الحراك الشعبي العربي: بعد الانتفاضة، قبل الثورة
نقف جميعاً، في حضرة السؤال، بل الأسئلة المتوالدة من ذاتها في ظل تفجرات الحراك الشعبي العربي والتي توالت لتشمل تقريباً أقطار الوطن العربي بمجملها، مشرقاً ومغرباً، وان تفاوتت إنجازاتها بين قطر وآخر.
لنعترف، بداية، بأن أحداً منا لا يستطيع الادعاء انه كان يعرف، برغم أننا جميعاً كنا نسافر مع التمني إلى افتراض سقوط أنظمة القمع والعسف والديكتاتورية.. وكنا نستهجن ان تمر السنون على أنظمة متهالكة، سياسيا، حيث لا دور عربياً أو دولياً إلا عبر التفريط بحقوق الأوطان والشعوب، اقتصادياً – اجتماعياً، بشهادة عجزها عن تلبية الحد الأدنى من احتياجات شعبها، فتستمر ويدوم ظلها وتتباهى باستقرارها الأمني تحت وطأة أجهزتها البوليسية التي كثيراً ما اتسمت بالوحشية.
كذلك، فنحن في زمن الأسئلة عن الغد. ولا أعتقد ان الأكثرية الساحقة منا تعرف الأجوبة: الى أين من هنا في مصر، في تونس، في ليبيا، في اليمن، في المغرب… ثم السؤال المخيف الذي نهرب من طرحه على أنفسنا لأننا نتهيب الإجابة المفجعة: الى أين سوريا، ونحن فيها، سواء أكان موقفنا معارضاً أم معترضاً على استمرار نظامها أم مؤيداً بشيء من التحفظ وبداعي الخوف على البلاد التي نكاد نكون منها وتكاد تكون فينا.
لقد أسقطت ثورة الميدان أنظمة كنا نتمنى سقوطها.. لكن مَن أتى بديلاً لم يكن من نأمل بوصوله، هذا إذا ما سلمنا جدلاً بأننا كنا نعرف ما يكفي حول البديل المحتمل، فضلاً عن أن يكون لنا حق الاختيار.
كنا نعيش بذاكرتنا في الماضي ولا نعرف ما يكفي عن الحاضر.
وعت الأجيال الجديدة في معظم أنحاء الوطن العربي على أنظمة عاتية يتراوح توصيفها بين الخالدة والأبدية، لا فرق بين الملكي منها والجمهوري، أو لا حدود بين الأحزاب الحاكمة وأجهزة المخابرات، والكل يحكم بالأمن أساساً، وبالدولار استثناء في دول النفط حيث لا حساب ولا من يضبط وجوه إنفاق الثروة الوطنية.
هل نظلم أنفسنا إذا ما اعترفنا بأننا قد استهلكنا قضايانا المقدسة فلم نستطع أن نقدمها لأبنائنا بوهجها الوطني والقومي الذي أخذنا ذات يوم الى الكفاح بالسلاح، فضلاً عن التظاهر والإضراب والاعتصام؟
على المستوى القومي: دمرت الأنظمة التي وصلت بشعارات الثورة وتحرير فلسطين وتحقيق العدالة الاجتماعية هذه المطالب التي تبدّت لنا في شبابنا أنها في مدى الذراع، وان ظلت إذاعاتها وصحفها ومنابر الخطابة ترددها، لمناسبة أو من دون مناسبة، حتى مل الناس سماعها، وذهب الخطاب بأصل الموضوع.
^ أين فلسطين؟ أين القضية؟
أين فلسطين من لغة أبنائنا؟ إننا نكاد نختلف، الآن، على مقاومة الاحتلال الإسرائيلي لتحرير أرضنا الوطنية المحتلة. فمن يهتم بفلسطين؟
أين الوطن في لغة أبنائنا؟.. لقد استهلكناه فلم نترك لهم إلا أشلاءه تتوزعها أحزاب الطوائف والمذاهب، وننزوي نحن في أحلامنا المجهضة وفي ذكريات أيام النضال التي تتبدى وكأنها أساطير، لا يكاد يصدقها الأبناء فإن صدقوها زاد لومهم لنا وحاسبونا على أننا لم نترك لهم ما يخسرونه. لقد تركناهم تائهين، بلا قضية، وليس من حقنا أن نلومهم اذا ما انصرفوا الى هواياتهم بعيداً عن العمل السياسي، واذا ما انبهروا بإنجازات التقدم الإنساني التي تلغي الحدود بين الأوطان، ولعلها تلغي الأوطان ذاتها عبر لغتها الكونية الجديدة التي لا تعترف بالهويات الوطنية والقومية ولا تميز بين الأعراق والأجناس فضلاً عن الأديان والطوائف والمذاهب.
