I ـ الأنبا شنوده: غياب القائد بالإيمان والقدوة بالصلابة…
منحني زماني وانتسابي إلى مهنة الصحافة شرف أن ألتقي الأنبا شنوده مرتين.
أما الأولى فكانت في دمشق وعلى هامش مؤتمر لحوار رفيع المستوى حول الإيمان دعا إليه وأشرف على مناقشاته العالم المستنير ومفتي سوريا الراحل كفتارو.
وأما الثانية ففي بيروت، وعلى هامش زيارة قام بها الأنبا شنوده إلى لبنان ودشن خلالها الكنيسة القبطية في بعض ضواحي العاصمة اللبنانية. ولقد اندفعت إلى مصافحته بحرارة كشفت حماستي ورحّبت به بعفوية بلغت حدود العناق فإذا به يشدّني إلى صدره موفّرا لوجهي أن يتبارك بملامسة وجهه بلحيته الكثة… ثم تطهّر وجهي ببعض من دموعه.
ولقد استقرّت في ذهني صورة لهذا «القديس» تمتزج فيها ملامح الرسل والدعاة حملة مشاعل الإيمان، وتختلط فيها رؤيا صاحب البصيرة وإيمان الفلاح الصعيدي بالأرض وعبقرية الشاعر والقائد الوطني وصاحب رسالة الإيمان بحقوق الإنسان.
ثم عرفته أكثر من خلال قراءة مجلد من نصوصه التي سبق أن نشرها في مقالات صحافية، تنضح وطنية وحرصا على وحدة مصر، والارتقاء بالإيمان إلى ذروة التلاقي بين الوطن والدين وكرامة الإنسان.
لم يكن البابا شنوده داعية، كان جوهر الدعوة، مفكّرها وقائدها إلى تجسيد الوحدة الوطنية، وإلى التحرر والتحرير. وبالتالي فموقفه العظيم من الكيان الصهيوني وتوقيع الحُرم على من يزور الأرض الفلسطينية المحتلة لم يكن موقفا مجاملاً للمسلمين بل كان في صلب إيمانه الديني والأهم في صميم تكوينه الوطني. كانت فلسطين قضيته. ولم يكن ليزايد على أصحاب العمائم من المسلمين الذين أسقطوا عداءهم للعدو القومي بمجرد أن استسلم له «الرئيس»… الذي نصّب نفسه «خليفة» بينما هو يرتكب جرماً يعادل الخيانة العظمى.
ولعمق وطنيته فقد تجاوز عن سفاهة بعض فرق المتطرفين والمنحرفين عن سماحة الدين إلى التعصب كاستثمار سياسي ومادي، وأكمل رسالته على خطى السيد المسيح، متمثلاً بالأنبياء الذين نقشوا دعوتهم في صدور الناس بالإيمان وبالمثل الصالح.
لقد كان الأنبا شنوده رسول إيمان في حقبة التعصب والعصبيات، وكان وطنيا صلبا في عهد المناقصة بالوطنية والتفريط بكرامة الأرض والشعب في عهد منافقة العدو… وكان الإنسان الرقيق على صلابة استثنائية، العنيد في الحق على رقة تجاور البكاء، وكانت عنده الرؤيا التي تمنعه من مجاملة التطرف بذريعة الحرص على الطائفة وتأخذه إلى المعاندة في الإيمان بالأرض الباقية بعد الطغاة وعصور الطغيان.
لقد خسر العرب زعيماً عظيماً وخسرت مصر قائداً فذّا، بينما العرب وضمنهم مصر يفتقدون القادة والزعماء الذين يتقدمون بشعوبهم نحو المستقبل.
إن غياب الأنبا شنوده يكاد يكون فجيعة وطنية، لا سيما في توقيته… فمصر مهددة بالضياع، والعرب في فوضى البحث عن طريق إلى المستقبل، بينما المتطرفون يشدون الجميع إلى ماضي الارتهان لإرادة الأجنبي عبر ادعاء التشدد في تطبيق «شريعة» تستمد منطقها من سياسة الأمر الواقع وليس من هداية الإيمان بالله الواحد والوطن الذي يحميه أهله.
ومن المفجع أن يأتي توقيت غياب الحكمة والتسامح والإيمان الصحيح مع ارتفاع موجات التطرف الآخذ إلى… جهنم!
