عن هؤلاء الفتية الذين يزيدون من شغفنا بالحياة
أخذتني العزة بالإثم، كمواطن تتحدر أصوله من منطقة بعلبك، وأنا أتابع ـ مرغماً ـ اجتياح الألحان البدوية أو شبه البدوية، بنبرة بعلبكية واضحة، مواسم الغناء التي تعتمد أشكالاً من الحركات الراقصة تشبه الدبكة ولكنها ليست منها.
بالمقابل، افتقدنا في السنوات القليلة الماضية الفنون التي تعوّدنا أن تأتينا من مصر، غناءً وموسيقى، مسرحاً وأشرطة سينمائية، قصائد وأهازيج تعكس نبض الشارع، كالتي قدمها في الزمن الجميل الثنائي المبدع صلاح جاهين وسيد مكاوي، أو الثنائي الآخر أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام، فضلاً عن ملاحم عبد الرحمن الأبنودي ومجموعة من شعراء العامية الذين عبّروا عن وجدان شعبهم وأكدوا ان مصر سوف تعود من غيبتها التي طالت.
ومع اعتزازي بفن الدبكة وخطواتها المجسدة للرجولة بالرؤوس المرفوعة بشموخ الأنفة، فليس كل من تقافز فوق المسرح، مواكبا المغني، هو «أبو يحيى».
واعترف بأنني كنت ألجأ، ليلاً، إلى المحطات التي لا تزال تحفظ للسيدة أم كلثوم مكانتها، وتنعش جمهورها باستعادة بعض أغنياتها التي لا يطالها القدم، تخففاً من سيل الأغاني التي يؤديها الأورغ ومعه الطبول بحيث يضيع المعنى، ان كان ثمة معنى، ويتبدى الهدف واضحاً: «ترقيص» الجمهور.
[ [ [
قبل أيام جاء من دعاني إلى «مترو مسرح المدينة» مؤكداً أنني سأحظى بمفاجأة ممتعة. ولقد ذهبت متردداً، إذ لم أسمع بين أسماء الشبان الذين يقدمون سهرة الطرب من لهم شهرة «النجوم» أو لهم مساهمة معروفة في الإبداع الموسيقي.
ولقد كانت المفاجأة أروع مما تصورت.. خصوصاً أننا، منذ زمن بعيد، لم يهزنا الطرب، إلا في حفلات بيتية مغلقة، ولم يأخذ الانتعاش بالموسيقى إلى الفرح، ولم نندفع واقفين ونحن نصفق لهؤلاء الفتية والفتيات الذين أطربونا فسحبونا إلى ذروة النشوة.
لا أسماء لامعة، ولا إعلانات صاعقة. لا المكان باهر الأناقة، ولا الدخول إليه يشترط لباساً بالذات.
في الزاوية المعتمة لامتدادات مسرح المدينة، وخلف مقهى الرصيف الذي يؤمه المدخنون باب ضيق يفضي بك إلى درج معتم يوصلك إلى المسرح الثانوي أو الجانبي الذي تقصده مدفوعاً بشهادات جمهوره الذي بات أقرب إلى «حزب الطرب»، يحاول حماية ذائقته التي تحن إلى الماضي في ظل غربتها عن موسيقى الصخب بطبولها المدوّية.
مع ارتفاع الستارة تتوالى المفاجآت المنشية التي تسحبك إلى ثلاثينيات القرن العشرين بأعلام الموسيقى الشعبية وفنون الطرب والأغاني بكلماتها «الهابطة» وإن أخذتك ألحانها إلى ذروة الشجن ثم سحبتك إلى وهدة الخدر التي يعيش فيها المطربون والعازفون وراقصات الكباريه و«حارسهم» الذي تسحبه النشوة إلى حلقة الزار والرقص الصوفي.
تسأل عن المجموعة التي ترعى هذه الاستعادة لبعض لحظات ذلك الزمن الذي شهد الأعمال الإبداعية الخالدة لسيد درويش وعبده الحامولي وزكريا أحمد وبدايات محمد عبد الوهاب وأم كلثوم، فتعرف أن من بينهم هشام جابر، وهو المدير الفني، وباسم بريش، وهو المنتج، ووسام دالاتي الرسام ومصمم الغرافيك الذي يعيش في كندا، وفادي صقر الممثل ومالك مطعم في كندا، حيث يعيش الآن، وعباس مروة وهو أمين المسرح، ويعيش في الدنمارك، والمهندس دونالد شوباصي والموسيقي شريف الصحناوي.
وتعرف أن هذه المجموعة من الشبان والشابات تطمح لأن تجعل من «مترو المدينة» مركزاً ثقافياً وترفيهياً من طراز فريد… وهم قد بدأوا مشروعهم بإمكانات محدودة لكنهم عملوا بجد حتى غدا بين أكثر المراكز تأثيراً على المشهد الثقافي في الحمراء.
