البوعزيزي يكمل ـ بالنار ـ ديوان أبي القاسم الشابي
فجأة، ومن خارج التوقع، عاد أبو القاسم الشابي، بعد دهر من الغياب، ليكمل قصيدته التي غدت تميمة للشعوب المقهورة تدلهم على الطريق لتغيير واقعهم بالإرادة:
«إذا الشعب يوماً أراد الحياة/ فلا بد أن يستجيب القدر/ ولا بد لليل أن ينجلي/ ولا بد للقيد أن ينكسر»
نزل النشيد من معتقله في القصر إلى الشارع حيث جمهوره الذي طالما ردده ليهتدي به إلى قدرته على صنع مستقبله.
كان النشيد سجيناً في لحن حماسي يلتهم معاني كلماته، ويعطي شهادة لا يستحقها الآمر بعزفه تكريماً لضيوفه الرسميين.
كان النشيد في زنزانة بالقصر، وكان جمهور المنشدين، أي الشعب جميعاً، في البلاد الخضراء المحاصرة بالفقر والقمع والتبعية المزركشة بالعلم الأحمر المفتوح قلبه للهلال يحتضن نجمة غير عثمانية.
في البدء كان الأمر احتجاجاً هو أقرب إلى التظلم عند باب السلطان.
لكن «محمد بوعزيزي» بدّل الصورة تماماً حين أحرق نفسه لإعلان يأسه من أن يستطيع إطعام أطفاله بشهادته الجامعية.
قدم محمد بوعزيزي الوجه النقيض للنشيد ـ النداء إلى الثورة.. وكانت تلك الشرارة، وها هي ألسنة النار تلفح الدنيا العربية بمختلف أرجائها، في المغرب والقلب كما في المشرق حتى ذوبان البحر في المحيط.
صار في كل بلد عربي أكثر من محمد بوعزيزي واحد، وافتضح أمر تجار الموت ممن صادروا الأمل ولم يتركوا لرعاياهم غير النشيد.
[ [ [
لنعترف بأن أحداً منا لم يكن يتوقع أن تأتينا الانتفاضة من تونس المغيّبة منذ ما قبل زين بن علي وليلاه. بل لعلنا كنا قد نسينا هذه الدولة التي تطويها الجغرافيا في خليجها المنخفض كفاصل من الموسيقى الصامتة بين جارين تهدر فيهما الأصوات العالية، في حالات الغضب كما في حالات الحب وصفاء البال.
لم نكن نعرف من تونس وفيها إلا مجموعة من الأسماء والمسميات: الحبيب بورقيبة الذي اشتهر بوصفه الداعية الأول ـ من موقعه الرسمي ـ إلى الصلح مع إسرائيل، والرئيس التونسي الذي تجرأ فجعل الصيام في شهر رمضان اختيارياً، ومنع تعدد الزوجات وساوى في الإرث بين الذكر والأنثى.
… ومع «سي الحبيب» عرفنا زوجته الثانية، السيدة وسيلة، التي حكمت باسمه وبالنيابة عنه، وصارت ذاكرته ومعتقله وموجهة قراراته، ممرضته وعكازه وأمينة بيت المال الذي فاضت موجوداته عن قدرتها على حملها فجاءت بأشقائها وذوي الأرحام لمساعدتها في التوظيف الأعظم إدراراً للربح.
… نستذكر من باب الطرافة الباهي الأدغم، الوزير الأول الذي لعب دوراً معروفاً خلال الصدام بين العرش الأردني والمقاومة الفلسطينية التي كانت تتعاظم قوة ونفوذاً في الدولة الصغيرة التي أريد منها أن تكون بديلاً من فلسطين بعد إقامة إسرائيل. ولقد «خلد» الشاعر الشهيد كمال ناصر الذي اغتاله ضابط الوحدات الخاصة الإسرائيلية باراك في منزله ببيروت، فجر العاشر من نيسان 1973، مع رفيقيه الشهيدين كمال عدوان وأبو يوسف النجار، وكانت تلك البداية لما سيتفجر بعد ذلك حرباً أهلية في لبنان (بعد سنتين تماماً).
