عن فلسطين وبحرها المضرج بالشهداء… وهاني سليمان!
نبدأ باسم المباركة الأرض، فلسطين، قبل ان نندفع نحو البحر الذي غدا امتداداً لها بعدما صبغته بالأحمر دماء الذاهبين الى الحج اليها. وبها وعنها، عن الذين افتدوها أمس ويفتدونها اليوم وسيفتدونها غداً. هذه التحية الى الذين قصدوها على أجنحة الشوق للوصول إليها، ولو شهداء.
مثل هاني سليمان ورفاقه الرواد، تفتّح وعينا، ونحن نغادر الطفولة، على فلسطين. لقد مستنا النار الإسرائيلية في قرانا البعيدة كما مست من هم اقرب جغرافيا الى الأرض المقدسة، وحملت اليها في جملة من حملت، متطوعين من بلاد بعلبك التي كانت خارج الذاكرة، لكن أهلها كانوا في قلب القضية.
كنت واحداً من جيل يهمّ بمغادرة الطفولة حين انتصبت أمامنا، في بيوتنا وفي المدرسة الابتدائية، صورة متخيلة لفلسطين. يتحدث أبي عنها بحرقة من لا يستطيع استخدام بندقية الدركي في الحرب الدائرة بين أهلها الذين احترفوا الثورة على قهر الاستعمار البريطاني والاستيطان الإسرائيلي، قبل أن يتحول الأخير الى دولة أقوى من محيطها العربي جميعاً.
وكانت أمي تستمع باكية الى أحاديث الرجال، ثم ترفع كفيها بالدعاء للمجاهدين: هي أرض الله يا بني! فيها مهد المسيح وأولى القبلتين وثالث الحرمين.
وفي إجازة عيد ما، قصدنا ضيعتنا، شمسطار، التي تجاور بدنايل وتؤاخيها، فإذا الرجال لا يتحدثون، متى اجتمعوا، إلا عن فلسطين. وفي فضاء الديوان ترتفع الأصوات بنتف من قصائد الفخر والحماسة في قلب بحر العجز الرسمي الفاضح عن نجدة المجاهدين في فلسطين.
على أن قلة من الرجال كانت تدبر أمرا، في ركن ما. ولأنني طفل فلم ينتبهوا الى وجودي. سمعتهم يتحدثون عن السلاح، وأنه أمكن شراء بندقيتين، واحدة إنكليزية والثانية ألمانية، وان بعضهم سيقصد «بلاد بشارة» ماشياً عبر الوعر، ليحاول العبور الى فلسطين، أو لينتظر من يمكن ان يجيء منها لاستلام البندقيتين.
مع الفجر سمعت أصوات النساء ترتفع بالدعاء، ثم تنتقل الى النحيب على وقع صدى أقدام الرجال الذين يتوغلون داخل خيوط الشمس الأولى من فوق بدنايل، لينضم اليهم رفاق القضية نحو فلسطين، عبر البقاع الغربي حتى العرقوب وسفوح الجولان حتى طبريا، او عبر مشغرة – جزين – اقليم التفاح، او ربما عبر وادي الحجير – الطيبة سقوطاً على الجليل الأعلى.
سألت أبي بسذاجة الطفل: هل لنا أقارب في فلسطين؟ فاكتفى بهزة من رأسه. ألححت: وهل هم عديدون؟ قال بشيء من الضيق: أكثر منا هنا.
في السهرة سقط التحفظ، وسمعت الرجال يتحدثون عن مجموعات من المجاهدين نفروا من قرى منطقتنا، بلاد بعلبك، التي لم يكن يربطها طريق ببيروت، تقصد بالتتابع فلسطين… لعلهم يساعدون.
والتفتّ الى أبي اسأله: لماذا لا تعطيهم بندقيتك؟
أدار وجهه عني، وغمغم بحرقة: ليتها لي.
[[[
بعد ستين سنة قرر ابن بدنايل ان يكمل رحلة بعض أهله، ولو في ظروف مختلفة وبغير سلاح إلا الموقف، في اتجاه فلسطين… وهكذا ركب مع رفاق بواسل باخرة شحن يوجهها القرار السياسي، وقرروا ان يخترقوا الحاجز الفولاذي لدولة يهود العالم الديموقراطية المصفحة بالعنصرية والسلاح الاميركي والتخاذل الرسمي العربي.
لم يكن متاحاً أن يحمّلوا السفينة سلاحاً.
بل إن السفر نحو فلسطين، واختراق الحصار الحديدي المضروب حول غزة هاشم، كانا بحد ذاتيهما سلاحاً محرّماً دولياً… حتى لو كان الهدف إيصال بعض المؤن وشيء من الدواء وألعاب الأطفال.