في مصر مثلاً كنا نتجاوز عهد حسني مبارك كله مفترضين ان المعركة ما زالت مفتوحة بين نهجي جمال عبد الناصر وأنور السادات.
وكانت تقديراتنا وتحليلاتنا أقرب الى التمني منها الى قراءة الواقع.
كنا نقول: ان حركة مصر بطيئة، ولكنها متى تحركت فإن موجة التغيير ستأتي فتجرف النظام جميعا.
لكننا لم نكن ننتبه الى ان عهد مبارك قد امتد ثلاثين سنة طويلة، وان من كنا نعرفهم قد مات معظمهم، وان أجيالاً جديدة قد نشأت بمفاهيم جديدة وطموحات مختلفة، وانها ليست بالضرورة امتداداً لمن سبق، بل انها لا تعرف ذاتها ولا تعرف ما تريد، بالتحديد، لأنها نشأت خارج السياسة.. فلا هي عرفت الشارع، ولا الشارع قد عرفها… بل انها لم تعرف الأحزاب والعمل الحزبي.. هذا إذا ما تجاهلنا ان الأحزاب القائلة بالتغيير قد دمرتها السلطة بالعسف أو باسترهانها فصارت من الماضي وفيه.
فالسلطة في الوطن العربي عموماً لم تكن تقبل الاعتراض بل تراه تآمرا وخيانة للوطن والأمة.
[[[
^ إسلاميون في كل مكان
لقد عشنا أياما طويلة مسمرين أمام شاشات التلفزيون نتابع تفجرات الميادين بالغضب ورفض الأنظمة القائمة… وشهدنا تهاوي أنظمة العسف بفرح غامر، ثم استفقنا، فجأة، الى ان حركة التغيير تتخذ مساراً غير الذي كنا نتمناه ونفترضه حتمياً.
أسقط الميدان في القاهرة حسني مبارك، لكن الجسر بين عهد الطغيان ورئاسة الإخوان المسلمين كان صناعة أميركية.
وبرغم إحساسنا بالفجيعة ونحن نقرأ رسالة الرئيس الجديد الدكتور محمد مرسي الى رئيس الكيان الصهيوني والتي حملها ثم أكملها سفيره الجديد فليس من حقنا أن نستغرب، لان ثورة الميدان التي كانت بلا قيادة وبلا برنامج قد عجزت عن إلحاق الهزيمة بالتنظيم الوحيد الذي كان حاضراً ومؤهلاً للوراثة. وهذا لا يعني ان المعركة قد انتهت، ولكنها أكثر تعقيداً وصعوبة مما توقعنا.
إن المعركة من أجل التغيير لا تزال مفتوحة، ولها في كل يوم جولة جديدة، وعراقة الدولة تلعب دوراً ايجابيا في هذا المجال، وأبرز مثال هو معركة النائب العام الذي خلعه الرئيس ثم ثبته القضاء، فضلاً عن مواجهة المحكمة الدستورية العليا للرئيس وإجباره على التراجع.
أما في تونس فقد هبط الإخوان بالمظلات، عائدين بقياداتهم من الخارج، وسرعان ما تحالفوا مع السلفيين وحاولوا استرضاء بعض فصائل العمل الوطني، لكن الرغبة في الهيمنة سرعان ما أنذرت أو هي تنذر الآن بانفراط صيغة الحكم الجبهوي بالاضطرار… ولسوف تعود الأمور الى الشارع. والمؤسف ان الشارع بلا قيادة قادرة ومؤهلة وذات برنامج واضح، ولعل الجمهور يتقدمها ويفرض عليها إكمال المواجهة.
