عن الشباب المهجّر والإعلام المزوّر ومأساة المثقفين
لا بد من وقفة أمام اعتماد تسمية هذه الفترة القلقة المقلقة التي تعيشها أمتنا بالربيع العربي، خصوصاً أننا لم نكن أصحاب الفصل في هذا التوصيف لمرحلة قاسية في تاريخنا الحديث، بل جاءنا جاهزاً واعتمدناه، ربما لتلهفنا إلى التغيير، أي تغيير يخرجنا من حالة الاختناق التي كانت تحاصرنا باليأس.
وواضح أن غياب الحركة الوطنية المؤهلة وذات الحضور الشعبي المتجذر في النضال، والمعززة ببرنامج للتغيير الشامل، قد مكّن قوى كامنة من أن تقفز إلى سدة السلطة في غفلة من شباب الميدان في أكثر من عاصمة عربية، باسم الثورة، فلما استتبّ لها الأمر واصلت حكم الطغيان الذي أسقطته الإرادة الشعبية، فإذا واشنطن هي المقصد، وإذا معاهدة الذل مع العدو الإسرائيلي تحظى بتأييد «العهد الجديد»، وإذا السلطة احتكار لرافعي الشعار الديني الذين نشأوا وتربوا على مبدأ أن العروبة هي الخروج على الدين ومنه، وهي الخطر الأعظم، بينما هي هي الوطنية، وهي هي التحرير والانتصار لإرادة الشعب باستعادة حقوقه في بلاده والتقدم في اتجاه غده الأفضل.
قد تبدو هذه الملاحظة من خارج السياق، ولكنها في صميمه، إذا ما كنا نتحدث عن الأمة جميعاً.. أما إذا حصرنا الحديث بدور الشباب في لبنان، فإننا لا نستطيع القفز من فوق حقيقة مؤلمة تتمثل في أننا نؤهل شبابنا للتصدير إلى حيث يبيعون علمهم وكفاءتهم لمن يوفر لهم فرصة العمل والرزق، لأن بلادهم، بأهل السلطة والنفوذ فيها، لا تحتاج إليهم، فتعاملهم وكأنهم فائض عن الحاجة.
^ نصدّر الغالي ونستورد الرخيص
بل لقد ساد في فترة من الزمن منطق استفزازي خلاصته: إن سياستنا الرشيدة تقوم على تصدير شبابنا المؤهّل بالكفاءة والعلم إلى حيث يستطيع أن يجني دخلاً ممتازاً تفيد منه بلاده، في حين نأتي بالعمال والخدم من البلاد الفقيرة وبأجور زهيدة، وهكذا نحقق فائضاً في الدخل القومي، من دون أن تتوقف دورة الإنتاج عندنا.
وفي مختلف الحالات، فالمؤكّد أننا نخسر كل يوم مزيداً من الكفاءات والشباب المؤهّل بالعلم لخدمة مجتمعه، إذ يتركون بلادهم التي يعجزها نظامها المعززة حمايته بالطبقة السياسية قصيرة النظر والتي لا تفكّر إلا بإدامة هيمنتها على الحاضر والمستقبل، والتي تخاف من جيل الشباب المعزز بالكرامة والكفاءة معاً، والتي تعرف جيداً أنه لا يقبلها ممثلاً له وعنه، فكيف بأن تتولى القيادة في الزمن الصعب.
إن كلاً منا يعرف عشرات الحالات والأمثلة عن شباب مميّز بالذكاء ومعزز بالعلم هجر البلاد التي لم توفر له الفرصة للمساهمة ببنائها…
إن الشباب غالباً ما يختارون ما يتناسب مع دخل الأهل، وهذا يجعل خيارهم محصوراً في الحقول التي يفترضون أن الحصول على فرصة عمل فيها سهل… وهكذا تتزايد أعداد المتخرجين العاطلين عن العمل، خصوصاً إذا ما انتبهنا إلى القيود التي باتت تفرضها معظم دول الخليج على المتخرجين، إذ تفضل اختيارهم بحسب طوائفهم ومذاهبهم لا على قاعدة اختصاصاتهم وأهليتهم.
وكثير من اللبنانيين، ومنهم بعض كبار المسؤولين يعتزون بالقول إننا نغزو العالم بأبنائنا المؤهلين، وينسون أن ذلك إنما يتم على حساب الوطن وشبابه الأمل في مستقبل أفضل.
أما بالنسبة إلى العقائد والأفكار والمبادئ السياسية، فإن الكثرة الغالبة من شبابنا الجديد يفضلون الانصراف إلى الدراسة و«الابتعاد عن المشاكل»، لأن صورة العمل السياسي قد تشوّهت بالتنظيمات الطائفية والطروحات المذهبية.