أطلقت إسرائيل صفارات الإنذار، ودفعت جيوشها ووحداتها الخاصة المحمولة جواً، وزوارقها الحربية تحرسها المدمرات، واستنفرت الإدارة الاميركية أجهزتها الدبلوماسية لتحذير أهل النظام العربي من هذه المغامرة المكلفة.
قبيل الفجر دارت المعركة بين إرادة صلبة لمجموعة من المتطوعين لقهر الذل، وجيش الدفاع الإسرائيلي جميعاً.
وحين أُجبر هؤلاء المجاهدون الذين غدوا أسرى، على النزول الى البر الفلسطيني، نسوا جراحهم، وأصموا آذانهم عن سماع الشتائم والسباب والتهديدات… كانوا يريدون ان يملأوا صدورهم من هواء فلسطين.
وكانوا كمن يكمل رحلات أولئك الذين حاولوا، قبل ستين سنة، ان ينجدوا أهل فلسطين بمجرد وصولهم إليها كي يؤكدوا لهم أنهم ليسوا وحدهم.
ولأن هاني سليمان عنيد، كصخر صنين الذي تستند بدنايل بظهرها اليه، فهو قد فعلها ثانية. بل انه في المرة الثانية نصّب نفسه القائد والدليل لمجموعات أكبر جب حبهم فلسطين تعدد هوياتهم فجعلهم أشبه بوحدة استشهادية ولا سلاح إلا الإيمان بالأرض. هو قد خبر البحر، وقد امتلك العينين النفاذتين القادرتين على كشف البوارج الإسرائيلية تتقدمها الزوارق الحربية من قبل ان تتحرك، ثم انه كشف ان الإرادة أقوى من سلاحهم جميعاً، وأنهم هم الخائفون.
لقد أمدته التجربة الأولى بزخم عظيم. لقد لامس الأرض المباركة فاكتسب مناعة ليست لغيره، ومثله رفاقه في سفينة الأخوّة اللبنانية: مطران القدس ايلاريون كبوجي، والشيخ صلاح الدين علايلي، ورئيس رابطة علماء فلسطين الشيخ داوود مصطفى، والزملاء الإعلاميون من قناتي الجزيرة والجديد بقيادة الفارسة اوغاريت دندش .
هو هنا الآن يتولى قيادة أسطول الحرية، ورفاقه كثر، بينهم حسين ابو محمد شكر، والد شهداء حرب تموز، نبيل حلاق، والزملاء عباس ناصر وعصام زعتر وأندريه ابو خليل (من قناة الجزيرة)، والقائد الذي له وجه فلسطين الشيخ رائد صلاح، وأتراك وكويتيون، من بينهم نائب، وليد الطباطبائي، وأردنيون وجزائريون وتوانسة ومغاربة. إنهم، هنا، ممثلون شرعيون لتوحد الأمة في الطريق الى فلسطين، ولو بعنوان غزة هاشم.
هل يفسر ذلك الرعبَ الذي أصاب إسرائيل فجعلها تواجه هؤلاء الذاهبين الى فلسطين ثانية بغير سلاح بكل أسلحتها الفتاكة، حتى لا تكون لها ثالثة؟ هل يخيفها العزل الا من ايمانهم، الى هذا الحد؟!
أم إنها تقول لنا جميعاً إنها تعرف ان الثورة هي الطريق الى فلسطين… وان هذه البداية المتواضعة، والسلمية تماماً، تفضح الكيان الذي قام بالسلاح، وبالسلاح يبقى، ولا يغادره الخوف حتى ذلك اليوم الموعود.
وها هي الأرض العربية، مشرقاً ومغرباً، تمور بالثورة التي تعتمد فلسطين كلمةَ سر حتى وإن لم تعلنها.
لقد خاض هاني سليمان ورفاقه تجربة خطيرة تؤكد القاعدة الأبدية: «ان لله رجالاً متى أرادوا أراد». ربما لهذا كتب عنها تحت عنوان «ستون دقيقة هزت العالم». لكن العالم الذي اهتز لم يتحرك لمنع المذبحة. وقفت دول العالم تتفرج على الحرب بين الدم والسيف، مرة أخرى، واثقة بالنتيجة الحتمية لهذه المواجهة المفروضة. كل ما فعلته أنها أدارت وجهها الى الجهة الأخرى حتى لا ترى… وفي اليوم التالي ادعت ان الظلام كان كثيفاً فلم تستطع التمييز بين القاتل المدجج بسلاح الغرب كله، والمقتول الذي سلاحه إيمانه وعشقه الأرض.