في ليبيا، الأمور أوضح: لقد حسم التدخل الأجنبي بالقوة المسلحة الصراع على السلطة، فقضى على القذافي وأسرته بطريقة وحشية، ولكن بناء العهد الجديد سيكون صعباً في ظل خواء الحياة السياسية ونقص التجربة… والأخطر ان النفط هو العنصر الحاسم، والنفط ليس لأهله والبلاد مفتوحة.
وقد كشف تفجير القنصلية الاميركية في بنغازي أحد وجوه الصراع.
ثم ان التدخل الأجنبي قد أعاد البلاد وشعبها الى صيغتها الأولى: ولايات وقبائل متنازعة وأعراق متصارعة، مما يجعل مساحة الخارج أوسع مما ينبغي لبناء داخل منيع وهو لما يعرف العمل السياسي، وها ان معظم قيادات العهد الجديد وافدون من الخارج، لا هم يعرفون بلادهم ولا شعبهم يعرفهم.
في المغرب حاول الملك أن يحتوي موجة التغيير، مفيداً من حصانة موقعه كخليفة وجاء بتنظيم شبه إخواني ليجعله شريكاً في سلطته المطلقة وتحت عباءة أمير المؤمنين.. لكن أبواب الصراع لا تزال مفتوحة، برغم الاستعانة بأموال النفط لإقفالها.
أما في الجزائر فإن التجربة الدموية للإسلاميين في انتخابات العام 1990 لا تزال تقف سداً في وجه محاولاتهم السيطرة على الشارع والتقدم نحو سدة السلطة.. لكن الحكم بالعسكر مستمر، وان كان قد فتح خزائنه، ولو متأخراً، لشراء غضبة ملايين الفقراء في الأرض المذهبة بالنفط والغاز والزراعة التي أُهملت فلم يعد أمام أهلها غير اللجوء إلى بلاد المستعمر السابق.
وأما في اليمن فقد نجح مال النفط في إسقاط علي عبدالله صالح، الذي كان قد أبدع في تفتيت الشعب وفي تحريض بعضه ضد البعض الآخر.. ويبدو أن التيار الانفصالي قد وجد من يرعاه. وهكذا فإن اليمن مهددة بالتمزق بين شمال تحاول السعودية استيعابه بذهبها، وجنوب يراوده الحنين الى جمهورية كاريكاتورية لم تكن مؤهلة لان تعيش بقدراتها الذاتية.
وثمة معلومات تخالطها شائعات عن سور بطول ألفي كيلومتر تبنيه السعودية ليحمي ثروتها من جيرانها الفقراء.
تبقى سوريا، وأوضاعها المأساوية تنذر بمخاطر مصيرية على المشرق عموماً، من لبنان الى الاردن فالعراق وصولاً الى البحرين.. من دون أن ننسى تركيا، وارتدادات هذه التطورات على ايران ذاتها.
لقد كان لنظامها جماهيره، وكانت له هيبته التي افتضحت فالتهمت حكمته بعد أحداث درعا.. وهكذا مضى في مكابرته في رفض الإصلاح الذي طالما تحدث عنه ووعد به حتى تفجرت الأرض السورية جميعاً بالاعتراض الذي سرعان ما وجد من يزوده بالمال والسلاح والتغطية السياسية، ومن ضمنها الهجوم الإعلامي النووي.
إن سوريا تتمزق أمام عيوننا. وتمزقها ستكون له تداعياته المدمرة على المنطقة عموماً، من شواطئ المتوسط حتى المحيط الهندي. من دون أن ننسى تركيا… ثم ان تداعيات هذا التمزق ستعكس نفسها على الشمال الأفريقي، حيث بدأت تبرز بعض الدعوات الانفصالية تارة على قاعدة طائفية، وطوراً على قاعدة عنصرية.
[[[
^ الفتنة
ان الانتفاضات مهددة بأن ترتد الى عكس ما أملنا منها وبين المخاطر تفجرها حروباً أهلية مدمرة.
