طلال سلمان

هوامش

أشجان مسافر في عباب الهمس الحميم!

دخل عليه الصديق العائد من سفر طويل امتدت رحلاته بين القارات عبر محيطات الظلمة والخوف والانبهار بقدرة الإنسان على اختراق الزمن والمدى. قال وهو يرميه بنظرة يختلط فيها الغضب بشيء من الإشفاق:
ـ قم إلى الحياة أيها الجبان. هيا انهض واتبع نداء الشوق إلى المعرفة. اخترق الضوء والعتمة فتمسك بأحلامك وتعيد غزلها برغبتك. ماذا تفعل هنا؟ تنثر الكلمات في قلب الوهم فيمّحي المعنى ولا يتحقق الرجاء. حتامَ تعيش على هامش الحياة، تطلق صيحاتك الغاضبة في وجه من لا يسمعون، وتوجه النداءات الحارة إلى من لا يقرأون، فإذا قرأوا لم يعوا، إذا وعوا لم يقدروا، وإذا قدروا امتنعوا خوفاً من ان تذهب الغنائم إلى غيرهم.
ظل صامتاً وقد عقدت الدهشة لسانه من الفصاحة المستجدة في لغة صديقه الذي اكتشف «في الاسفار سبع فوائد»… وانتبه إلى تغييرات ملحوظة في قيافة هذا الذي كان يرى الحياة مجموعة من التفاصيل.
عاد الصديق يقول كمن يحدث نفسه:
ـ ان للسفر سحر الشعر. انه يفجر ينابيع الدهشة. انه يوسع حدقات العيون فيغنيها بالأساطير وقد فُكت رموزها. انه يكشف ما خفيَ عليك من جماليات الحياة، يفضح خزين الذاكرة فإذا أنت لا تعرف إلا القليل القليل عن هذا العالم الفسيح وهائل الغنى. لسوف تخترق أساطير الماضي، وتنفتح عيناك على مهجع الأحلام السنية التي ستصير وقائع حياة الأجيال الآتية. تتصاغر معارفك وتعود تلميذاً يتأتئ حروف أبجدية الزمان الآتي.
استفزه حديث الصديق فقرر ان يشارك في موضوعه:
ـ وستقول لي إن الجبال التي لم تطأها أقدام المغامرين سوف تتصاغر، وانك شعرت بالزهو وأنت تمرق من فوقها متغافلاً عن حقيقة انك لست إلا عابراً آخر بين أفواج المغامرين الذين عبروها، فاختفوا وثبتت بكبرياء أمام تحدي الإنسان الذي يستعير لنفسه صفات مبدعها، ويفترض في نفسه القدرة على إعادة صوغ الكون، بالزمان والمكان والفضاءات التي قبلته ضيفاً عابراً في زمان عابر.
عاد الصديق العائد من عالم الأحلام يقول وقد رقت لهجته:
ـ تلمح في الثلج أطياف عشاق هربوا إليه ليمنحوه دفء الحضور الإنساني النبيل فأشعلوا أطرافه حتى ذابت لتوسع لهم خيمة لاحتضان لهفة اللقاء. تقرأ بدايات قصص لمّا تكتمل. تلمح أخيلة من يسكنون ذاكرتك وقد اندفعوا إليه يكتبون على صفحات بياضه أسرارهم التي لن يتمكن من تهجئتها إلا من برعوا في فك رموز الأسرار التي انطبعت على أعلى قمة متحدية من يدّعون القدرة السحرية على فك الطلاسم ان يقرأوا الشعر المجنح الذي يعيد نظم التلال والأودية والقمم الشاهقة لوحات تحمل وجه من أحببت.
قال: يجبرني القهر على الاعتراف.. لن أستطيع إلى الطيران سبيلاً. لقد تمزقت أشرعتي… اسمع رفيف الأجنحة تملأ الأفق، وأحاول اتباع الظل الطائر فيعجزني بصري. لا بد من التخلي عن أحلام الطيران. يكفيني ان أتابع بمخيلتي صور من أحببت يحلقون فيخترقون المحيطات، ويأخذني غياب الشمس إلى النوم في انتظار فجر آخر من التعب، بينما يستدرجني الليل إلى واحة الشعر، وأرصف النجوم التي ترمق المشهد بعيونها الناعسة قصائد لن تُكتب لكن قارئها الذي تعلم تهجئة الأحلام سيترجمها غناءً شجياً.
قال الصديق: ها قد استدرجتك إلى أفياء اللغة التي هجرت. السياسة تغتال اللغة. السياسة قاتلة الشعر. السياسة تسفح دم الحب. هيا، عد إلى خيمتك أيها البدوي الذي يتجاوز الفضاءات جميعاً وهو يتبع «شميم عرار نجد»، مع انه ينتظر «ما بعد العشية»، وما خلف المحيطات وما فوق القمم التي لم تطأها أقدام الذين أمضوا أعمارهم خارج الشعر.
رن جرس الهاتف فقام الصديق لينصرف، وعند الباب وقف لحظة ليقول في ما يشبه الاعتراف: ـ بعد كل ما قلت، وبعد كل ما سمعت، لا بد من الاعتراف انني أحسدك. أنا أدور الأرض وأجوب الفضاء لعلي اسمع همسة فيها شجن ناي عتيق، وأنت هنا غارق في الشجن. هيا، أجبها، لا تدعها تنتظر أكثر وإلا احترقت أنا في صحراء الحسد.

