية فهم بين الثيران وبين البقر، وأما صفة «الحمير» و«الجحاش» فقد منحها «النقّاش» لأبناء عينبال وعثرين وهلم جراً.
لم يكن في البلاد تليفزيون، ولم نكن نعرف التسجيلات، ولا الفيديو بطبيعة الحال، ومحطات البث الفضائي، وعلى هذا فلم يكن أمامنا إلا «إذاعة لبنان» وإلا «الأسطوانات» لمن يملك «فونوغراف»…
برغم ذلك صارت «عا للوما اللوما اللوما» تحية الصباح والمساء، وفاتحة الغزل مع الفتيات، ومدخل الشاب إلى حبيبته عبر الأذن التي تعشق قبل العين أحياناً.
صارت «اللوما» كلمة السر إلى قلب «الحلوة المهضومة» بعينيها اللتين تستدعيان الرجاء «دخل الله» للوصول إليها.
وصار كل من الفتيان يدعي، وبصوت عال متى عبرت زميلات الدراسة من أمامه، انه عصر الأمس قد استوقف سيارة «خاله» وديع الصافي فسلم عليه وقبله وأبلغه انه معشوق نساء الأرض جميعاً.
[ [ [
مرت الأيام سريعاً، وانتهى بي الأمر إلى دخول عالم الصحافة من باب مجلة «الحوادث»، وتقدمت مهنيا فيها بحيث صرت سكرتيراً للتحرير، وأنا في الحادية والعشرين من عمري، وعلاقتي بالغناء والطرب «بعلبكية» في أصلها والتفاصيل: العتابا، المعنّى، شيء من الغناء البدوي، وشيء من الغناء العراقي وكثير من ألحان «اللالا» أشجاها وأصفاها حزناً مصفى «اللالا الطيرانية» لتوكيد مصدرها: بلدة طاريا وأهلها، وهم جيراني.
ذات يوم من ربيع 1959 دعانا سليم اللوزي للاحتفال بالعيد الثالث لميلاد «الحوادث»، في بيته بشارع حمد في الطريق الجديدة.
ذهبنا فإذا الثنائي الجميل حضوراً وغناءً وتلحيناً والصامد بموقفه السياسي «العروبي» نجاح سلام ومحمد سلمان يتصدران الحفل.
شكّلنا حلقة من حولهما، سليم اللوزي يقدم ويشرح وينقد ويحلل، ونبيل خوري يهيص، و«البيك» منح الصلح يهز رأسه وهو يقول «شي حلو.. أمان يلللي أمان»، أما وجيه رضوان فيحلم بلقاء يجمع شقيقه الملحن عفيف رضوان مع وديع الصافي، بعدما أعطى الثنائي الجميل سلام وسلمان بعض أجمل أغانيه، لا سيما الوطنية منها.
فجأة، سكتت نجاح سلام عن الغناء وهبّت واقفة، وتوقف محمد سلمان عن العزف وحمل العود بيديه وتقدم في اتجاه الضيف الذي وصل للتو، بينما سليم اللوزي يشق له الطريق ويردد: أهلاً وديع… أهلاً أيها الصافي.
عدنا إلى الجلوس وقد تقيّدنا بالبروتوكول: الأعلى رتبة فالأدنى، ولا أهمية للذائقة الفنية، وهكذا صرت أنا عند العتبة.
غنى وديع فأبدع، وصحنا مرات ومرات «الله، الله» تعبيراً عن النشوة… وتقدم محمد سلمان فجلس أرضاً تاركاً كرسيه لوديع الصافي.
وعندما بلغ الجمع ذروة النشوة وقف سلمان، وأخذ يتراجع مبتعداً عن «ملك الطرب»، فلما صار خارج مدى يديه صرخ: آه، لو أن هذا الصوت في حنجرتي أنا وليس في حنجرتك إذن لأسكرت الدينا! صوتك يا وديع يحتاج ذكائي لتغدو أسطورة الغناء العربي.
