I ـ عن «الذي خاط جروح السود والبيض والملونين»: نلسون مانديلا..
حين دخل القاعة المذهبة في تلك الدولة العربية التي اصطنعها النفط وجعلها تحت حماية اجنبية ابدية، ارتفع رأسه عالياً فوق قامته الممشوقة التي عجز القهر الاستعماري عن فرض الانحناء، فضلاً عن الانكسار عليها، تسمرت عليه العيون، وهبّ الجميع واقفين يصفقون، ولم يتمالك البعض نفسه فرفع صوته بالهتاف: يحيا مانديلا! أهلاً ببطل الشعوب!
كنا مجموعة من الصحافيين نغطي واحدة من القمم العبثية، وقد حجر علينا، في مقاعدنا خلف حبال التنظيم، نرى أشباح الحكام الذين يتقنون إخفاء نياتهم خلف ابتساماتهم البلاستيكية ولا نفهم همهماتهم.. وكان علينا أن نتجاوز الحرس المن حديد لنصل إلى البطل الذي دعي ليغطي به أباطرة الثروة انكسارهم السياسي.
وأدرك الرئيس الأسطوري الضيف حراجة الموقف، فاقترب من صفوفنا وقد رفع يده بالتحية، وشعت ابتسامته فأضاءت وجهه البلون أفريقيا، ومضى بخطواته البطيئة نحو مقعده إلى جانب عدد من الضيوف الذين لا تفيد ألقابهم المعظمة في تقريبهم منه، بل تؤكد غربته عنهم وتساميه على مناصبهم المحمية بالولاء للأقوى بين الدول… وحين جلس بينهم لم ير أحدنا غيره.
بعد رفع الجلسة سمح لنا بأن نتقدم لمصافحته… ثم، وفي اللحظة الأخيرة، أبلغنا أن الحكام قد اختطفوه منا، لكن صورة وجهه المشع كأيقونة ظلت وحدها في وجداننا بينما تساقطت وجوه الآخرين على الطريق مع أنها مطلية بالذهب.
ردد واحد من الزملاء مقتطفات من أنشودة كان يحفظها، وهي التي كتبتها انتجي كروج، وقرأتها الممثلة ساندرا برنسلو في حفل تنصيب مانديلا رئيساً يوم العاشر من ايار 1994:
” نلسن رولي هالا هلا منديلا
أنت الذي جمعت الجميع، في الأرض الممزقة،
أنت الذي خطت جروح السود والبيض والملونين
أنت الذي لفتنا إلى بعضنا البعض ليقابل كل منا الآخر
أنت متابع القلوب، أنت شافي الناس
وهكذا سنقيم السلام، السلام أو الأمم العظيمة”.
.. والتفت نلسون مانديلا وحيانا رافعا كلتا يديه، وغمرتنا ابتسامته فانتشينا وعدنا الى عملنا وقد صار وجوده الخبر، وتساقطت ثرثرات الحكام عند العتبة.
ذلك كان اللقاء المباشر اليتيم مع نلسون مانديلا الذي لم يتح لنا أن نتبارك بمصافحته، وان كانت ابتسامته قد عززت صورته التي تسكن وجداننا منذ ربع قرن أو يزيد: نتابع أخباره مناضلاً سجيناً ومقاتلاً بغير سلاح إلا إصراره على حقه في بلاده، وإيمانه بشعبه ثم رئيساً بغير شبيه استطاع أن يحفظ للجهاد قدسيته فلا يتنازل ولا يفرط، ثم يعصمه النصر من ان ينتقم ويتشفى، ويحمله الاطمئنان إلى نجاح التجربة وثبات النظام الجديد الى مغادرة السلطة وقد ازداد كبراً، موفرا لجهاده الذي امتد عمراً الخاتمة اللائقة بهذا الرمز الإنساني النبيل.
[[[
هذه مجرد تحية لواحد من رموز النضال الإنساني الفذ، نلسون مانديلا، لمناسبة صدور الترجمة العربية لكتاب “غدا ستولد دولة جديدة ـ قصة التسوية التفاوضية في جنوب أفريقيا من الداخل”، من تأليف الكاتب الصحافي المعروف دولياً ألستر سباركس وترجمة ابتسام الخضرا، والذي أصدرته شركة قدمس للنشر والتوزيع.
ان ولادة هذه الدولة بالمخاض العظيم الذي سبقها وواكبها تتجاوز حدود الأسطورة لتؤكد حقيقة خالدة عبر عنها واحد من شعرائنا المميزين ممن أعادته إلينا الثورة في تونس، وهو ابو القاسم الشابي: “إذا الشعبُ يوماً أراد الحياة”.
