رسالة من «داخل» سميح القاسم .. خارج القضية!
جاءني صديق من فلسطين التي هي فلسطين والتي تبقى فلسطين، والتي نسيتها القيادة الفلسطينية، ونسيها العرب، وتُركت لمصيرها «داخل كيان الاحتلال». قال إنه يحمل رسالة عتاب من سميح القاسم إلى كل الكتّاب والصحافيين، لا سيما منهم من يعمل في المرئيات، والذين انتقلوا من نسيان القضية إلى تقصّد إهانة أهل الداخل، إذ يستكثرون عليهم صفة «الفلسطينيين».
كان سميح القاسم قد تفجّر غضباً في إحدى مقابلاته التلفزيونية حين مُسّت «فلسطينيته»، وقال إن الذين يشكّون في عروبته هم الذين يجب أن يخجلوا من جهلهم… وذكر أنه هو من وصف الإسرائيلي بقوله: «زبد أنت على شاطئ قبري واحتمالي/ ريحك الحمقاء والهوجاء لن تنجح في هز جبالي/ أيها الهائم من ليل الأساطير إلى ليل الزوال/ يا عدو القمح والماء الزلال».
يقول سميح القاسم في رسالته: «هل ارتكبنا جريمة في الوطن؟ ألسنا نحن الهمّ الأكبر للمؤسسة الصهيونية؟! ألستم تلاحظون أن الإسرائيليين يعيشون في رعب الهمّ الديموغرافي.. إن خوفهم الأكبر هو من هذه الأقلية القومية الرائعة».
قال الضيف الذي تحمل ثيابه رائحة الأرض المباركة: لقد روى لي سميح القاسم «المباراة» بينكما على الصبايا في واحد من المهرجانات الثقافية في دبي. وقال إنه هزمك في جميع المعارك، وهو يرسل إليك اعتذاراً متأخراً، باعتباره «فارساً».
وهي لم تكن «مباراة».. لكن معظم العاملات الطارئات المجال الإعلامي بكفاءة الجمال لا الدراسة أو الخبرة، لا يعرفن الشاعر الكبير، ولا يحفظن قصائده، إلا في ما ندر… ولقد كانت مهمتي أن أحمل إليه أكبر عدد ممكن من الصحافيين والصحافيات ليس للتعارف فحسب، بل لكي نعود معه إلى فلسطين بشعره الأقوى من دبابات الاحتلال وطيرانه، والذي يسكن الآن وجدان أجيال من العرب.
لكن الشاعر، أي شاعر، يرى نفسه الفارس، حيثما حلّ، وينبغي أن تكون له الأفضلية المطلقة… فهو ليس متقدماً بين متساوين، بل يجب أن يظل المميّز والمفضّل والمحبوب والنجم. الساحر، المدهش، الذي لا يطيق المنافسة، ولا يقبل أن يدخل في مباراة أو في امتحان أو في مفاضلة… في حضور النساء، ولو تمثلن بواحدة.
ولقد سكن سميح القاسم وجدان الأمة منذ أول قصيدة، خصوصاً أنها كانت فتحاً جديداً في عالم الشعر المرتبط بالأرض وأهلها، والذي لا يتوجه إلى إثارة حماستك بقدر ما يتوجه إلى ضميرك الوطني وإلى انتمائك القومي فيزيد من شعورك بالتقصير.
وبالتأكيد فإن سميح القاسم وقبله ومعه توفيق زياد، حادي النضال من أجل التحرير، قد أشعرانا جميعاً بالعجز إلى حدود التخلي كمدخل للخيانة الوطنية.
ولقد كنت قريباً من الشهيد غسان كنفاني وهو يعمل بدأب على جمع قصائد سميح القاسم وتوفيق زياد، ومن أحمد سعيد محمدية حين أخذ يصدر دواوين شعراء الأرض المحتلة حتى من دون إذن، عن «دار العودة».
الأرض بأهلها، هي الأصل. وسميح القاسم هو الأهل. هو رمز الأرض المقدسة بجبالها وسهولها وزيتونها ومعارج الأنبياء فيها التي تجعلها مباركة وتدخلها وجدان الشعوب في أربع رياح الأرض انتصاراً للحق وشرف الإنسان.
لقد كان سميح القاسم بين أوائل من أطلقوا النفير.. وهو ما زال يناضل في الميدان الأخطر: الثقافة.. بالشعر الذي يدل على عمق الصلة بوجدان الأمة عبر لغتها، بقدر الارتباط بالأرض التي تنبت الشعراء.
قلت لرسول سميح القاسم: طمّن دون كيشوت أنني لا أملك القدرة على منافسته لا في الشعر ولا في مغازلة النساء، فسلاحه يخترق الحواجز والمسافات ويدخل الوجدان مباشرة فيهزه.
قال الرسول مداعباً: صحيح أن المرأة ما دخلت بين صديقين إلا وأفسدت الصداقة.