لدى هؤلاء الشباب رؤيا محددة: إنشاء مركز ثقافي دائم، يتولى النقل المباشر لمناسبات مختلفة ولحفلات موسيقية على الإنترنت، وحفظ تسجيلات الحفلات الموسيقية ضمن أرشيف خاص، وتأسيس استديو للتسجيل مع علامة مسجلة تهدف إلى رعاية المواهب الشابة الصاعدة.
فأما المغنية فهي ياسمينة فايد، والراقصة هي رندة مخول، وأما عازف العود والمطرب في ساعات التجلي فهو زياد الأحمدية، وأما «الممثلون الثانويون» الذين يلعبون دور «الخدم» والكورس فهم أحمد وفادي وفرح.
لقد أكد هؤلاء الشباب أن الإرادة تخرق المستحيل، وأن ذائقة الناس لا تزال سليمة ولكنها تفتقد النتاج الجديد الذي يتوجه إليها.
بالمقابل، فقد ثبت أن الفن الأصيل راسخ في الوجدان وإن غطته طبقة من الصدأ أو ذهبت به الهموم إلى مهجع النسيان في الذاكرة، وأن نقرة عود أو سحبة كمان أو استعادة للحن شجي تكفي لإنعاش الذائقة التي أصابها الذبول.
لقد منحتنا هذه الكوكبة من الشبان أمسية ممتعة تكشف مدى غربة أغانينا المعاصرة عن ذائقة الجمهور التي ثبت أنها تبحث عن الموسيقى المشجية، عن ألحان الميلودي بغض النظر عن الكلمات التي قد يراها البعض هابطة وإن ظلت تدل على ذائقة الجمهور في ذلك العصر الملكي الذي هزته ثورة 1919 فأكدت حضور الشعب بفنانيه العمالقة وأخطرهم سيد درويش.
تحية إلى زياد الأحمدية، موزع الموسيقى، والمغني وعازف العود.. وإلى ياسمينة فايد التي استعادت بعض ألوان الطرب الشعبي، وزياد جعفر، الذي يعزف على الكمان ويغني، وبهاء ضو ـ الإيقاع، وسماح أبي مينا على الأكورديون، وروي ديب، والراقصة الشرقية رندا مخول… وكذلك إلى وسام دالاتي الذي أبدع في أداء «المولوي» أو الدرويش والقيّم على «شرف الحريم»، ونديم صوما وجواد شعبان ولارا نصار، وسارة نهرا وجينا سمعان.
تحية إلى هؤلاء الذين خاطبوا فينا الذائقة الفنية وأحيوا فينا الروح التي ينعشها اللحن الأصيل والغناء الذي يعبّر عن وجدان الناس ويشجيهم.
… ومؤسف أن تكون موسيقانا قبل ثمانين سنة أكثر تعبيراً عن أرواحنا، وهي تبقى وتعيش فينا وإن كانت كلماتها بسيطة… وتظهر بعض حالات الإدمان. اللحن هو الأصل، والكلمات مجرد لازمة أو إطار للجمل الموسيقية المنشية.
العائد إلى عمره الثاني
لا داعي الى إطفاء الشموع، دعها تلاعب بألسنة نورها المرتعشة وجوه الأحبة المحتشدين من حولك يؤكدون فيك عشقك للحياة التي يمنحها الحب قداستها.
لا تخف من أن يجرفك طوفان الحب. اجرف بحبك كل الخائفين من الحياة.
يمكنك الآن أن تتباهى بأنك «غبت» ثم «عدت» بأوسمة منقوشة على وجهك، وبروح معنوية عالية يمكنك أن توزع منها على قبائل قتلة الكلمات، كارهي الشعر والنور والجمال، الذين ترعبهم ريشة رسام كاريكاتور ويفزعهم قلم لم يتوفر في خزائنهم الذهب الكافي لشرائه.
عمران عمرك: يكاد شعورك بالانتصار على رصاص القتل يستولد في صدرك ينابيع من الحب. ما أعظم أن تحس أنك مؤهل لأن توزع على الناس، كل الناس، كلمات الحب كل صباح، مستبقياً لمن أحببت فيضاً من مشاعرك وقد رقّت وسمت فإذا أنت بلا أعداء، فليس عدوك بالذات ذلك الذي يطلق النار على الأفكار، على الفراشات، على الورد والياسمين، على القصيدة واللوحة وارتعاشة الشفتين وهما تداريان هجمات الخوف بابتسامة دامعة.. إنه عدو الإنسان في كل زمان ومكان.
عمران عمرك. لقد أنقذك إيمانك بالحب، فارم نفسك في يمّه ولا تخف. لقد جاء إليك الناس تتقدمهم قلوبهم فاحتضنوك وحصّنوك ضد الموت. لقد استعادوك من قلب الغياب وفتحوا لك باب العمر الثاني بالحب، ولا شيء إلا الحب.
لا يمكن اغتيال الفكرة. الأفكار أعظم تأثيراً من القتلة الذين يكمنون في الليل. الأفكار مشعة، مثل الشمس، تكشف السفاحين ولو غطت وجوههم الأقنعة.
ماذا يمكن أن تكون تهمة كاتب سلاحه القلم والفكرة البكر؟!