وفي حين كانت الجامعات وأخطرها الجامعة الوطنية الحاضنة الطبيعية للشباب الطامح إلى التغيير ومنشأ الأجيال الجديدة من المناضلين من أجل القضايا الوطنية والقومية، فإن نسبة كبرى من الطلاب تتجنب الآن الاقتراب من العمل السياسي بآفاقه الوطنية والقومية، في حين تقفز التنظيمات الطائفية والمذهبية لاستقطاب الطلاب بحسب انتماءاتهم الدينية.
وربما لهذا يصبح مشروعاً التساؤل الساذج التالي نصه: لماذا تبنون الجامعات الجديدة؟! أهل من أجل تصدير المزيد من شبابنا وقد تزوّدوا بالعلم ليخدموا مجتمعات غير مجتمعات أهلهم وينفعوا بعلمهم بلداناً غير بلدانهم، وقد تكون غير ودية تجاههم؟!
^ «إعلامنا» ليس لنا
أما عن الإعلام، فليُسمح لي بإطلاق صرخة تنبيه، بل إنذار، بأن أقوى المؤسسات العاملة في مجال الإعلام، صاحبة الفضائيات واسعة الانتشار والتأثير، وصاحبة المؤسسات الصحافية الباذخة والقادرة على استقطاب الصحافيين الواعدين بإنتاج مميّز والكتّاب المعروفين الذين تعبوا على تنمية معارفهم حتى غدوا من كبار المثقفين… هذه المؤسسات ليست لنا ولأمثالنا من فقراء العرب، أي أكثريتهم الساحقة في أقطارهم التي لا تملك الفرصة للحفاظ على أبنائها الأكفّاء والمبدعين المميّزين فيها… وهكذا، فإن دول النفط تصادر المستقبل، إضافة إلى القرار السياسي لمجموع الدول العربية، بعنوان جامعة الدول العربية، وذلك لأنها قادرة على استقطاب أصحاب الكفاءة والثقافة والمميزين في مجالات الإبداع، لكونها تملك أن تدفع البدل المجزي والمغري.
لم يعد بإمكان المؤسسات الصحافية في لبنان تحديداً، وفي أقطار عربية فقيرة عدة، أن تحتفظ بكادراتها المهنية المميزة في إنتاجها أو الواعدة بأن تضيف بأفكارها وخبراتها الديموقراطية وإرادة التغيير.
لقد شُرخت مجتمعاتنا، وصادرت الفكرَ والرأيَ القوى المعاديةُ للتغيير سواء بالشعار الديني أو بالمصالح المرتبطة بالخارج، وتواضعت قدرات المؤسسات الإعلامية ذات التوجه الوطني والقومي والتقدمي، على أن تتقدم نحو دورها المفترض في إنعاش روح التغيير وإرادة القوى الجديدة الطامحة إلى مستقبل أفضل.
إن الصحيفة القادرة بعد على الاستمرار في الصدور أقرب إلى الظاهرة التي تستحق الدراسة… فالدخل الطبيعي في لبنان كما في مختلف الدول الفقيرة، أقل من أن يوفر لها فرصة الاستمرار. ومَن يرفض الارتهان لنفوذ أصحاب المال، وهم حلفاء طبيعيون للأجنبي ويعملون في خدمة مصالحه، وأخطرها وأولها إسرائيل، لن يجد فرصة فعلية للاستمرار طويلاً في الصدور والانتشار، ومن ثم التأثير وممارسة الدور الريادي الذي يفترض أنه مؤهل لأدائه.
لم يعد لبنان المركز الإعلامي الأول. صار مجرد محطة تقوية وتغذية للمؤسسات الإعلامية: إخبارية سياسية، أو ترفيهية بالغناء أو بالرقص أو بالمسلسلات التركية، التي مركزها دبي، بالدرجة الأولى. ودبي التي احتلت الفضاء العربي هي مدينة كونية، العرب ضيوف فيها وعليها… أما الدوحة فأنتم تعرفون مثلي، وربما أكثر، خطورة الدور المشبوه الذي تلعبه الفضائية التي أطلقتها قبل خمس عشرة سنة، إن على المستوى السياسي، أو على المستوى الفكري، خصوصاً إذا ما انتبهنا إلى ميزانيتها المفتوحة وإلى قدرتها على الاستقطاب، في مرحلة الضياع وتعثر الفكر القومي وسقوط النماذج التي كانت ترفع راية التغيير ثم تعمل لمنعه.