[ [ [
تعددت اللقاءات مع «الصافي» في بيروت والقاهرة وطرابلس ودمشق ثم دمشق ثم دمشق التي أعطته كما أعطت كل فنان لبناني من فيروز إلى عاصي الرحباني ومعه منصور، ومن إيلي شويري إلى جوزف عازار فضلاً عن مطربيها الكبار من صباح فخري إلى جورج وسوف إلى شادي جميل إلخ، الكثير من التقدير والتكريم، بل هي تدخلت في أحيان كثيرة لإنقاذ حياة هؤلاء وتأمين علاجهم داخلها وخارجها.
لقد فقد لبنان صوته.
وداعاً أيها الإنسان الذي عاش «وديعاً» فوق قمة المجد، وظلت قدماه غارقتين في تراب نيحا، حتى وهو يبلغ الذروة شهرة، ويدخل قلوب محبيها فيسكنها ولا يغادرها ولا هم يقبلون أن يخرج منهم.
بين «عيوقة» المختارة و«زهية» التي تنتظر فارسها..
.. وفي المختارة عشت عامين طويلين في حالة استقلال اضطراري عن أهلي. كان رئيس مخفر المختارة، بالمصادفة، من شمسطار، بينما والدي، ابن شمسطار أيضاً، هو رئيس مخفر درك بعقلين. وكانت مدرسة بعقلين الرسمية ابتدائية فحسب، وكنت قد أضعت سنة دراسية في مدرسة خاصة. بعد سنة في «فرير» دير القمر أبلغ رئيس مخفر المختارة والدي أن أساتذة هذه المدرسة قرروا تحويلها إلى تكميلية برغم اعتراض وزير التربية، خضوعاً لتعليمات الرئيس كميل شمعون الذي كان قد انتقل من موقع الحليف مع وليد جنبلاط إلى موقع الخصم.
دلّني «الرقيب» إلى «العيوقة»، فقصدتها، ورحبت بي، وأسكنتني غرفة من منزلها في «الحي التحتاني» الذي يتشكل بأكثريته الساحقة من المسيحيين.
كانت «العيوقة» في عامها الثاني بعد المئة، منتصبة القامة كشجرة حور، في وجهها سماحة لا تخفي ملامح الجمال الذي استولد «لقبها» المميز. وكانت طيبة جداً، مع الجميع، وحازمة جداً مع ابنتها «زهية» التي لم تسعفها الأيام في الوصول إلى عريسها المرتجى، لكنها لا تزال تصر على أنه آت بالتأكيد، وهو قد يصل في أي يوم فارساً بسيفه ودرعه المصفح، ولسوف يحمحم حصانه عند مفرق البيت فيسمع الجميع، ويتابعون موكبه حتى بيتها، وستصعد الفتيات إلى سطوح المنازل المجاورة، يتأملن هذا الحبيب الذي لم ينس وعده، وجاء أخيراً إلى موعده مع «ليلاه» التي لم تيأس، ولم يهدّها تعب الانتظار.
كنت كأي فتى ريفي أهمهم وأسعل عند خروجي من الغرفة واعياً دائماً أنني أسكن في بيت عماده «الحريم»، ولا تهم الأعمار… وكانت «العيوقة» تناديني بصوت الأم فأسعى إليها، أركع أمامها وهي جالسة على كرسيها فتمطرني بالأسئلة: هل أنجزت فروضك؟ هل كتبت «الإنشاء»؟ أريدك أن تقرأه عليّ مساء… هل من كلمات بالفرنسية استعصى عليك فهمها؟ أظنني لا أزال أحفظ شيئاً من تلك اللغة، كما أحفظ كلمات تركية كثيرة.
دائماً وقبل أن أقوم للانصراف، كانت تنبهني إلى ضرورة الحذر في العلاقة مع البنات: لا تنس يا بني أنك غريب.. ومن السهل اتهامك بما ليس فيك. أنت مراهق، وقد تعجبك هذه أو تلك من زميلات الدراسة. ولأن عددهن قليل فكل أقرانك عشاق. وهم قد يتحرشون بهن، فإن ضبطوا متلبسين قالوا إنك المحرض، أو إنك المتحرش الفعلي، ولكنك هربت قبل أن يصل نواطير الجمال وأنك كنت تغني للصبايا «عاللوما اللوما اللوما».