II ـ عزة الزين في الصلاة الجماعية: خواطر مصرَّفة!
من أمتع المفاجآت التي وقعت لي، مؤخراً، أو بالأحرى وقعت فيها، كتاب أنيق الغلاف برسم مبتكر لعنوان مبتكر ونص مبتكر، يحمل عنوان «خواطر مصرَّفة بين النحن والأنا».
… وحين قرأت التقديم، المخفي تواضعا، استحالت المفاجأة خبرا مفرحاً فقد تأكدت أن صاحبة الديوان قد استخدمت البعض من لغة أبيها، وإن تخفّفت من بعض الصعوبة المتعمدة فيها، ثم ازداد تقديري حين وجدت أن «عزة الزين» قد قدمت على أبيها أمها المجتهدة والمجدّة بدأب الدمشقيين وطقوسهم، متخطية الحواجز والعقبات أمام مواصلة الدراسة والوصول إلى حيث تقصد على طريق الصعب.
أما الكاتبة ـ الشاعرة فهي عزة الزين.
وأما الأب فهو الزميل الكاتب المعروف جهاد الزين، الذي كان لا يتعب عن إنشاد قصائده عن عزة، ثم عن ديالا فعن مروى، وهو معنا في «السفير»، وأظن أنه قد أكمل الآن ديوان غزله هذا الذي يظل عنوانه رغداء النحاس.
الطريف أن القصائد التي تزيّنها لوحات من إبداع الشاعرة، مهداة إلى «حبيبها» برندرا راي الذي لا يعرف اللغة العربية «لكنه طالما قرأها بقلبه خصوصاً أن معظمها قد كتب له أو عنه أو معه.
تمهّد عزة لقصائدها بالاعتراف لأمها بالفضل في حثّها على الكتابة منذ الصغر وملاحظاتها اللغوية، ولأبيها بدفعها إلى التحدي الدائم المملوء عاطفة وهو «الذي جعل قراءة الشعر الجماعية كالصلاة في شقتنا».
من قصائد عزة هذه المختارات التي تكشف بعض عوالمها الخاصة: «البحر سمعنا صلاة/ تمحو سماء/ وما أنا إلا غبار مدن/ تعوم بين البحر والجبل». ويأخذ البحر عزة أو تأخذه إلى بيروت «التي تصغر في مخيلتي/ ترتدي رداء خفيا/ تفاجئني في حين أصفر لزمامير أهلها فأضيع في جسدي/ أخلع رداء/ أتعرى لنواميسها/ أسأل رسامها أن يلونني ويلونها حين تقول لي إنها لم تعد تعرفني».
ويستوقفها المشرد الذي «يتمدد في زواريب حائرة ويعزف لحنه وهو يبحث عن اسمه في تشرد المدينة/ تتبناه الشوارع كما يتبنى الله عبده الذي أخطأ».
بين أطراف الصور التي «تلتقطها» عزة واحدة تهديها إلى ارتور رابو الذي لا نعرف عنه الكثير. تقول:
«كثيرون مثلنا يلجأون إلى المراحيض مأوى لراحة النفس
«نحن متصوفو الحمامات، بيت الخلاء
«هنا فقط سأجتر غضب النهار/ أجالس المرحاض/ يعانق صدري ركبتي
«على وقع سيلان المياه/ أفكك جسدي عن جسدي
«أناملي تخط نوته…»
أما بين أجمل الغزليات فقولها:
«أضعتك يوما/ قالوا عرجي إلى السماء/ أزيحي نجما في ظلاله تجدين حبيبا»
عزة تحرض «اللغة» على «اللغة الحنونة المجنونة»:
«دع الشعر يحب اللغة/ كما تحب اللغة الشعر
«كما يضمر المتمرد حبا»
… ولأن السفر يكشف العلاقة الحميمة بين بشر المكان وبشر الزمان، فقد أتاح لعزة ان تكتشف ما يستحق الشعر فكتبت تحت عنوان «مئذنة»
«في الهند البعيدة/ في ليلتي الأولى/ أيقظتني مئذنة/ وبين يقظتي ونومي احتضنني أذان هندي… قرآني/ تذكرت فيها أن في زمن بعيد/ اقترب الهناك من هنا… فكانت في الهند مئذنة… لي أنا».