«قد جاء الباهي الأدغم/ قد ذهب الباهي الأدغم/ قال لنا ترلم ترلم ترلم/ وقال لهم ترلم ترلم ترلم»
عرفنا كذلك أسماء بعض الوزراء، وأشهرهم الشاذلي القليبي، الذي غدا بعد زيارة السادات إسرائيل مستلسماً، الأمين العام لجامعة الدول العربية التي ألجئت إلى تونس لبضع سنوات، حتى إذا غيّب السادات أعيدت الجامعة إلى أحضان الدولة الأولى التي تجرأت فأقدمت على الصلح مع العدو الإسرائيلي.. ولم يكن الحبيب بورقيبة قادراً على الاحتفال لأسباب صحية.
وبذريعة هذه الأسباب الصحية تقدم ضابط الأمن الذي وثقت به السيدة وسيلة فقربته وجعلته المؤتمن على «سي الحبيب» وعهده، فأخذ السلطة بهدوء، تاركاً «المجاهد الأكبر» يرتاح في المونستير، سامحاً له بأن يلتقي ـ بين الحين والآخر ـ من يخطب عليه.
عرفنا بالمقابل بعض المناضلين الذي شردهم «سي الحبيب»، ثم عرفنا أكثر منهم ممن طاردهم «الزين» الذي نصّب نفسه رئيساً بصلاحيات أمير المؤمنين.
وعرفنا أعداداً من الكتاب والشعراء والصحافيين الممتازين والذين كان القمع يجبرهم على الاختيار بين السجن والمنفى، وهكذا خرج الكثير منهم إلى أي مكان يمنحهم قدراً من هواء الحرية.
وتفخر «السفير» بأن ثلاثة على الأقل من هؤلاء قد اتخذوها منبراً فرفعت صوتهم مزهوة بانضمامهم إلى أسرتها.. لكن ذلك حديث آخر.
[ [ [
زرت تونس مرة في عهد بورقيبة، ومرتين في عهد زين العابدين، لكنني في المرات الثلاث تهيبت أن أجري حواراً مع أي منهما، بل ومع أي مسؤول يشغل منصباً رسمياً، لأنني أحسست أنني ـ مهما اجتهدت ـ فسأرتكب نوعاً من الخيانة للشعب التونسي، ولزملائي من الصحافيين خاصة… إذ لن تكون حراً في تسجيل كلام السيد الرئيس بل يصلك مكتوباً مع الصور المختارة التي خضعت لبعض الرتوش لكي يبدو غاية في الوسامة، وقد يصلك مع الحديث وسام وربما «هدية» لا تملك أن تقبلها.
خلال هذه الزيارات كنت أضيق بالهدوء الشامل الذي يغمر العاصمة، والذي كان «يعلن» عن حدود الحرية. أما المحاورات فمع الرسميين الذين يتقنون صنعة الكلام.. في حين أن الزملاء من الصحافيين والكتاب وحتى الشعراء كانوا يفضلون المسامرة، ثم يدسون آراءهم نثراً وشعراً داخل روايات أو دواوين شعر أنتجوها، وفي بعض الحالات ضمن أشرطة غنائية لمطربين ومطربات معروفين.
للمناسبة: تونس متقدمة فنياً، ففيها معاهد ممتازة للموسيقى وأصول الغناء، وللمسرح والفولكلور، ومنها مطربون ومطربات مميزون لم ينالوا حقهم من التقدير إلا بعد الخروج من المعتقل الرئاسي، بعضهم جاءته الشهرة عندما وصل إلى القاهرة وتنقل بعضهم بين بيروت ودمشق وبغداد (قبل اكتشاف الخليج)، وبعضهم الآخر قصد فرنسا فغنى بلغتها وأطرب.