لقد غدا الإعلام عموماً في أيدي قوى وأطراف خارجة من العروبة وعليها، معادية لإرادة التغيير وتحرير الإرادة، ولكنها قادرة على شراء الأفكار والأقلام والآراء بإمكاناتها غير المحدودة، وقدرتها على الإيحاء بأنها منابر حرة، مفيدة من الأسوار التي رفعتها أنظمة القمع في وجه إرادة التغيير في المجتمعات التي تحكمها، كما من تراجع الفكر القومي وسيادة منطق العولمة الذي يأخذنا بعيداً عن هويتنا وعن قضايانا المحقة، وفي الطليعة منها فلسطين.
ولعل في ما شهدناه من عمليات تزوير الهويات وتزييف الشعارات في سياق الترويج للربيع العربي ما يؤكّد خطورة الدور الذي يلعبه الإعلام الذي لم يعُد لنا، بل غالباً ما تنبّهنا إلى أنه يعتمد الاتجاه المعاكس لإرادة الأمة.
^ المثقفون: انتحاريون أو مرتزقة
أما المثقفون فأنواع شتى: بينهم مَن يقبض على جمر إيمانه بقضايا أمته وما بدّلوا تبديلاً، وهم قلة من المبدعين الذين رفضوا إغراء أن يبيعوا نتاج عقولهم لمن يدفع أكثر، وقرّروا أن يعيشوا على قاعدة أعطنا خبزنا كفاف يومنا… وبينهم من انتبه إلى أن الثقافة قد تكون الطريق السريع إلى الثروة، إذا ما تخفّف من أعباء النضال مغلّباً منطق: أأنا العاشق الوحيد لتلقى عليّ أعباء تحرير فلسطين ومكافحة الطائفية ومقاومة العنصرية؟ بينما الآخرون قد تسلّقوا جبل الثروة ولاقى إنتاجهم انتشاراً واسعاً وغدوا من المشاهير، يُطلبون ليكتبوا عن إنجازات الحكّام ـ شعراً ونثراً ـ أو العمل في تلميع صورة أنظمة النفط وإبداعات الأمراء والشيوخ والحاكمين الأبديين بالسيف مشفوعاً باسم الله.
ليس هذا حكماً مطلقاً على المثقفين جميعاً، فلا شك في أن بينهم مَن يجتهد ويبحث ويدقق ويثقف نفسه كي يعطي إنتاجاً مميزاً ومضيئاً في عصر الإظلام بالأمر السامي.
لكن المثقفين الذين قد يشكّلون طليعة لمجتمعهم يعيشون واقع بلادهم، يبشّرون مجتهدين بالغد الأفضل، ويحرّضون الناس على طلب الحرية والتقدم، ولكنهم ليسوا طوابير من الفدائيين أو الانتحاريين… فإذا ما سيطر الشعار الديني أو الحزب الواحد أو المنطق الطوائفي الذي يفتح باب الفرص للوجاهة، شعراً ونثراً، فلا يمكننا أن نطالب المثقفين بأن يذهبوا إلى الجهاد في حين نكتفي، نحن الجمهور، بالتصفيق والتهليل لهم، ثم نعود إلى منازلنا يدغدغنا الإحساس بأننا قد أدينا واجبنا وآن لنا أن نرتاح.
(مقتطفات من ندوة حول دور الشباب والإعلام والمثقفين نظمتها الجامعة اللبنانية الدولية).
يعقوب شدراوي يهديني ظله!
في آخر زيارة، أهداني يعقوب شدراوي ظله. همس بصوته الواهن: احفظه عندك. إن الناس يخلطون بينه وبيني فلا يعرفون الأصل.. كما أنه كثيراً ما يرفض مرافقتي. يقول إن الأرض لا تحتمل ظلاً لِطَيف.
نبر الظل: إنه يُلغيني. لقد نحَل حتى الذوبان. ولولا همساته المتقطعة لانتبه الناس إليّ ونسوا وجوده.
مدّ يعقوب يده التي تنفر الشرايين فيها من خلال عظم المرفق، فقال الظل: جئت مرافقاً لأحمل إليك كتابه الجديد. لم يعد بوسعه أن يحمل حتى ذكرياته. أنهكه الماضي بأحلامه السنية التي استدرّت الهتاف والتصفيق، وقتل عجزُ الحاضر مستقبلَهُ الذي كان يريده فوق الخشبة وليس داخل النعش. لم يتبقّ منه إلا إرادة الحياة تصارع قدر الغياب.
عاد شدراوي يهمس لي كلمات يقطعها اللهاث: هذا الكتاب عنوان صمودي. لست طانيوس شاهين، لكنني قاتلت أفضل منه. وكانت معاركي حقيقية وضد عدو يسكنني وينهش عقلي. وهكذا أنجزت فانتصرت.
