صلاح ستيتية: اللغة لغيرنا… لكنك شاعرنا!
ما أروع أن ترتقي القمة مرتين، بالموهبة العربية والذائقة الفرنسية، أن تعيد صياغة ما رسب في الوجدان من التلاوة القرآنية بلغة غريبة عن المبنى والمعنى، فتجتاز حواجز الغربة وتوصلها إلى الآخر.
.. وأن تكتب بلغة اكتسبتها ما يعجزك التعبير عنه بلغتك الأم التي شربتها مع حليب الوالدة، وما يمكنك من أن تنعش بها وجدان الناس الذين أنت منهم والذين يحفظون لك التقدير والإعجاب، بل يفاخرون بك حتى وهم لا يستطيعون قراءة شعرك، وان استشفوا فيه روحك التي هي بعض روحهم، فلقد أوصلتهم إلى غيرهم وظللت عربياً حتى وفرنسا تنصبك أميراً للشعر.
ومفارقة هي أن نقرأ لك بالفرنسية فلا نستشعر الغربة بينما يأخذ شعرك الفرنسيين إلى النشوة والزهو بكسبهم هذه الموهبة المتفوقة على شعراء الفرنسية، والتي أضافت إلى ديوانهم الغني الوجدان الشرقي، الإسلامي العربي.
إن في البيان لسحراً… ومؤكد أن كثيراً من ذلك السحر يسري في لغة القرآن الكريم وفي صوره التي تقدم ـ بعيداً عن قداسة النص ـ لوحات رائعة يصعب ترجمة نفحة الشعر في صياغاتها إلا لمن ملك ذائقة مرهفة نمت وترعرعت في حضانة بيت للإيمان، ثم استثارها الشعور بالتميز والطفل العربي المسلم يُلحق ـ لوحده ـ بمدرسة فرنسية وفي صف تلامذته جميعاً من الفتيات.
ولأن اللبنانيين خاصة والعرب عامة لم ُيتح لهم أن يقرأوا صلاح ستيتية بلغتهم، لغته الأم، فلقد ظلوا يعرفون عنه، ويسمعون به كثيراً ويقرأون له القليل القليل معرّباً فيأخذهم الاعتزاز بابنهم البار، حتى لو حرمت ذائفتهم من التحليق مع شعره إلى حيث استطاع الطيران مزوداً بجناحين من قوس قزح.
أما أهل بيروت «خطيبة المشرق»… فقد استوطنوا بعض دواوين صلاح ستيتية وإن لم يستأذنهم، ثم أنهم لم يعرفوا أنهم قد أمدوا ابنهم بالكثير من الصور التي تحفل بها صفحات دواوينه… وإن كان هو لم ينس بيت الأهل الذي ولد فيه وقد بناه والده المفتش التربوي (الذي تسنى له كمدرس في الباروك ان يتعرف إلى رشيد نخلة وابنه المعزز بثقافته أمين نخلة وأن يحفظ عنهما الشعر)… ولذلك بقيت في ذاكرته صورة منطقة المقاصد ـ الطريق الجديدة وفيها البيت الذي حُملت إليه مواد البناء على الجمال – وبيروت ليست أكثر من سبعة أحياء بعدد أبواب السور وسكانها 9 آلاف نسمة.
على أن صلاح ستيتية قد طمأنهم مراراً إلى أن ابنهم لم يهجرهم ولم يبتعد عنهم موغلاً في النسيان، فكتب متباهياً:
«انتمي للأرض، ربما الأكثر أهمية في التاريخ، والتي أنجبت الأنبياء… نحن الإبراهيميين الذين شاهدوا ولادة الله».
الزميل ـ الأستاذ..
بين أسباب اعتزازي بصلاح ستيتية انه مارس، ولو لفترة، الصحافة التي اعتبرها بيتي وقد أمضيت فيها ومعها أكثر من ثلثي عمري… وصحيح أنه أنشأ الملحق الأدبي للزميلة «لوريان-لوجور» بالفرنسية، لكنها فرصة للادّعاء أننا «زملاء»!