كانت «السفير» فجر 14 تموز 1984 صحيفة شابة تجتهد في أن تخدم قضية الحرية بالكلمة. صارت «السفير» جريدة الحرية، فضلاً عن كونها جريدة القضية.
الكلمة أقوى من الرصاص، والفكرة أقوى من المرتزق المستأجر لاغتيال إنسان لا يعرفه، ثم إنه لا يعرف القراءة بحيث يمكن الافتراض أن الكتابة قد استفزته فقرر إعدام الكاتب الذي يشوّه الحقيقة.
حياتك الآن تستحق أن تعاش.
رحلة تحت الآلة التي تقرأك
هيا، لا تتردد، ولا يأخذك الخجل إلى الارتباك: عليك أن ترقى إلى اللوح الخشبي الممتد تحت الآلة العملاقة ذات الجناحين المتحركين وأن تمد جسدك بين تلك «المخدة» ذات التضاريس والطرف الآخر للوح، مراعياً رفع الركبتين لتدس تحتهما تلك «الرافعة»، قبل أن يتولى الممرض تصحيح وضع القدمين بما يناسب المهمة.
تمدد براحة. لا أنت ترى الأشعة، ولا الأشعة تقرأ أفكارك.
تخجل من الممرضة التي تتعامل مع جسدك باعتباره حالة مرضية. هي تفصل بين اسمك وجسدك. أنت هنا المريض، أما في الخارج فلتكن لك الألقاب جميعاً.
صار وجهك مألوفاً لدى الممرضات والممرضين، لكنك هنا حالة.. واحد من المرضى الذين يجيئون صباحاً.
تدور الآلة العملاقة من فوقك. تجيء من الجانب الأيمن وتعبر بك نحو الجانب الأيسر، وعلى بطنها أرقام تحدد الدرجة: 90، 180، 270… والسقف فوقك، صورة مكبرة لفروع شجيرة ليمون، وفي الجانب الآخر صورة مكبرة لفرع من شجرة بزهور كثيرة تشابه البيلسان.
تنتهي النوبة حين يأتيك صوت الممرض: خلصنا! تمد الممرضة الشابة يدها تساعدك على النهوض. لا يلفتها عري بطنك وارتباكك وأنت تلملم ثيابك وخجلك. أنت بالنسبة إليها «واحد» من حالات عديدة تواجهها يومياً، قد لا تكون الأخطر… لا أنت هنا الرجل، ولا هي المرأة. أنت الضعيف، المتخوّف، المرتبك، وهي الممرضة المحترفة التي تترك مشاعرها عند المدخل، وتتحرك ممارسة دورها الطبيعي في رعاية المرضى الذين لا تعرفهم، وربما لا يهمها أن تعرفهم تفصيلياً حتى لا تطاردها صورهم إلى المقهى أو إلى البيت.
تتأمل الآلة الضخمة ذات الجناحين المتحركين التي تبث الأشعة.
تغرق في التفكير الساذج: هذه الآلة تكشف في جسدك ما لا تعرفه عنه.
ولكن، ماذا يعرف واحدنا عن جسده؟ وإلى أي حد يعتني الأهل بأن يعرف أولادهم ما يجب أن يعرفوه عن أجسادهم متحررين من عقدة الخجل أو الخوف؟
لا وقت للتفكير، هنا. هيا فغيرك من المرضى ينتظر، ولن تحل مشكلات التقدم العلمي والثقافة الطبية للناس بهذا التفكير الساذج.
تستذكر زيارة لصديق عربي كان يقيم في روما. لقد جاءك بكتاب القراءة الذي أعطته المدرسة الرسمية لأطفاله، وكانوا في الصفوف الابتدائية. كان الكتاب الذي تبدأ صفحاته الأولى بحكاية الخلق وتشرح ببساطة الفروق بين «الولد» و«البنت»، وكيف يلاحظ كل منهما التحولات التي تصيب جسده بأعضائه كافة… ثم ينتقل الشرح من الرسوم إلى الصور الفوتوغرافية للعلاقات الجنسية التي كفلت وتكفل استمرار الحياة.
… والآلة الضخمة تدور فوقك وتئز أزيزاً متقطعاً، غير مهتمة بحملقتك العبثية بحركتها الدائرية، بينما الأشعة تخترق جسدك لتعالج فيه ما استعصت معالجته بالأدوية.
أما أن تتعرف إلى جسدك فتعرفه حقاً، بتفاصيله، فهذا أمر سينتظر أجيالاً أخرى أعمق صلة بالعلم وأكثر عشقاً للحياة، وأكثر اهتماماً بالصحة… والقلب مركزها لأنه مصدر الحب ومرجعه.
من أقوال «نسمة»
قال لي «نسمة» الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ أتعبني حبي ففاضت سعادتي حتى نال أصدقائي نصيبهم منها. مع الحب تبلغ الحياة ذروة بهائها. أعجب ممن يناقشني في حبي من موقـــع المتفـــرج، أما الحـــسد فيزيدني عشقاً لحبيبي.
أن تكون عاشقاً يعني أن إنسانيتك قد اكتملت.