كذلك فإن في تونس نخبة من الصحافيات والصحافيين، وذات يوم كانت نقابة الصحافيين في عهدة النقيبة رشيدة التي نجحت في تحقيق نقلة نوعية بالنسبة الى حقوق العاملين في مهنة المتاعب.
[ [ [
من زمان، استقر في اليقين أن تونس قد أخرجها نظامها من دائرة الفعل، وإن كان سمح لها الإسرائيليون (بطلب من الأميركيين طبعاً) أن تكون دار لجوء للمقاتلين الفلسطينيين الذين أخرجهم الاجتياح الإسرائيلي من لبنان (صيف 1982).. ولقد جعلها نظامها، حتى بعد اتفاق أوسلو، محطة للتواصل… السلمي.
وبقرار واع، أخرج النظام تونس من دائرة الفعل، وحصنها بأسوار من القمع المزمن بمبتكرات الترويج السياحي، فإذا هي دار متعة، فيها منتجعات نموذجية تأتيها قوافل السياح المبرمجة رحلاتهم عبر اختيار المحطات المشمسة الأقل كلفة.
مع تعاظم ثروات أهل الخليج نشأ نوع من التبادل غير المتكافئ: يأتي الخليجيون طلباً للاستثمار المجزي والمتعة والدعة على الشاطئ الجميل، ويذهب التوانسة ـ رجالاً ونساءً ـ للعمل في إمارات الخليج بشروط أصحاب المال.
[ [ [
إلى ما قبل الانتفاضة التي غمرت بالياسمين، تجاوزاً، كانت تونس هادئة أكثر مما يجوز… ربما نتيجة القمع، وربما نتيجة اليأس وافتقاد القدرة على التغيير.
ربما لهذا كانت تكفي حادثة واحدة، من خارج السياق، لكي تنفجر البلاد بحاكمها، وكان محمد بوعزيزي بصورته والنار تلتهمه وهو يجأر بالشكوى من أنه ضاق ذرعاً بيأسه من إيجاد فرصة عمل تحفظ كرامة شهادته الجامعية وتوفر له السكن واللقمة النظيفة والقدرة على إعالة أسرة، هي صورة من طلب الحياة لشعبه بالموت علناً وفي الشارع وأمام الكاميرات.
ولأن اليأس «عربي» الهوية في هذه المرحلة، فقد صار محمد بوعزيزي نموذجاً يحتذى، وبتنا نباغت كل يوم بحارقي أنفسهم، يأساً، في الشارع: في القاهرة، في الجزائر، في موريتانيا، في المغرب، في الأردن، في اليمن إلخ.
كأنما لا أمل في أي مكان. كأنما العربي محكوم باليأس، قومياً ووطنياً وشخصياً.
كأنما قد أرشد محمد البوعزيزي جيلاً كاملاً من العرب المعطلين عن الإنتاج، مفتقدي دورهم (وكرامتهم) في أوطانهم، الهاربين من بلادهم إلى مستعمريهم القدامى من البريطانيين والفرنسيين أو الجدد من الأميركيين من أجل لقمة العيش المغموسة بعرقهم، ولكن مع شيء من الكرامة.
لكأنه تنبيه بنار الأجساد المحترقة لهؤلاء الحكام الأبديين، ناهبي ثروات بلادهم ومصادري حريات شعوبهم، ومهدري كرامة مواطنيهم.
[ [ [
لن ينزل التغيير في سلة من الفضاء. ولن يبدل السلطان سلوكهم وهو يرى الرعية في شغل من همومهم عنه، مع أنه مصدر هذه الهموم.
وهكذا فقد عاد أبو القاسم الشابي بحداثة إلى الشارع منبهاً: إذا الشعب يوماً أراد الحياة.