على أن الأخطر أن صلاح ستيتية قد درسّني، وهو أمر قد لا تعرفونه مما يزيدني استمتاعاً بهذا الامتياز.
كان ذلك في منتصف الخمسينيات حين وفدت إلى بيروت، منفصلاً عن أسرة والدي الدركي كي التحق بالكلية العاملية.
وكان صلاح ستيتية يدرس صفوف البكالوريا آداب اللغة الفرنسية…
وقد تيسر لي أن أراقبه داخل الصف، ثم خاصة خارجه وهو يمشي داخل الباحة الداخلية للكلية وقد غامت عيناه الصغيرتان حتى لتحسبه من السائرين نياماً، بينما تتأرجح حقيبته السوداء الرقيقة باتساق مع خطواته…
ومن أسف أن تتلمذي عليه لم يستمر إلا لسنة واحدة، وإلا لكنت قد غلبته وتفوقت عليه شعراً ونثراً.
على أنني قد التقيت، بعد ثلاثين سنة، صلاح ستيتية وقد غدا أميناً عاماً للخارجية، في حكومة الرئيس الدكتور سليم الحص، في زمن انشقاق الدولة دولتين وحكومتين وجيشين لشعب صيّر شعبين وها هو الآن يكاد أن يكون شعوباً شتى.
ما علينا والماضي وجراحه الغائرة، ولنعد إلى حكاية اللقاء الثاني مع صلاح ستيتية، الأمين العام للخارجية، وبين الصحافي الذي كان تلميذه وما زال يتمنى لو أنه بعدُ تلميذه.
ذهبت إلى موعد مع الرئيس سليم الحص، في منزله الذي لجأ إليه حين تعذر وصول صاحب الدولة إلى الدوحة، وما زال ضيفاً عليه حتى اليوم. وبينما أهم بقرع الجرس انفتح الباب وإذا عنده الرئيس وزير الخارجية سليم الحص وقد مشى مودعاً الأمين العام صلاح ستيتية.
استبق شاعرنا ترحيب الرئيس الحص بأن قال:
– أتعرف، دولة الرئيس، أنني قد علمت طلال…
وسأل الرئيس الحص: وماذا علمته؟
قال صلاح ستيتيتة: آداب اللغة الفرنسية…
وسرت ضحكة عريضة والرئيس الحص يقول: لهذا لمع طلال ككاتب باللغة العربية.
ترجموا قصائده رسماً ونحتاً
بعد ذلك صارت لقاءاتنا متقطعة، متباعدة، وإن أسعدني أن التقي شقيقه عاصم ستيتية الذي يكتب نثراً طريفاً، وبلغة تنضح سخرية، وتنشر له «السفير» بعض كتاباته، لا كلها لذلك اعتبر نفسه «من المحرومين».
… ولقد خذلتني، يا معلمي، فتخليت عني وأجنحتي زغب، فلا أنا أستطيع التحليق إلى حيث رفعتك القصيدة، ولا أنا اقبل أن اقبع في عجزي مكتفياً بأن أهز رأسي طرباً لموسيقى شعرك مستمعاً إليه بقلبي لا بأذني التي لما تأتلف مع لغة راسين ولا فونتين وفيكتور هيغو وما يزال يسكنها مجنون ليلى وجرير والمتنبي وأحمد شوقي والأخطل الصغير وصديقا أبيك رشيد نخله وأمين نخله، وتجمع بين الأخطلين.
لقد وقفت بي على باب عالمك المن سحر، وانطلقت محلقاً في فضاء النشوة، نساؤك من قوس قزح، تجاور أطياف الأنبياء وتستولد وتصطنع من الرؤى صوراً سحرية لم يرها غيرك وإن قاربها عباقرة الريشة واللون، ولذلك سعيت إليها تستقرئ بذائقتك المرهفة ما أبدعوا رسماً ونحتاً، مفترضاً أنهم قد ترجموا بإحساسهم – قصائدك التي لما تقلها، وأودعوا بعض أرواحهم في أصابع الإبداع المؤهلة لصياغة الإحساس بمهرجان الألوان.