ولقد انكسر القيد، وأطلت بشائر الدولة الجديدة، الفريدة في بابها عالمياً، مع خروج الزعيم نلسون مانديلا من السجن في العام 1990 وبعد ان أمضى 27 عاماً في الأسر.. وخلال فترة قصيرة، وعبر ثورة مدنية سلمية هي واحدة من محطات التقدم الإنساني في القرن العشرين تم القضاء على نظام التفرقة العنصرية وقوانينه القمعية المعززة بالفصل العنصري.
لا بد من شيء من استعادة التاريخ:
ولدت دولة جنوب أفريقيا عبر توحد أهالي تلك البلاد، متعددي العرق والمنبت، في مواجهة الصعاب والمخاطر كشعب واحد، بعد تاريخ طويل من النضال الذي انتصر حين وحّد بين أهل البلاد الأصليين والوافدين كمستعمرين ثم كمحتلين احتكروا السلطة والأرض وثروتها، منذ منتصف القرن السابع عشر عندما أسست “شركة الهند الشرقية” الهولندية محطة تموين وإمداد لها على الساحل الجنوب أفريقي. ولقد بدأت الحكاية 1652 تحديداً في كيب تاون، عندما أنشأ رجل اسمه فان يبيك حكومة سوف تديرها الشركة، تحرسها قاعدة عسكرية هولندية. وفي العام 1806 أصبحت كيب تاون مستعمرة بريطانية.. كمقدمة لاتساع نطاق السيطرة الاستعمارية في جنوب أفريقيا، كما في القارة السمراء جميعا. وتزاحم طابور الآتين إليها مدفوعين بسحر اكتشاف الأحجار الكريمة ثم الذهب. وفي العام 1910، وبعد سنوات قليلة من حرب البوير، منحت بريطانيا المستوطنين البيض استقلالا محدوداً.
مع الحرب العالمية الثانية انتعشت الصناعة في جنوب أفريقيا، خصوصاً مع تدفق الرساميل الاميركية عليها. وفي العام 1947، مثلاً، كان عدد العاملين في الصناعة يزيد على المليون عامل.
بالمقابل، تنادى أهل البلاد الأصليون إلى تأسيس المؤتمر الوطني لجنوب أفريقيا في 1912 ولسوف يشق المؤتمر طريقه في قلب الصعوبة، في انتظار وصول المحامي الشاب نلسون مانديلا ومجموعة من رفاقه في الخمسينيات، وهم الذين أنعشوه ومتّنوا وحدة قواعده، عبر تبني نهج الكفاح المسلح.
على الضفة الأخرى كان الحزب القومي قد اعتمد قاعدة نظرية ترتكز على تعاليم الكالفنية، المذهب الديني للكنيسة الهولندية، والتي كان يعتنقها معظم البوير المقيمين في جنوب أفريقيا… وهم قاموا بتفسير تعاليم الإنجيل وإصلاحات كالفن بما يتلاءم مع عنصريتهم كالقول إن لكل جنس من الأجناس البشرية قدراً خاصاً وطريقاً خاصاً للتطور وأسلوبا خاصاً في الحياة، وان أسلوب حياة الأوروبيين لا يصلح للأفريقيين والعكس بالعكس، وعلى كل جنس ان يسير في الطريق المقدر له السير فيها، وان أي اختلاط في الدم خطأ قاتل، وان الجنس الأبيض المتفوق سوف ينحط… لذلك فالحل هو في عزل الأجناس بعضها عن البعض الآخر، فتكون للأوروبيين الحياة وللأفارقة التقاليد والاقصاء.
كان الاقتصاد يعتمد على العمال الأفارقة بنسبة ثمانين في المئة.
وكان الحزب القومي العنصري يتربع على قمة البوير باعتبارهم الشعب السيد، أو الشعب المختار، ومعهم الألمان واليهود، ثم يأتي الملونون والهنود، وفي قاعدة الهرم الأفارقة.
وقد سنت حكومة القوميين العنصرية سلسلة من التشريعات سنة 1950 بموجب نظريتها هذه، فكان من حقها تخصيص أية منطقة في البلاد لجماعة معينة، وعلى الجماعات الأخرى إخلاؤها فوراً.
في منتصف الخمسينيات أخذت هذه الحكومة تخلي المدن الكبرى من الأفارقة، وفي العام 1956 أصدرت السلطة التشريعية قانونا يخوّل وزير العمل تخصيص فروع من الصناعة لجنس واحد، ما أجبر نصف مليون أفريقي على ترك أعمالهم، بينها 40 ألف وظيفة في الصناعة.
ثم أصدرت قانونا حظر على الملونين الاشتراك في الانتخابات. وكان منطقها: لا جدوى من تعليم البانشو الرياضيات لأنه لن يكون باستطاعتهم تطبيقها في حياتهم العملية. ثم صدر قانون الجامعات الذي يحظر على الملونين الدراسة في الجامعة نفسها مع البيض..