المغني يشتري بربابه وقتاً إضافياً للحب

حين دخل إليهم بالمغني الشاب وسيم الطلعة، خالجه شيء من القلق: وماذا لو رأته نساء الحفل جميلاً فملن إليه، ثم عشقنه بعد ان يهزهن الطرب؟
تقدمت منه تلك التي يخشى ان ينظرها في عينيها، حتى لا تنكشف حكاية عشقهما… اقتربت حتى حاذته لتهمس في أذنه: اشتقنا. لا تغب عني لحظة، واحدة!
عادت إليه ثقته بنفسه. لن يهزمه هذا الضيف الطارئ. وقف في منتصف الحلقة، بوصفه القائد وأخذ يوزع الساهرين والساهرات على المقاعد التي تراصت في القاعة مفتوحة القلب على قاعة الطعام وغرفة الجلوس، واختار ان يجلس قريباً من المغني، توكيداً للثقة بقدرته على بث الطرب حتى حدود النشوة في جمهور سامعيه.
همس له المطرب الشاب الذي بهرته النساء: أهذا حريمك؟
ضحك بمرح طفل عثر على ألعاب غالية لا تمكنه قروشه المعدودة من شرائها: هذه فرصتك! ان أنت أطربتهن دخلت نعيمهن، غنِّ وكأنك تغني لأحب الناس إليك. كأنك تغني لها بالذات…
وغمز بعينه فاتسعت ابتسامة المطرب وزادته وسامة.
أخرج الشاب ربابته من جرابها العتيق، ونظر إليه الجميع وكأنه ساحر سيبدأ في مداعبة أفعاه.
سرى النغم عريضاً ثم أخذ يرق ويرق حتى كاد يذوب، وعندها أخذ الصوت الشجي يخالط النغم ويرتفع معه إلى ان طغى عليه.
ساد الصمت والجمع يستمع إلى لون جديد من الغناء نادراً ما سمعه، فانتبه إلى ما فيه من شجن أو إلى ما في كلماته من دلالات الاحتراق في جحيم الجب الذي لا يعرف الرقة إلا مشفوعة بالعذاب أو الغياب.
صرخت واحدة من السيدات: احملنا إلى الفرح. نحن غارقون في الحزن، ونشتهي ان نسمع ما ينعشنا.
قال المطرب من قلب خجله: ولكن الحزن هو ذروة الطرب. مع الفرح نعيش نشوة، عابرة، أما مع الحزن فنحن نسافر إلى حيث نشتهي ان نكون وتطول أمامنا الطريق.
سألته: وهل تعيش في قلب الحزن؟
قال بتردد: الحزن يعلمنا فرح الحياة…
قالت: هل يمكن ان نعبر بسرعة إلى حيث تليق بنا الحياة؟
ترك للربابة ان تعبر الحزن إلى الفرح قبل ان يهدر صوته مثقلاً بالاعتداد بالرجولة، ثم أخذ يرق ويرق حتى نزفت العيون دموعها. توقف عند الذروة ليقول: حان وقت الدبكة. فإن لم تعرفوها فهيا إلى الرقص.
بدّل النغمات فإذا الكل يتمايلون طرباً، وإذا النساء يندفعن إلى الحلبة وكل تحاول استدعاء رجلها. وكان مثل المطرب بلا رفيقة، ربما لهذا صار محور طلبات الراقصات.
طال السهر، وغرق الجميع في خدر النشوة
وحين قاما للانصراف لفته المطرب إلى التنهدات التي رُشقا بها عند الوداع. وقال: لو ان الأمر لي لظللت أغني حتى الصباح. في مثل هذا الجو يطيب الغناء.. حتى ربابتي كانت ترقص بين يدي…
كان غارقاً في نشوته فلم يعلق، فعاد المطرب يقول: لقد طلبت إلي ثلاث من حريمك ان أعلمهن الدبكة.. هل لديك اعتراض؟
ابتسم في سره، وهو يهز رأسه موافقاً: لقد نجحت الخطة، وصار للعشق مواعيد إضافية. أف… من أين يأتي الوقت؟