ولقد ذهبت إلى قراءتها بروحك وخلفتني أحاور جنون الرسامين والنحاتين الذين يرفضون ان يناقشهم إلا من هام في عالم الدهشة، يقرأ ما بين الخطوط ويفك رموز التزاوج والتضاد بين الألوان والظلال التي تستولد القصيدة.
كيف استطعت، أيها البيروتي العتيق، المشبعة أذنه بأصداء الآذان والذي يسكن قلبه في لغة القرآن الكريم، أن تسحب معك إلى عالم الفرنجة تلك الذائقة المرهفة التي تعيد صياغة الكلمات موسيقى، والتي تترجم الإيمان عشقاً للحياة وأبناء الحياة … وبناتها ايضاً.
لقد تجاوزت ذاتك ألف مرة، وأنت تحيل المعنى موسيقى، ثم ترتقي بالموسيقى لتصير تهويمات روحية، قبل أن تهبط بها، كرة أخرى، إلى الورق لتشعل فيه حرائق لا يطفئها إلا الهمس الحميم والاعترافات المتأخرة بأننا نستحق الحياة.
كل كتابة تولد من صمت… فويل لمحترفي الثرثرة الذين يملأون أفقنا ضجيجاً فنعجز عن الكتابة، فيكف بالشعر؟
لقد بدأت جولتك في مهرجان الأفكار باللون في بيروت، وقرأت في لوحات الفنان التائه عمر الأنسي، الذي توزع إبداعاته الأثرياء ووجهاء الثقافة، ثم قرأت في كتب قيصر الجميل وصليبا الدويهي ومصطفى فروخ.. واكتشفت بول غيراغوسيان وصوفي برميان وخليل زغيب وشوقي شوكيني وشفيق عبود. ولقد توغلت في أرواح الفنانين وترجماتهم لأخيلتهم.. ثم توسعت ذائقتك عبر تجوالك الدائم بين هؤلاء العباقرة الذين يستغنون عن الكلام ليملأوا الآفاق بقصائد الألوان التي تجعلهم كالسحرة، يلامسون الخشبة بريشات قد تزمجر غضباً، وقد تنساق نهراً من البهجة، قد تنتقم فتجمل البشاعة، وقد تفرح فتزرع في عيوننا نجوماً أفلتت من السماء فخلقت كوناً من البريق يغني أشعارهم مواويل نشوة، وقد تغضب فتطلق البراكين حِمماً تزرع في العيون رعباً ينتقل بالعدوى إلى المشاهد الذي جاء للمتعة فيعود فيلسوفاً.
شاعر الغربتين..
أيها المعلم الذي هرب منا ولم يخرج علينا.
لم تأخذك اللغة الأخرى من هويتك، ولم يُسحرك العالم الجميل الذي سكنته وسكنك فينسيك اهلك وقضاياهم. لم تقطع بالغضب من عجزنا وهزائمنا صلة الرحم بالعروبة، ولم تنكر هويتك ولا أنت أنكرت ذاتك ولا قطعت جذورك وأنت تسمح لنفسك بأن تغتني أعماقك بالتيارات الفكرية والسياسية العالمية.
وما زلت بالنسبة الينا مناضلاً بقلمه وفكره وجهدك الدبلوماسي الذي بذلت خلال عقود عملك في الخارجية، ومن قبل في اليونسكو، لا سيما نضالك من اجل استعادة الممتلكات الثقافية التي نهبت من بلداننا كما من سائر دول العالم الثالث في عصور الاستعمار..