هل يوجع أن نقول لعزة إن الهنا قد هاجر فامحى في هناك، وإن المآذن التي ترتفع حتى تكاد تحجب ضوء القمر لم يعد يصعد إليها المؤذنون، بل يطلق الأذان آليا لمصلين لا يأتون لأنهم صاروا في البعيد، أو يجيئون مهرولين لأن وقتهم صار معاشهم.
أما أولئك الذين يحملون على جباههم «زبيبة» الصلاة فقد هاجروا إلى ديار بعيدة، طلبا للسلطة في بلاد المآذن، وإنهم صاروا يستخدمون الأذان سلّماً للرئاسة والمصلين وقوداً للحرب من أجل التفرد بالقرار.
لكأنهم يفرضون علينا الخيار بين «النحن وهم».
مبروك لعزة هذا الإنتاج المتقن رسماً ولغة ومضموناً.
… وها هو النجيب قد أنجب.
بقي أن نعرف أن عزة قد أنجزت ـ في محل إقامتها حالياً، مدينة ملبورن في اوستراليا ـ سجادة مشغولة من أربعة آلاف صورة عن حركة الاعتراضات الشعبية في الوطن العربي.
III ـ جهاد عقل: ساحر أمدّته الثورة بأسباب الفرح!
تطفئ أخبار السياسة العربية فرحك بنعمة الحياة. تستفزك حتى لتكاد تخرج على القادة والأقطاب القياديين حاملاً غضبك فترميه بهم كتلاً من نار.
أكثر من مرة أنقذني من غضبي العاجز ذلك الساحر الذي يشعل الليل بموسيقى الفرح ويطلق الآهات المحبوسة في الصدور زغاريد عشق للحياة.
أجلس أتأمله يلاعب الكمان كمن يهدهد طفله، ثم يأخذه الوجد فيحتضن تلك الآلة السحرية ويتهادى بها متمايلاً إلى حلبة الرقص، فيمد الكهول بالحماسة، وتعيد إليهم الأنغام المبهجة صباهم ليرقصوا فرادى قبل أن تنضم إليهم نساؤهم اللواتي كن ينطوين على ذكريات الزمن الجميل…
يستذكر الحشد الأغاني التي كانت تأخذ كلاً منهم إلى الموعد المسحور طائراً كفراشة، فتهتز الرؤوس وهي تسترجع ما لا ينسى، وتنطلق النساء يستعدن أغاني العشق الحرام، واثقات من الغفران.
يدور على محبيه الذين يقصدون أماكن لم يكونوا يعرفونها قبله… تتخاطفه وجوه الصبايا اللواتي يأتين إليه ثم يخرجن وقد نسين اسم الصالة. اسمه وحده يبقى، وصورته تنطبع في الوجدان وهو يهدهدهن بموسيقاه الناطقة غناء.
يأتلف جمهوره الآتي من مكاتب التعب ومن البيوت المشتاقة إلى إكسير الحياة.
يتعانق الأحبة المتلاقون بعد غياب في قبل مموسقة في قلب النشوة.
تحضر فلسطين باعتبارها أملاً للغد وليست ذكرى حزينة من أمس أسقط اغتيالاً في الميدان برصاص القرار الخاطئ.
إنه زمن الثورة وفلسطين العنوان…
لعل ذلك اليقين هو مصدر الابتسامة التي يطفح بها وجه جهاد عقل وهو يدور بين المتأرجحين فوق أوتار كمانه…
إنه الآن أكثر قرباً من فلسطين من أمسه في مخيمات اللجوء.
إنه الآن يحمل هوية مستعارة، لكنه يمنح الفرح لملايين العرب اللاجئين في أوطانهم.
الموسيقى ليست وطناً ولكنها بعض الطريق إلى الوطن لأن الفرح ينبع من الأمل الذي يطلقه الجهاد وليس من اليأس.
IV ـ المطرب بصوتين: خالد العبدالله
اكتشفت، متأخراً، أن خالد العبدالله مطرب بصوتين: الأول للسكر والثاني للنشوة… فهو شاعر، وإن على طريقته، وبلغته، ووفق رؤيته عندما «يسلطن» فيحلق طائراً فوق الجمهور نحو من يغني لها، وإن التفت بين الحين والآخر إلى من حاول متابعته بالآه معتذراً… بوصلة جديدة!