الحب بالأمر… والنهاية السعيدة!
جاء الموظف الساذج برغم أقدميته، إلى السيدة ربة المنزل التي طلبته لأمر تريده فيه: قال: سمعاً وطاعة.
قالت بحدة: لا أريد السمع ولا الطاعة. أريدك ان تنظرني… فإذا نظرتني فاخبرني هل تراني جميلة؟
عقد الخوف لسانه فهز رأسه وهو يهمهم بـ«نعم» مقطعة.
قالت: هل تراني، ولا بأس من الصراحة، استثير الرجال؟ أقصد، هل تعتبرني مغرية؟
بلع ريقه بصعوبة، وتأتأ بما يمكن اعتباره «نعم»!
صرخت فيه: وكيف تبدي رأياً في من لا تراه؟! انظرني أولاً، تأملني.. انظر في عيني، تطلع في وجهي، ثم تأمل جسدي بانسيابه والتعرجات فيه…
همهم.. فعادت تكمل استجوابه: وهل أعجبك؟
لم يحر جواباً. قالت: وماذا يعجبك فيّ؟ أين تراني جميلة؟ أين مكامن الجمال فيّ؟ ما أكثر ما يثيرك كرجل؟
أدرك انه قد وقع في الفخ، وانه مطرود لا محالة.
فكر: اما وأنها تستدرجه فليقل رأيه بصراحة ورزقه على الله، فهو مطرود، مطرود… التفت يتأملها ليتأكد، مرة أخرى، من صحة أحكامه، وتنفس بعمق قبل أن يهمس: لم أعرفك أبداً. كنت أرى صورتك، وأنت أنيقة وسيدة قادرة.
قالت: ألم تر فيَّ الأنثى؟! هل لفتتك عيناي؟ هل أغواك صدري؟! هل تنهدت وأنا أعبر بك وأمضي بعيداً، وكأنك تشتهي ان تضمني؟
أحس بالعرق يغمر وجهه. لم يتنهد لمشهدها مطلقاً. كان نفسه يضيق ويتمنى ان ينتهي اللقاء، إذا ما استدعته، بأسرع ما يمكن وبأقل الخسائر، قال:
ـ سيدتي، اما ان أحبك فهذا أمر لا أجرؤ على التفكير فيه؟
نبرت: ولماذا؟ ألست أهلاً لحبك؟
رد بسرعة: ولكنني كنت أود ان أطرح عليك السؤال ذاته؟ أحفظ كلمات مأثورة مفادها ان المسافة بعيدة بين ما ترى في نفسك وما يراه الآخرون. ولست أعرف كيف ترينني؟ أما أنا فصعب عليّ ان أتحرر من كونك ربة عملي…؟ ولذلك لم أجرؤ مرة على النظر إليك.. انني أكاد لا أعرف لون عينيك، فكيف أصف ما دونهما.
زفرت بحنق: وكيف السبيل إلى تحريرك؟ هل أدخل عليك مكتبك فآخذك من يدك إلى سريري؟
صمت وصمتت. التفتت إليه فوجدته ينظرها وكأنه يراها لأول مرة. قالت ضاحكة: هل تأتي معي لو طلبت؟
وذابت كلماته في العرق الذي غمر وجهه وعينيه حتى كاد يضيع يدها التي امتدت لترشده إلى الطريق.
بعد لقاء ثالث اعتبره الاكثر إمتاعاً، سألها بفضول: وكيف ترضين عشاقك الكثر؟
قالت بنبرة ساخرة: ومن قال ‘نني أحاول أو أريد ان أرضيهم. لقد جاءوا بشروطي، وبشروطي يبقى من أريد، ويختفي من أريد. لست هنا لأرضي أحداً. أنا مصدر الرضا، ان وافقت غرقوا في السعادة حتى الأذنين، وان رفضت غرقوا في الحزن يطلبون كلمة تسرّي عنهم وتطمئنهم إلى غدهم معي. وغدي صناعة يدوية، كما تعرف، ويدي تعمل بمزاجي، فإن رضيت استكانت، وإن استنكفت حولت اللقاء إلى جحيم.
بعد أسبوعين لاحظ زملاؤه أنه قد بدأ يعتني بمظهره، وانه يمضي معظم الوقت في مكتبها.. ثم انتبهوا إلى ان أسلوبه في الحديث إليهم قد اكتسى نبرة أمر غير مألوفة منه.
أما بعد شهر فقد لاحظوا انه يمضي الوقت زائغ العينين، وان هاتفه قد كف عن الرنين، وأن مشاويره من مكتبه إلى مكتبها قد تناقصت، وانه حين يخرج من لدنها يتبدى وكأنه يحبس غضباً مكتوماً.
أما مع نهاية الشهر الثاني فقد وصلت إلى مختلف العاملين رسالة من «الإدارة» تبلغهم ان زميلهم الذي كان أعلاهم رتبة وأقدمهم في المؤسسة «قد تقدم باستقالته لأسباب خاصة فقبلت مع تمني التوفيق له في العمل الجديد الذي يرى نفسه أهلاً له».

من أقوال نسمة
قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ يغيب حبيبي فلا يغيب. يطاردني ظله حيثما ذهبت، وأسمع صدى صوته فيأخذني ممن يحدثني، وأعاتبه فيسألني عن السبب وهو عندي…
لا سبيل للهرب. لا سبيل للخلاص. لا سبيل يأخذ إلى غيره. أيكفي هذا عذراً لكي أغرق في التيه بينه وبين طيفه، بين صوته والصدى، بين الوقت الضائع قبله والضياع في الوقت معه وبعده؟

Exit mobile version