ترى هل تراها انتهت تلك العصورأم هي عائدة بصيغ حديثة يمكن ان نضع لها كعنوان: الاستعمار بالطلب، وربما بالرجاء والاستعطاف والتذلل؟
أيها الذي يكتب وينسى ثم يكتب وينسى او يتناسى: إننا لا ننسى لك انك قد ناضلت طويلاً- مع أبناء بررة بأمتهم مثلك- حتى تم اعتماد العربية لغة رسمية…
هل أتت بقية القصيدة، أيها الذي قد يبقى بيت من الشعر في ذاكرته شهوراً طويلة، في انتظار اكتمال المعنى؟
أيها المعلم الذي صار صديقاً
يا شاعر الغربتين،
ليس أمتع من أن تسمح لك الظروف بأن تصير صديق أستاذك.
أن يُضاف إلى الاحترام الود، وأن يحل محل التهيب الإعجاب والتقدير، وأن تكتمل صورة المعلم الذي لم يقدر لك أن تقرأه، من قبل، إلا في عينيه الغائميتن. خصوصاً أننا لم نكن نعرف، ونحن فتية، أن في جيبه علبة كبريت، وفي رأسه آلاف الحرائق..
كما أننا لم نعرف إلا منه أن العين تأكل والأذن تشرب،
ولا أن الحياة تحيا والموت يحيا أيضاً، والموت يربح في الحالتين. لكنني واحد ممن يطمعون لأن أكون بين من يحبهم، أولئك الذين يحتجزون في نفوسهم وردة.
ولقد تعلمنا من صلاح ستيتية أن جنون الحكيم حكمته، وأن عليك أن تفكر بداية بذاتك، وبعد ذلك يأتي الذكاء ليرتب الأفكار.
ولسنا نجرؤ أن نسأل الإله، كما سأله: ماذا تفعل؟ فقال: كلمات متقاطعة.
كذلك فلست مثل صلاح ستيتية الذي في جيبه علبة كبريت وفي رأسه آلاف الحرائق، والذي يرى أن الجدران هي دفاتر المجانين.
[[[
لن تضيف كلماتي إلى صلاح ستيتية، ولكنها ستضيف إليّ، إذ ستشعرني بالاعتزاز وفرح التباهي أنني درست عليه.
لقد كان، كأستاذ، بعيداً عني، أما الشاعر فقد توغل في وجداني وفتح أمامي أبواب عوالم سحرية بالقنديل الغامض فرأيت انعكاس الشجرة والصمت وتعرفت إلى الراعي الأعمى، وتجولت في فردوسه، واستمعت إلى المرأة القارئة، وحزنت على موت النحلة، وأخذتني حملة النار إلى الماء البارد والمحروس.
ويبقى أن أتمنى لشاعرنا الكبير إكمال ديوان حياته وهو يحمل الوردة والألف شمس.
مع خالص تقديري للجامعة اللبنانية برئيسها والعمداء والمشاركين في هذا الحفل الذي نعتبره تكريما للمبدع الذي أضاف إلى رصيد لبنان والعرب، وها هو يضيف إلينا جميعاً بحضوره معنا، وبشعره الذي لم نقرأه جيداً وما قرأناه منه نحاول أن نفهمه فتصعب المهمة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(نص الكلمة في تكريم الشاعر صلاح ستيتيه ـ في الجامعة اللبنانية)
[[[
بعد إلقاء الكلمة تناول صلاح ستيتيه المذياع وألقى كلمة مؤثرة تجاوز فيها الشكر إلى تقديم الوسام المذهب إذ قال: أعتز بأنني كنت أستاذ طلال سلمان، في الماضي.. وأعتز أكثر بأنه قد غدا الآن أستاذي.
وكانت تلك أجمل قصيدة سمعتها.
من أقوال نسمة
قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ افتح قلبك على مصراعيه. لا تخف من الازدحام أمامه أو فيه. سيعرف كل مكانه، وسيخرج من جاء فضولاً أو بدافع الغيرة أو للتباهي بأنه قد غلبك فأقتحمك عنوة.
حبيــبي أرق مــن أن يدانيــه أحــد فــي وهجـــه، وأعظــم ثقــة بنفــسه مــن أن يشــابه غــيره، وقلــبي هــو الحكــم، وهـــو لا يســـــمع إلا صـــدى دقاتـــه حـــين تتســـارع لهـــفة… إليــــه بالـــذات.