قلت: ولكنها كانت لقاءات عابرة في بهو الفندق، وأراهن أن معظم أولئك الفتيات قد نسين أسماءنا فور مغادرتهن مجلسنا… ولقد كان دوري المعرّف فحسب. في أي حال، بلّغ سميح القاسم أننا إذا ما التقينا مرة أخرى فسأكتفي بأن أحيّيه عن بُعد وهو في مجلس هارون الرشيد. أما الصداقة فباقية وراسخة كما التقدير لهذا الفارس الفرد الذي لا يتعب من النضال باسم شعبه بل باسم الأمة جميعاً.
… وهذه تحية لشاعر القضية الذي ما زال قلبه ينبض شغفاً بالوجه الجميل والصوت الرقيق، كأي إنسان نبيل.
زهير هواري يؤرّخ لمن لا تاريخ لهم
هو عاشق لأرضه حتى الوله، محب لأهلها متعددي الانتماء الطائفي حتى الفخر بأنه واحد منهم. يكتب عن «المنصورة» بلدته التي تتكئ على مجرى الليطاني المندفع نحو الجنوب فلا يتعب. يبحث، ينقّب في الكتب، يجمع شهادات المقيمين وصور المغتربين وحكاياتهم. يقرأ في كتب السيرة وفي تاريخ المنطقة، ماداً بصره إلى «الشام» ومحيطها ليستكمل «تاريخ من لا تاريخ لهم ـ فلاحو المنصورة ومجتمعهم خلال القرنين التاسع عشر والعشرين».
ولأن الدكتور زهير هواري يحمل «السفير» في وجدانه، وتستبقيه فيها بعدما غادرها ليتفرّغ للتدريس الجامعي، فهو يستلهم «من هذه المؤسسة العنوان، بل هذا الإصرار على العمل خدمة لهذا الوطن وإنسانه المعذب».. وهو بهذا يؤكد المعنى الذي قصدت إليه «السفير» حين اختارت شعارها: صوت الذين لا صوت لهم.
يهدي الدكتور زهير هواري كتابه إلى «أبي وجيل من الرواة الرائعين الذين يرحلون تباعاً وإلى أهالي المنصورة الصابرين على أحوال هذه الحياة، وإلى كل من جعل هذا العمل ممكناً، وإلى زوجتي عاصمة رمضان والعديد من الحاضرين والغائبين».
يباشر الهواري بحثه من قصة الاسم، ومن أي «انتصار» أتى وعلى مَن. وهو يبحث وينقّب ويستنتج ويلجأ إلى الشهادات وإلى المفكرات كوثائق… ومعروف أن أسماء القرى عموماً قد تحدّرت من مصادر عدة، بعضها آرامي ـ سرياني، وبعضها الآخر فرضته الجغرافيا (تل الدير، مرج العين، التليل، تل ذنوب، الشرقية، عميق.. تل الآخر، دير طحنتيش…).
بديهي أن يقود البحث إلى دور العائلات في تلك المنطقة بإقطاعييها الوافدين من خارجها (آل سرسق) أو من أهلها (آل السكاف) ثم بعائلاتها السياسية والوجاهات والطابو، وأن يشمل بل يتوقف أمام حقبة الانتداب الفرنسي ـ الإنكليزي والانتفاضات التي واجهته، وأخطرها بطبيعة الحال «الثورة السورية» التي فرضت إعادة كتابة بعض تاريخ هذه المنطقة واستقلالها بدماء أهلها.
على هامش الثورة السورية ثمة حكايات تروى عن أبطال أدوارهم ملتبسة وإن كان لا يمكن تجاهلهم، ومنهم ملحم قاسم وقادة ثورة الميري.
يفتح الدكتور هواري كتابه لروايات الأهالي، وهي في الغالب الأعم، شفوية، ثم إنها متناقضة، بينها: من قتل الخيّال والحصان؟ مقتل مهندس الري، قتيل الصيد… قبل أن ينتقل إلى رواياتهم حول اسم بلدتهم «المنصورة» وأين تحقق مثل هذا الانتصار وعلى من؟! وهل صحيح أن التسمية وُلدت من خلال معركة انتصروا فيها على ملاكي الأرض الدروز، عشية الفتنة الكبرى في جبل لبنان (1840 ـ 1860)، قرب بلدة التليل الدرزية المجاورة.
يسجل الهواري أن أكثرية السكان من المسيحيين، (حوالي الثلثين)، غالبيتهم من الطائفة الكاثوليكية، وفيهم أرثوذكس مع أقلية مارونية.. وبين الطرائف أن أرمنياً هو الذي بنى مئذنة المسجد في المنصورة، أما الكنيسة فقد جيء بحجارتها من رعيت في البقاع الأوسط.
بعد ذلك يجيء حديث الهجرات، وكيف خرج أبناء المنصورة إلى المغتربات البعيدة من دون أن يقطعوا علاقاتهم بالأهل فيها.. وهو يلحق بهم، يجمع الصور المتيسر الحصول عليها والتي يضفي عليها القدم رائحة عرق الجبين في المهاجر من أجل الأهل «في البلاد»…
يروي زهير هواري أيضاً مسيرة انتقال أهالي البلدة من الرعي إلى الزراعة، ويتطرق إلى العائلات ومصادر الحياة خلال القرنين التاسع عشر والعشرين.