في «ديوان» يكاد يكون قصيدة مشطرة «طرّز» خالد العبدالله وجه حبيبته بخيوط الضوء تحت جفنيه «كما يطرّز الله الفجر في أجفان الصباح».
ومع أن خالد العبدالله ينسب جريمة اقتحامه الشعر إلى «نسمة» الذي ظل يستفزّه حتى ورّطه، إلا أن هذا التورط قد أنتج «سحبة آه» مقطعة موسيقياً، بخلاف صوت خالد الذي يتدفق سيلاً من النشوة وهو يغوص «في متاهات فراغها» وقد ارتدى جفناه طيفها بينما يفلت الزمن من عقاله ويومئ الرب «أتانا أحدهم».
أذكر أننا التقينا مصادفة في دبي، في الحفل الأول لجائزة الصحافة العربية الذي ينظمه نادي دبي للصحافة… وقد جمعت المناسبة حشداً من كبار الصحافيين كما من شبابهم الواعد الذين اختارتهم لجان «الامتحانات» وتبنى الاختيار المجلس الذي كان يضم نخبة من كبار الصحافيين يمثلون أركان المهنة في مختلف ديار العرب، مشرقاً ومغرباً.
كان خالد العبدالله بصحبة الفنانة الكبيرة نضال الأشقر… وعوده، ولمناسبة أخرى، لا علاقة لها بجائزة الصحافة او بالصحافيين. وكانت المصادفة الأحلى من ميعاد، إذ سرعان ما انتظمت سهرة جمعت حوالي مئة من عواجيز المهنة ومن شبابها الواعد، في رحاب دوبلكس في فندق «برج العرب» الذي افتتح ذلك العام مقدماً لدبي ما يشبه الشعار.
ولقد غنى خالد العبدالله فأطرب وأنشى ودفع إلى حلبة الرقص العواجيز والفتيان وصبايا المهنة… وغنى معه من لم يعرف الغناء طيلة عمره لأنه «يذهب بالوقار» وعندما شقشق الفجر وقام الحشد إلى الانصراف تساءل خالد غناءً «يا مسافر وحدك، وتاركني لاسهر وحدي»!
في الديوان مجموعة من «الأغنيات» التي يصعب على المطرب أداءها، فكيف يمكن أن يغني خالد العبدالله بصوته الممدود شجناً بطول الصحراء وارتفاع الجبال: «في طياتها تحمل النهاية الامتداد.. هكذا حال حبي..».
.. وكيف يغني خالد المحمول على «أجنحة الفراشات»: حل الأحمر رداء لأفق السماء/ لفتني شطآن الأفق برقة/ لفحني طيفك برتقالياً/ كنسيم أجنحة الفراشات/ ابتسمت. او كيف يراه يغني وميض القبلة والمدخل «تشظت قبلتك في قلب الكف/ تطاير وميضها كدخان قلب».
أما عندما يثرثر العشق، كما عود خالد العبدالله، فيقول: غداا عشقي ممحوا بأفكاري ورؤاي/ أمسى لا ينام/ غرقت في بحري/ غرقت في عشقي/ صرت عاشقاً لعشقي».
ولأن «النبيذ يوغل في الزمان هامساً» يمتلئ خالد من صمت الغرام، وتفيض مرآته وتضيق به الرؤى».
يقف خالد وراء الجبين فتنكشف الشمس في جبينه ويتضمّخ عالمه بعبير الطيف ويحين وقت صلاته الغائية ويهتف فمه.. طيفا.
خالد العبدالله يغني ديواناً على طريقته في الغناء، إذ يسحب اللحن خلف صوته الطلي حتى يتعب الملحن فيتوارى ليعيد إنتاج موسيقى تلائم هذا الزخم الهائل من الطرب… من دون أن يتأكد من نجاح المحاولة.
V ـ من أقوال نسمة
قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ أعرف أن حبيبي سينظرني في عيني فيرى روحي تشع فرحاً… لكن غروري يدفعني إلى المبالغة في التأنق، فيراني ولا يرى ما ألبس، ويمتدح ذوقي فيسكرني.. ثم يفاجئني بالقول: أحب هذا الثوب الذي يذكرني باللقاء الأول!