والإرادة فعل، لا يختصرها التمني ولا يستحضرها التحسر على انعدام القدرة…
وتونس اليوم في مأزق خطير لأن من في الداخل تباعدوا إذ أقامت بين بعضهم والبعض الآخر سلطة القمع، فجعلتهم أغراباً عن بلادهم، كما أن الذين تمكنوا من الوصول إلى المنافي لا يعرفون من في الداخل عن قرب، ولعلهم يفترضون أن عملية التغيير تتكامل تلقائياً.
إنهم أغراب يلاقون أغراباً، ليس لديهم برنامج موحد إلا التوق إلى الحرية والعدالة والخبز مع الكرامة.
من في الداخل نسوا الكلام، والعائدون من المنافي يرطنون بكلام ليس مؤكداً أن له صداه المطلوب في الداخل.
وتلك أزمة أخرى لا يحلها الشعر، وإن كان يدل على مصدر الفعل: الإرادة.
وها ان أهل النظام العربي قد هبوا لشراء الانتفاضة المجيدة ودماء شهدائها بقليل من الذهب حتى لا تنتقل عدواها فتجتاحهم النار التي التهمت محمد البوعزيزي.
بطاقــة انتمــاء
كلما طال غيابه ازداد حضوراً
وكلما استذكره حكام الحاضر شحب وجودهم إلى حد الغياب.
يرحل جيل ويأتي جيل فإذا هو ممتد في الذاكرة، في الأمل، في إرادة التغيير، في مقاومة الهزيمة، في تحدي مشاريع الهيمنة، في الإصرار على إكمال مسيرة النضال حتى النصر.
ليس صورة على الجدار، انه بطاقة انتماء إلى طموحات الأمة.
وليس استذكاره نوعاً من التصنيم، بل هو أقرب إلى تجديد العهد باستكمال ما قصر عنه، وهو الذي كان في معركة مفتوحة مع نظامه، يتقدم بزخم روحه نحو أهداف الأمة فيشده إلى الخلف كل الذين يرون السلطة أهم من الوطن.
… وها هي السلطة في أربع رياح الأرض العربية تدمر الأوطان، تقسم الشعب الواحد طوائف ومذاهب وعناصر مقتتلة، فإذا الحاضر فتنة وإذا المستقبل في يد إسرائيل وإذا المصير منحة أميركية.
لنعترف اننا نلجأ إليه بعجزنا عن التغيير،
لنعترف اننا نكاد نستهلكه ونحن نطالب صورته بأن تنوب عنا في خوض معركة إثبات الأهلية والقدرة على إعادة صوغ حياتنا بما يتناسب مع شرف الانتساب إلى طموحه الثوري،
واجه الكيانية وها نحن نقتتل فنقتل الكيانات ولا وحدة،
واجه الأصوليات وها نحن نخاف من الأصوليين فنهرب إلى الأميركيين وحتى إلى الإسرائيليين.
هو ليس الحلم.
انه فلسطين: لا تعود بالدعاء، ولا تتحرر بالمساومة مع شيلوك،
ولا تستعيد هويتها برفع الأعلام الزاهية فوق البيوت التي تلتهمها جرافات المستوطنين.
هو ينتظرنا في ميدان المواجهة مع العدو الذي قاتله جندياً من قلب الحصار العسكري وقاتله رئيساً من قلب حصار نظامه المحاصر دولياً، وقاتله قائداً عائداً إلى الجبهة مثقلاً بدروس التجربة التي أرشدته إلى طريق النصر.
هو الآن فلسطين.
وهو ينتظرنا فيها… وها هي تونس تلبي نداء شاعرها فتنهض لتصنع قدرها.. بالإرادة.
(كلمة ألقيت في استذكار عبد الناصر)
مــن أقــوال نســمة
قال لي «نسمة» الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ إياك أن تهرب بحبك إلى ذكرياتك.
الحب لا يرتضي أن يصير ماضياً.
إنه ديوان شعر لما يكتمل، يمكنك بل عليك أن تضيف إليه لا أن تترنم بقديمه وكأنك قد فقدت ملكة الكتابة.
الحب ليس قصيدة. الحب الحياة… مموسقة ومغناة.