أما عند العودة مساء، وحين أدخل للتحية، فإنها ترسل «زهية» إلى الخارج بأية ذريعة، ثم تنطلق تشكو لي ابنتها «المتصابية»: إنها تعيش على الحكاية الوهمية للعريس الذي لا بد سيأتي مهما طال غيابه؟! هل عرفت منها من العريس؟ إنها تخاف من أن تسميه حتى لا تكشف كذبها. وهي تحلم بأمين نخلة، الشاعر، وأنت ربما تدرس شعره الآن. أمين بن رشيد نخلة. الشاعر ابن الشاعر. الكبير ابن الكبير.
تنهدت «العيوقة» التي تشي ملامحها بجمال في شبابها قبل أن تضيف:
ـ لا بد من أنها حدثتك عن الفارس وحصانه والبارودة في كتفه والسيف في يده. إنها تقصد «أمين نخلة».. ولقد جاءنا رشيد نخلة أكثر من مرة، فهو نسيب لعائلتنا، وفي بعض المرات جاء يصحبه ابنه أمين. ولقد قال الاثنان بعض الشعر فيّ. لم أعد أذكر الكثير، لكن رشيد نخلة شبّهني مرة بليلى العامرية..
ضحكت، فتبدى وجهها صبوحاً، والتمعت عيناها فخيّل إليّ أنني أشهد برقاً في سماء مجعدة الغيم. سألتها: هل تحفظين بعضاً من شعره؟!
قالت مبتسمة: ليس كثيراً.. أحفظ أبياتاً مقطعة، لكنني أعرف أنه لم يكن يعتبر النشيد الوطني بعض أفضل شعره، وأكثر من مرة قال لي إنه كان مستعداً لأن ينظم أفضل منه بكثير لو عرف أنهم بحاجة إلى نشيد وطني!
جاءت زهية، وبان على ملامحها أنها استرقت السمع إلى حديث والدتها العجوز فنبرت غاضبة: دائماً تعاملينني وكأنني ضرتك. لقد قال الإثنان شعراً فيّ لا فيك… وأنا أحفظ الكثير منه، وأغنيه حين تنامين!
إلى أن جاء يوم لا أنساه: رجعت قبل المغيب إلى البيت، فوجدت «زهية» تنتظرني. قالت: اسندني وتعال لأريك أين كان عريسي يربط حصانه.. وأين قبّلني أول مرة، لقد احتضنني بقوة فانتشيت وغبت عن الوعي!
هزتني نوبة البكاء التي سحبت «زهية» إلى البعيد، فاندفعت إلى الداخل مضطرباً، وقبل أن أدخل غرفتي جاءني صوت «العيوقة»: تعال يا بني..!
دخلت مرتبكاً، فاستقبلتني «العيوقة» ضاحكة: لقد أرتك آثار حوافر الحصان، وروت لك خطة خطفها إلى العرس، واتهمتني بتعطيل الفرح. هي تكرهني الآن، وأكافح حتى لا أكرهها…
صمتت العجوز لحظة ثم قالت من خلال دموعها: الكراهية تدمر الحياة، يا بني. إياك والكراهية… بادل كارهك بالحب تهزمه. لتكن لك الحياة.
من أقوال نسمة
قال لي «نسمة» الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ــ ديوان الحب ليست له خاتمة. كل عاشق يجتهد في الإضافة إليه، ثم يكتشف أن سابقيه قد أبدعوا وقصر عنهم.
انس الفلسفة فلكل عاشق ديوانه الخاص، ومع كل نظرة خاطفة، همسة مرطبة بالدمع، لمسة حارقة، تنتثر القصائد فتخلق عالم السحر.
المقدمة كما الخاتمة وما بينهما كلمة واحدة يهمس بها العاشق وكأنها أول الكلام وفاتحة الديوان: أحبك!