وفي انتظار الثورة التي تأخذنا الى فلسطين لنستعيد أسماءنا ومعنى وجودنا، لا نملك إلا الكلمات نحيّي بها الدكتور هاني سليمان ورفاقه في الرحلتين الطليعيتين، خصوصا وهم قد أكدوا ان تحدي القدر الإسرائيلي ممكن بسلاح الإرادة والإيمان بالحق الذي لا تُسقطه القوة الا الى حين.
متى الرحلة التالية، يا رفيق؟
متى تصحح البنادق المرتفعة في الكثير من جنبات الأرض العربية، تصويبها على الهدف؟
نتمنى أن يكون ذلك قريباً… قرب المباركة فلسطين.
[ كلمة ألقيت في هاني سليمان وكتابه «ستون دقيقة هزت العالم».
«خوخة في بوابه»: إبراهيم يستقل عن يوسف يزبك
أخطأت قراءة الاسم، بداية، ربما نتيجة اللهفة، ونظرت إلى الكتاب الذي أرسلته إليّ راعيتنا جميعا، نهاد عازار، متسائلاً: لماذا الآن؟ وماذا ذكّرها بهذا الذي عرّفنا إلى أنفسنا، «المعلم» يوسف ابراهيم يزبك؟!
العنوان طريف «خوخة في بوابة» ثم بخط أدق «غصن البان». والبداية تعريف بالخوخة وهي باب صغير في بوابة دار او قصر او صرح، يُستخدم لأهل الدار وللخدم والحشم… لأن البوابة الرئيسة لا تُفتح على مصراعيها إلا لزائر كبير الشأن.
«من هذا المنفذ الضيق عبَر ابراهيم يوسف يزبك بوابة التاريخ الأوسع التي كان والدي يحمل أحد مفاتيحها».
إذاً، هو ابراهيم بن يوسف، وليس يوسف بن ابراهيم! حسناً، وما علاقة هذا المثقل باسم أبيه وتركته الدسمة، في السياسة والكتابة والاجتماع ومحاولة اعادة كتابة التاريخ بمنطق أهله، وليس الذين غلبوا أهله فزوروا عليهم حياتهم، سياسياً واجتماعياً، وأعادوا كتابة وقائع أيامهم لتكون تاريخ غيرهم، بما يخرجهم ـ هم، أهل البلاد ـ من الجغرافيا والتاريخ؟!
ثم… من أين جاءت لهذا الابن اللغة العربية بأصولها والمكنيات، ومتى تسنى له ان يغب من بحرها الواسع ما مكنه من ان يتلاعب بالتوريات، وأن يبدع في رسم الشخصيات كاريكاتورياً عبر استخدام مكنوناتها الهائلة وجزالة اللفظ وغنى المشبهات والمتوازيات والمرادفات ذات الدلالات المتباينة بحدود، والمتقاربة حتى التماهي في رواسخ الأصول؟!
كل ما عرفناه عن ابراهيم يوسف يزبك انه كاتب بالفرنسية، وكنا نجرب القراءة له فلا تسعفنا أوليات ما تعلمناه من تلك اللغة التي تجنبناها في طفولتنا حتى لا نُتهم في وطنيتنا.
ما علينا، هذا كتابه في يميننا فلنقرأ… وإذا نحن امام خليط من رسام الكاريكاتور والمؤرخ والناقد الأدبي والشاهد العدل وصاحب الأسلوب الطريف في النقد بمنطق عالم الاجتماع، وذلك كله بأسلوب ممتع هو أقرب ما يكون إلى «السهل الممتنع».
فأما الشخصيات التي تناولها بقلمه (وربما بلسانه في مواقع أخرى) ابراهيم يوسف يزبك، فيختلط فيها الأديب والسياسي والشاعر والمؤرخ والعلامة والصحافي والقائد، وتتداخل فيها الوقائع المختارة بعناية نقّاد ظريف: من يونان وهبه والخطاط كامل البابا إلى كميل شمعون وسليمان فرنجية، ومن سعيد عقل وعبد الله العلايلي إلى حسني البرازي وشارل حلو، ومن غنطوس الراعي إلى ديغول، ومن فيكتور هوغو والافغاني ومحمد عبده إلى ملك الكلوشار، ومن سليم تقلا وعبد الحميد كرامي إلى فارس لحود والأسطول السادس، وغيرهم عديدون.