ولتوكيد العنصرية في حدها الأقصى أصدر الحزب القومي قانونا يحظر بموجبه التزاوج بين الأوروبيين والأفارقة، ثم أعقبه بقانون يفرض على كل من يبلغ السادسة عشرة من عمره ان يذكر في بطاقته العنصر الذي ينتمي إليه.
في 21 آذار 1960 اندفع الجمهور إلى التظاهر في مدينة شاربنيل، فأطلق الجند النار على المتظاهرين واعتقلوا عشرين الفاً، بعدما أصابوا ثلاثمئة بجراح.. ثم بعد ذلك أصدر الحكم العنصري قانون التخريب.
ولقد ذهب مانديلا الى السجن قبل رفاقه من زعماء المؤتمر الوطني الأفريقي بسنة.. وأطلق سراحه بعد حظر الحزب في العام 1960، فسافر إلى الخارج ليؤسس جناحه الخاص بحرب الأنصار: رمح الأمة، وعاد متخفياً إلى جنوب أفريقيا، لكن أجهزة الأمن العنصرية ألقت القبض عليه في العام 1963 وحكم بالسجن خمس سنوات بذريعة مغادرته البلاد بصورة غير شرعية. لكن ذلك الحكم سرعان ما جرى تمديده، في مناسبات أخرى،
وكانت الحصيلة ان سجن مانديلا 27 عاماً طويلة بطول عصر القهر الاستعماري المعزز بالعنصرية.
[[[
كان لا بد من هذه المقدمة لنعرف مانديلا من خلال الظروف التي تصنع البطل:
اسمه الحقيقي روليهلالا مانديلا – ومعنى اسمه الأول/ كثير الشغب بلغة قبيلته التيمبو اكبر عشائر الهوسا، وقد لقبه أفراد قبيلته “ماديبا” أي العظيم المبجل، الأرفع قدراً بينهم.
ولد في 18 تموز 1918 في بلدة صغيرة تدعى كوتوا بمنطقة تراتسكاي في جنوب أفريقيا – كان والده رئيساً لقبيلة التميبو – وقد توفي والده وهو صغير فانتخب مكانه.
فصل من الجامعة مع رفيقه اوليفر تامو في العام 1940 بتهمة الاشتراك في إضراب طلابي – تنقل بين عدد من الجامعات وتابع الدراسة بالمراسلة من جوهانسبورع وحصل على الإجازة في الحقوق والتحق بجامعة وتيواترساند وكان من السود القلائل الذين اشتغلوا بالمحاماة.
في العام 1942 انضم الى المؤتمر القومي الأفريقي، وفي العام 1948 انتصر الحزب في الانتخابات.
كان مانديلا منذ بداية نشاطه مع المقاومة غير المسلحة ضد سياسات التمييز العنصري، وبعد فتح النار على المتظاهرين العزل 1960 وإقرار قوانين تحظر الجماعات المضادة للعنصرية قرر مانديلا وزعماء المؤتمر فتح الباب امام المقاومة المسلحة.
في العام 1961 أصبح رئيسا للجناح العسكري للمؤتمر.. في آب 1962 اعتقل وحكم عليه بالسجن 5 سنوات بتهمة السفر غير القانوني. وفي العام 1964 اعتقل مجدداً بتهمة التخطيط لعمل مسلح وحكم عليه بالسجن مدى الحياة.
خلال سنوات السجن /27 سنة/ أصبح رمز الرفض لسياسة التمييز العنصري. وفي حزيران 1980 تم نشر رسالة منه خاطب فيها شعبه بقوله:
“بالتحرك الشعبي ومطرقة المقاومة المسلحة سنسحق الفصل العنصري”.
وكان بين أهدافه المقدسة: الوصول بالتعليم الى كل طفل اسود ومكافحة الأمية عند الكبار.
في 1985 عرض عليه إطلاق سراحه مقابل إعلان وقف المقاومة المسلحة فرفض وبقي في السجن (في احدى جزر الشيطان في المحيط في قلعة قديمة رهيبة وهي جزيرة روتن منفى المجرمين) حتى 11 شباط 1990. وقد أطلق سراحه رئيس الجمهورية آنذاك فريدريك ويليام دي كليرك الذي أعلن وقف الحظر على المؤتمر القومي الأفريقي.
عام 1990 حصل على جائزة نوبل للسلام مع دي كليرك.. ثم تولى رئاسة المجلس الأفريقي.
من حزيران 1991 الى كانون الأول 1997 أصبح أول رئيس اسود لجنوب افريقيا – وهو ذهب الى التقاعد طواعية في حزيران 2001 وترك الحياة العامة وعمره 85 سنة.
من الاقوال التي يحفظها عنه ابناء شعبه:
“حريتي عزيزة علي ولكن حريتكم انتم هي بالنسبة لي أهم”.