فالخارج كله ضد ثورة عربية جامعة تنسف ما زرعته عهود الطغيان من شعور بالعجز عن التغيير، وبالتالي عن التحرر، وعن بناء حياة تليق بشعوب هذه المنطقة.
ثم ان المناضلين قد تعبوا فابتعدوا، وهم يعانون صعوبة في العودة الى الميدان بشعاراتهم، بل بأهدافهم الأصلية.
وشباب الثورة لا يملكون برنامجاً يوحدهم، وهم يجتهدون في التقارب وفي توحيد الجهد والشعار، لكنهم بحاجة الى الزمن، خصوصاً أنهم يقاتلون وحدهم ضد تحالف هائل القوة يجمع بين الهيمنة الاميركية وشراسة أهل النفط في القتال ضد التغيير، فضلاً عن التخلف والخوف المقيم من السياسة بوصفها احتكاراً للسلطان الذي غالباً ما يلف نفسه بالشعار الديني، ليجعل المعارضة كفراً وأهلها الى النار، وبئس المصير.
ولقد اهتدى هؤلاء وأولئك الى سلاح الفتنة الطائفية الذي من شأنه ان يدخل الى حلبة الصراع كلاً من تركيا وإيران، فإذا الطريق ممهدة الى صِفين جديدة تختلط فيها الأوراق والأهداف ويقاتل الشعب الشعب، وتكون خدمة ولا أكرم لقوى النفوذ الأجنبي.
[[[
الصورة ليست زاهية بقدر ما أملنا.
فالخارج يستقوي على الداخل بانقسامات الداخل،
والثورة مهددة بالفتنة،
والنفط يغذي الانقسام والفتنة،
والشبق الى السلطة يتهدد صفوف الذين اندفعوا الى الميادين من أجل إسقاط الطغيان.
وما زلنا في البدايات. ومن الطبيعي أن صناعة تاريخ جديد لشعوب هذه المنطقة تتطلب زمناً مفتوحاً وجهداً دؤوباً وصراعاً قاسيا، قبل أن تتوحد الصفوف حول رؤية أو برنامج محدد للتغيير من أجل الوصول الى مستقبل أفضل.
المهم أن تبقى الجماهير في الشارع، لمواجهة أي انحراف وأي توجه نحو استيلاد الطغيان مجدداً وبالشعار الديني هذه المرة.
والمهم ألا يأخذنا التسرع الى اليأس، فالثورة صنع أجيال. وطموح أهل هذه الأرض يستحق أن تبذل من أجله أغلى التضحيات.
وأعظم ما أنجبته الانتفاضة أنها فتحت أبواب النقاش والحوار على مصاريعها، وهذا أقصر طريق إلى توحيد الرؤية وتحديد المنهاج.
فلنأمل أن تستمر الانتفاضة في الشارع، تصحح بزخمها التحرك نحو المستقبل وتمنع الانحراف من أن يستولد الطغيان مصفحاً بالشعار الديني هذه المرة.
[ كلمة ألقيت في المجلس الثقافي للبنان الجنوبي
تهويمات/ الجنة والوقت
قالت: هيا، اتبعــني، الجنة ليست بعيدة كما تتوهم.
قال: ولكنــنا كــنا على بابــها، فلماذا نغادر لنبــدأ رحـلة بحث مضن عن جنائنــها المعلــقة التي قد تكـون خرافــة.
قالت: ليس أمتع من أن نبنيها باختيارنا، بأشواقنا، بمخاوفنا، بهمساتنا، بجراحنا، بالعيون الفارغة لأولئك الذين يكرهون المحبين حيثما وجدوا. هيا، قبل أن يسبقنا الوقت.
قال وهو يلوي عنقه منصرفاً:
ـ لقد ذكرتني بالوقت، وهو جلادي.. لم يتبق لي منه إلا ما يكفي لوداع لا أحب له أن يتبلل بالدموع!
مــن أقــوال نســمة
قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ يملأ حبيبي زمن التلاقي بحكاياته الطريفة التي لا تنتهي… فإذا جاء دوري في الكلام احتضنني فنسيت ما كنت أرغب في قوله.
أمتع الحب ما تمضي وقته مستمعاً ثم تنال حصتك منه وقد «رفت عليك فروع ليلى».