وحين رافقته مودعاً الهيكل العظمي للمبدع فكراً وتشكيلاً كانت اللغة قد غادرته فقرأت في عينيه كلماته الأخيرة: المسرح! احموا المسرح!
توالت على لوحة الذاكرة المشاهد التي لا تغيب من مسرحيته الأولى، ثم من سائر المسرحيات التي أعطت حياته المعنى وجعلتنا أكثر اهتماماً بحياتنا التي يعطيها الإبداع قيمتها قبل أن يحميها الحب بمظلته التي من نور.
سوسن مرتضى تتمرّد على «السكت» شعراً
ضاقت ساحة الوردية بطوابير البعلبكيين الذين اكتسحوها بالشعر.
هجموا رجالاً ونساءً يتقدمهم حاديهم طلال حيدر وهم يهزجون وقد أخفوا سيوفهم احتراماً للشاعرة التي أعطتهم عنواناً جديداً للجدارة والتذوق الأدبي: «متل السكت».
الديوان الأول لصاحبة الذائقة الفنية المرهفة يتوجه بإهدائه «إلى كل مَن يلاحق حلمه مجازفاً، سواء أتحقق هذا الحلم أم لا…»، وهي تعترف أنها حين بدأت تكتب الشعر «منذ لا أدري متى فاجأت نفسي… أتت الكلمات إليّ، فكان حب من أول حرف! أتاني الشعر زائراً فأصبح هاجساً مقيماً… والشعر هواء، يفتش دوماً عن منفذ ليعبر منه ويملأ رئتي هذا العالم».
أما طلال حيدر فيتباهى باكتشافه، بالخطأ الهاتفي، هذه التي عيّنها تلميذة له: «للمرة الأولى تأتي امرأة ضيفة على الشعر باللغة المحكية. لا يستورد الشعر اللغة ليكتب بها، بل يكتب فتولد اللغة من جديد؛ إنها تغرف الحبر من محبرة السحر: أنا شاعرة! بين الشاعر والمجنون أحياناً يمّحي الزيح».
في الديوان قصائد بالمحكية عن الذي يسكت مثل السكت، وعن «حرف النون» الذي تحبه وعن «المارق بالبال الذي ليته دخل»، وعن الملل الذي يسرق لون السحر، وعن الصدفة دهشة المواعيد، وعن الذي لو كان عنده حب أو دفء لما كان يدور في ضوء الشمس بحثاً عن العتمة… أما بيروت الشط الأزرق والليل الأجمل فتتمنى لو أنها تنيرها بقنديل عتمتها، ثم «تطالبه بأن يترك لها سطراً لتضع نقطة عليه. متى يطلع زهر في جنينة الرمان حتى تكبر وتخرج من حبس ظله… وهي لا تريده أن يخرج من أبواب الصدفة وعيونه تضيء اللهفة فيتوقف الزمان».
لم يعترف طلال حيدر بالقسم الثاني من الديوان، لأنه تناول شاعرية سوسن التي تأتي في جميع اللغات التي ابتدعها الشاعر… «ولأنني من الأوائل أصحاب الرهان على الشعر باللغة المحكية، لغة الزمن الآتي».
سوسن مرتضى نشأت «في بيت يصدح في أرجائه صوت والدها مردداً قصائد قديمة مثلما تدندن الأغنيات، مسكونة بالكتب والموسيقى والعالم الفيروزي… وديوانها لا يشكّل بداية بقدر ما يشكّل تمرداً على «السكت»، وعلى ما كانته وما حلمت به».
تهويمات
1 ـ أنصرف عن الكتابة لأتعلّم الكتابة بالضوء. وحين تعجز عيناي عن تهجئة الكلمات يأتيني صوتك فيأخذني إلى الشعر.
… وها أنا أخط سطوراً متنافرة في الديوان السابع بعد الألف. لا يتسع الديوان الواحد لأكثر من تنهيدتين.
2 ـ يضيق صدره بالنساء العابرات إلى غيره. ويضيق وقته بالآتيات إليه بعد غيره.
تضيق به المغادرات بلا وداع وقد رمين عند عتبة الباب المجاملات التي تنحر مشاريع حب تاهت عن عناوينها الأصلية.
من أقوال نسمة
قال لي «نسمة» الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ لا ينقطع حوارك مع حبيبك حتى في غيابه. يسكنه الحب فيك، يصير داخلك. يشغلك التفكير بمسألة معقدة فيتدخل برأي أو مقترح. يأخذك الهمّ فيداهمك بطرفة… فإذا ذهبت إلى النوم سمعته يهمهم الترنيمة التي كانت تنشدها جدتك لتغفو هانئاً، «أو للا للا يا عيني… يا وردة في الجنينه».