بين ألطف الحكايا التي يرويها ابراهيم يوسف يزبك في كتابه، واحدة بعنوان «سعيد عقل في حمام موليير». بعد تقديم عن تقديره للمفكر الكبير «الذي حملني طفلاً دارجا ثم تحمّلني فتى طائشاً»، يستذكر أياما قضاها مع سعيد عقل في باريس، التي وصلها مع مجموعة، فرفضوا النزول في الفندق المحجوزة غرفهم فيه.
أنقل هنا نتفاً من «مغامرات» الشاعر الكبير ونديمه.
«في ذات ليلة خرجنا من مسرح في وسط المدينة، وسلكنا الجسر المؤدي إلى الضفة الأخرى، حيث فندق سعيد عقل «أوتيل موليير»… كان الليل قد انتصف وحركة السيارات في الشوارع تتضاءل، وقد بدت مياه السين، ولا سيما ان أضواء الأبنية المجاورة تتمرى في صفحة النهر الساكن، كأنها تتدفق من جوف الماء، فنظرت إلى تلك الروعة ورددت:
«أنا بعض الليل ولا أبهى…
فأطلق سعيد عقل بصوت جهوري فجرته حنجرته العبّودية
«أنا صنو الناي ولا أعذب»
«فاستوقفنا صفير، وما لبث أحد حراس المدينة ان دنا منا طالبا تذكرتي هويتنا، لأننا اقترفنا عربدة وانتهكنا حرية النظام: ففي الليل يحظر الصراخ والضوضاء وتمنع القرقعة منعا باتا.
«عبثاً حاولت إقناعه بأننا أنشدنا بيت شعر واحداً، فلم يبال. وساقنا إلى زاوية مطلة على المخفر ما دمنا نرفض تسليمه أوراقنا.
«… أتتني فكرة «جهنمية» كما نعتها سعيد عقل في ما بعد، إذ قلت للشرطي: ما لك ولنا يا حضرة المفوض؟ ألا ترى أنني في صحبة الشاعر الكبير «مسيو أكل»، وأنني كنت أردد بيتا من شعره؟
«وأين الشرطي البلدي من الأدب والشعر و«مسيو أكل»، فما له وللشعراء جميعا؟ لكنه خاف أن يبدو جاهلاً، فأشار بإصبع إلى سعيد عقل وسألني:
انه مسيو…؟! أجبته: أجل، انه «مسيو أكل»، الشاعر الكبير.
وكان سعيد عقل يردد بالفرنسية بصوت خافت: موا، موا.
تبسم مأمور البلدية وقال: سأسامحك هذه المرة كرمى للمسيو… الشاعر، لكن، في المستقبل، حذار الصياح والعربدة ليلاً، حتى لو كنت برفقة فيكتور هوغو».
يصبح تلخيص الكتاب الذي تضمن رأي ابراهيم يوسف يزبك في كثرة من المشاهير عبر تقديم ملامح من شخصياتهم، عبر مواقفهم.
هنا سطور من بعض توصيفه شخصية الرئيس الراحل شارل حلو:
«يؤكد الكثيرون ان الصدق ليس الشيمة المفضلة لدى شارل حلو. وثم من يزعم انه لم يكن يخشى تحريف الحقيقة في أحيان كثيرة.
«في لقاء صحافي مع كميل شمعون، ربيع 1975، سأل صحافي الرئيس السابق: لماذا تتمنع عن الرد والاجابة بدقة وافية على غرار الرئيس حلو الذي لا يمكن ان تأخذ منه خيرا أو باطلاً؟
«انتفض الرئيس شمعون، وبدا على وجهه شيء من غضب، لكنه سرعان ما تمالك، فقال لسائله: إذا جاء لي متطفل مثلك واستطلعني عما لا يعنيه، فقد أذهب إلى عدم تزويده بالمعلومات الكاملة. أما ان تشبهني بذلك الذي يرسل في طلب الناس ويستدعيهم من بيوتهم لتضليلهم، فلا أقبل به.
[[[
«من خلّف ما مات»
هكذا يقول كبارنا. وبين كبارنا يوسف ابراهيم يزبك. وكتاب ابراهيم يؤكد مقولة كبارنا… وان كان قد أثار غيرتي لأنني كنت أفترض انه قد ترك لنا العربية، فإذا به قد أكمل ما باشره والده، اذ انه يكتبنا قبل ان يكتب عنا… ساخراً!
مــن أقــوال نســمة
قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ يخلط المحب بين حبيبه والوطن. يفلسف الأمر ببساطة: حبيبي هو أحلى ما في حياتي. انه يختصر كل ما هو مقدس وجميل، وكل ما يجعل الإنسان مميزا.
حبيبي كالمتعبد الذي يرى الله في الجمال… فيتعبد له في من يراه جميلاً.