ليس في نية احد منا أن يتزوج امرأة بيضاء وليست لدى أي منا رغبة في أن يسبح في حوض سباحة واحد مع البيض.
ان لنا لطلباً واحداً اساسياً يعرفونه جيداً وهو المساواة السياسية.
أما عند إطلاق سراحه، فقد توجه الى مواطنيه بالقول:
“أقف هنا أمامكم لا كنبي وإنما كخادم بسيط لكم، للشعب.
إن تضحياتكم البطولية هي التي سمحت لي أن أكون هنا اليوم”.
سنة 1990 وخلال زيارته للجزائر وهي التي عاش فيها بعض الوقت، قبل سجنه الطويل، قال: “ان الجيش الجزائري هو الذي صنع مني رجلاً”.
[[[
اذا أردنا ان نسمع وان نحفظ الدروس التي أفادها مانديلا من تجربته الغنية فإنها تجتمع في هذه الكلمات:
الدرس الاول/ الشجاعة ليست عدم الخوف بل إلهام الآخرين بتخطيه،.
الدرس الثاني/ قد من الامام… ولكن لا تترك القاعدة في الخلف.
الدرس الثالث/ قد من الخلف ودع الآخرين يعتقدون بأنهم في المقدمة.
الدرس الرابع/ اعرف عدوك واستعلم عن رياضته المفضلة.
الدرس الخامس/ أبق أصدقاءك قريبين.. ومنافسيك أقرب.
الدرس السادس/ المظهر يحدث فرقا.. وتذكر ان تبتسم.
الدرس السابع/ لا يوجد شيء ابيض او اسود فقط.
الدرس الثامن/ التنحي هو ايضا ان تقود بشكل ما.
الدرس التاسع/ خرجت من السجن ناضجاً.
وفي كتابه الذي يحمل عنوان “رحلتي الطويلة من أجل الحرية” يبرز مانديلا بعض استنتاجاته ومنها:
“الحرية لا تتجزأ، فالقيود على أي واحد من شعبي هي قيود على الجميع.
والقيود على شعبي بكامله هي قيود عليّ”.
أما خلال كفاحه الطويل فقد انتبه الى حقيقة بسيطة:
“اكتشفت أننا ما إن نصل الى قمة تلة عظيمة حتى نجد أن هناك مزيداً من القمم علينا تسلقها”.
ومع ذلك استمر يكافح حتى بلغ هدف نضاله المجيد: قيام دولة لجميع مواطنيها، وقاعدتها أهل الأرض وأصحابها الاصليون.
يستحق “ماديبا” وهو الاسم العشائري لمانديلا، ان يقول فيه شاعر من الزولو: انه لؤلؤة صقلها الزمن.
[[[
هذا عن الكتاب وبطله، ولكن يبقى ضرورياً أن ننوه بالكاتب الممتاز الذي قدم لنا هذا السجل الحافل لنضال الشعب في جنوب أفريقيا عبر بطله العظيم نلسون مانديلا.
انه استر سبارس صحافي من جنوب أفريقيا ينتمي إلى سلالة استقرت فيها منذ خمسة أجيال في مقاطعة الكيب وتلقى تعليمه فيها. عمل محرراً لصحيفة راند ديلي ميل بين أعوام 1977 و 1988 ومراسل جنوب أفريقيا لصحف واشنطن بوست، ذي اوبزرفر وصحيفة ان آر سي هاند لز بلاد الهولندية الرائدة.
حصل على لقب المحرر الدولي للعام 1970 ورشح لنيل جائزة بولتيزر لتقاريره عن الاضطرابات العرقية في جنوب أفريقيا خلال العام 1985 وحصل على جائزة ديفيد بلوندي البريطانية للمراسلين الأجانب العام 1985- وفي العام 1992 أسس سباركس معهد الصحافة المتقدمة بالاشتراك مع جامعة وتوترساند بهدف رفع سوية الصحافة في جنوب أفريقيا.
وهذا الكتاب هو الثاني تصدره دار قدمس بالتعاون مع سفارة جنوب أفريقيا في دمشق، أما المشرف على السلسلة فهو الدكتور بشير نافع بالاشتراك مع السيد اسلم فاروق علي القنصل في دمشق سابقاً والمستشار بوازرة الخارجية حاليا.
(من كلمة ألقيت لمناسبة صدور الكتاب الجديد عن مانديلا)
من أقوال نسمة
قال لي «نسمة» الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ احمني من الحرب بحبك.
أين يرمي الناس قلوبهم ليذهبوا فيغرقوا في بحر الدم؟
أليس في الدنيا من الحب ما يكفي لكل أبناء الحياة؟.. إذن لسوف أعطيهم من قلبي، لتبقى لي..