بين المحطات التي يتوقف عندها تاريخ الدروز في المنطقة، وهو توصّل إلى أنهم موجودون فيها منذ القرن السادس عشر.
ولأن زهير هواري يعمل بمنهج البحث العلمي، ولأنه شديد الفخر ببلدته الصغيرة، والتي لا تقع على شبكة الطرق الرئيسية، فهو قد استعان بواحد وستين كتاباً بينها كتب مرجعية لمؤرخين وبحاثة مميزين. كما أجرى عدداً هائلاً من المقابلات وعاد إلى رسائل جامعية عديدة غير منشورة، كما إلى عدد من المخطوطات فضلاً عن الصحف.
ليست العصبية وراء كل هذا الجهد الذي بذله زهير هواري من أجل بلدته، فجعلها ـ وهي الفقيرة بمواردها، والتي لا حضور فيها «للزعامات» السياسية ـ تحتل واجهة المكتبات. إنه حب الأرض وأهلها الطيبين الذين لا صوت لهم وقد توفر لهم أخيراً صوتهم، ولا تاريخ لهم ولكن ابنهم البار قد بذل الجهد من أجل أن يدرجهم في التاريخ.
ابن المنصورة البار عمد إلى العلم والبحث والتنقيب فقدم كتاباً مميزاً عن بلدة منسية سيدخلها ذاكرة اللبنانيين، لا سيما من يهتم بالتاريخ وأهله البسطاء وليس فقط بأبطال الحروب، سواء أكانت بقصد الاحتلال، أم كانت حروباً أهلية.
وردة حمراء لجاكلين.. على أوتار الحنين
بيد مرتعشة يقدّم أنيس مسلم عزفاً «على أوتار الحنين» يهديه إلى الملهمة التي صارت ديواناً: جاكلين، التي رحلت وتركته في عراء اللوعة.
وهو قد كتب هذه المرثية بقصد «الخروج من حالة الحداد، والغم الذي يستدعي حكماً تحديد موقع جديد لنا في العلاقات بالآخرين، وإن بدأ نزف جرحنا يتوقف… وقد وسّع الرجاء آفاقي، وسهّل دربي صوب التعافي، وها أنا أحاول عيش اللحظة الحاضرة».
هنا مقتطفات من هذه المرثية:
«عاشت العمر في الحاضر/ لا الأمس كان يعنيها ولا الغد/ ما مضى فات، كانت تقول، وما فات مات ولن يعود، والغد ليس من شأننا».
«حوّلت جاكلين آلامها أنغاماً/ سوناتا/ كونشرتو/ سيمفونيا، ذهباً، ماساً. وشعراً صاغت من أوجاعها/ من الضيق استمدت أملاً، ومن اليأس كوى رجاء. آلامها وطّدت علاقتها بالله/ حرّرته من الأوصاف والنعوت/ صار الله بفضلها صديق العائلة مرشدها وكاتم أسرارها، ويوم غادرت جاكلين الأرض بقي الله في بيتنا..
«… كانت زوجتي من حجاج السماء/ تذوّقت بواكير نعيمها/ قبل أن تستوطنها وتستمتع برياضها.. بل كانت تستعجل الإطلالة على الجنة…».
على أن المطران جورج اسكندر قد وفى جاكلين حقها فكتب «أنها كانت تقيم للبيت هيكلاً في صدر زوجها يركع عند عتباته ويصلي في حرمه».
وقد حمل أنيس مسلم وردة حمراء «إلى روحها لأنها كانت تحب الورد الأحمر وتزيّن به صدر الدار (…)، ويوم كنا ننهل العلم في باريس اعتدنا أن نقوم بنزهة مسائية من غرفتنا في شالم نزولاً إلى جادة السان ميشال فنشتري وردة حمراء…».
تهويمات
^ كتب إليها يقول: تغادرين ولا أغادرك. تنسحبين وأبقى أسير ظلك. هل لك أن تسحبي ظلالك من أمامي لأرى طريقي إليك؟
وردت تقول: لا تكتبني. أفضل أن تقرأني!
^ وكتب إليها يقول: كل كلمة تأخذ إليك. كل كلمة تأتي منك.. إن أطلتِ الغياب أضعت لغتي.
وردت تقول: سأقرأ صمتك. الحب ثرثار حتى في صمته.
من أقوال نسمة
قال لي «نسمة» الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ الحب أقوى من الزمن. تمر السنون فتفرّق بين الحبيبين، وقد تجعل كلا منهما في قارة، لكن لفتة واحدة، همسة واحدة تكفي لوصل ما انقطع بدمع اللهفة إلى الأمس في اليوم والغد.
أحياناً يفيض الحب عن العمر، فيصطنع زمنا جديداً للحبيبين.