جهاد كرم الشاهد على «بعثيين من العراق»..
أخيراً، وجد جهاد كرم الفرصة لإفراغ شحنة الحزن المكثف التي يعيش في إسارها منذ أن انتبه إلى الحجم المخيف للخيبة التي مُني بها جيله بعد مسلسل التجارب المفجعة التي دمرت «زهرة شباب الأمة»، على امتداد نصف القرن الماضي والتي ذهبت بالأحلام والأماني والآمال في الوحدة والحرية والاشتراكية.
لقد أعطى جهاد كرم عمره كله لحزب البعث، منذ أن تفتّح وعيه على حقائق الحياة، من محازب في بعض أعمال الكورة، شمال لبنان، إلى قيادي وعضو المؤتمر القومي في بداية الستينيات، ثم في منتصفها حيث تمّ الانشقاق ليليه انشقاق ثان وثالث أخرج الحزب في سوريا على «القيادة القومية» بعدما تسلمه «العسكر».. فإلى العراق حيث نجح الحزب، بالاشتراك مع العسكر (عبد السلام عارف ورفاقه) في الاستيلاء على السلطة، ليخرج منها بعد شهور وعبر التصادم بين الحزب و«الحرس القومي» الذي أنشأه حزبيون ليكون «جيشهم»، ثم يعود إليها بعد أربع سنوات بتحالف مؤقت سرعان ما تهاوى مفسحاً في المجال لقيام «حزب القائد» الذي سيحكم العراق ـ بالدم ـ لثلاثة وثلاثين عاماً مثقلة بالحروب والمغامرات، بالإنجازات والاغتيالات، بالاستقرار داخل القبضة الحديدية للرئيس الذي ألغى الآخرين جميعاً، وحكم لوحده عراقاً مدمراً لم تتبق لديه القدرة لمقاومة الاحتلال الأميركي حين اقتحمه بعد 35 سنة من الحكم الذي ظل يستخدم اسم الحزب لافتة، بقدر ما استخدم «القائد المؤسس» تميمة تمنحه شيئاً من «الشرعية» الرمزية من دون أن تقوى على استنقاذ الحزب أو شعاراته الغالية.
كتب جهاد كرم، بعد تردد طويل، تجربته الحزبية متوقفاً أمام جانبها العراقي، إذ إنه انحاز إلى «القيادة» في بغداد فأكرمته ضمن مَن أكرمت من الرفاق غير العراقيين، وعيّنته سفيراً في أكثر من دولة بينها البرازيل والهند، مفيدة من كفاءته ودماثته وإخلاصه وإيمانه العريق بالعروبة.
ولقد اختار جهاد كرم الابتعاد عن التقييم السياسي للتجربة العراقية بكل ما حفلت به من معارك وإنجازات وإخفاقات وخسائر مدمرة، وأساساً من الدماء، وبالتحديد دماء الرفاق.. فلم ينصّب نفسه قاضياً مكتفياً بموقع الشاهد الذي قد تشطح به عواطفه ولكنه سرعان ما يتدارك مترحماً على الشهداء الذين أودى بهم الغلط وعلى الإنجازات التي دمرها التفرد وضيق صاحب السلطة بالآخرين حتى لو كانوا من ذوي القربى ومن أخلص المعاونين… فالفردية تستولد الشك بالآخرين جميعاً حتى لو كانوا إخوة وأبناء عمومة وأصهاراً ورفاق سلاح لا تنقصهم الشجاعة والاستعداد للتضحية.
«بعثيون من العراق، كما عرفتهم»: بهذا العنوان حدّد جهاد كرم مساحة الكتابة، مبتعداً عن الرفاق في لبنان، إلا من اضطره السياق لذكرهم، والأهم عن الرفاق في سوريا برغم أن تجربتهم مع السلطة في دمشق غنية، ولكن ربما من الأفضل إرجاء الحديث عنها إلى وقت لاحق.
يستذكر جهاد كرم في كتابه أكثر من مائة من نجوم مرحلة الحكم التي بدأت تحت راية الحزب لتنتهي ـ كما تجارب أخرى عديدة ـ بقائد فرد، له وحده حق القرار بمصائر الأفراد والجماعات كما بمصير الوطن ودولته.
ولأن جهاد كرم فائق التهذيب، عف اللسان، ثم إنه يعيش حالة من الحزن النبيل على فشل التجربة، فهو قد قدم هذه الشخصيات التي أسهمت فأسست لحكم الحزب في العراق بأقصى قدر من الموضوعية، لكنه لم يستطع دائماً طمس عواطفه فظلت تطل عبر التقييم أو حتى عبر الإشارات الخاطفة فتكشف ما جاهد لإخفائه أو للتخفيف منه.
نقطة البداية مع القائد الفعلي لحزب البعث في العراق، فؤاد الركابي الذي سجنه «رفاقه» بغير ما تهمة معلنة، غير لعبة الصراع على السلطة، ثم أرسلوا من اغتاله في السجن، وفي ظروف مريبة ومعيبة..
وتكر الأسماء: علي صالح السعدي، القائد القاسي، والذي أسّس لعهد الدم، عبر «الحرس القومي» الذي أنشأه كميليشيا مسلحة سرعان ما اصطدمت بالحزب، كما استفزت الجيش… وفاضت شوارع بغداد بدماء «الرفاق» في اللعبة الدموية للسيطرة على السلطة والتي أفضت إلى تفرد عبد السلام عارف بها، ثم إلى شقيقه عبد الرحمن بعد السقوط الغامض للطائرة الرئاسية… وكان طبيعياً أن يقود سياق الصراع إلى عودة البعث إلى السلطة بالتحالف مع العسكر، الذين تولى صدام حسين ومن حضن نسيبه أحمد حسن البكر التخلص منهم على دفعات بدأت أولاها في الأيام الأولى، ثم طاولت البكر نفسه بعد سنوات استتب الأمر خلالها لصدام.
يلخص جهاد كرم بنزاهة حالة الحزب في العراق بالقول:
«إن معظم البعثيين في العراق قد انتقلوا من عشائرهم وتجاوزوها إلى الحزب، من دون أن يمروا بالمواطنة. ومن هذا المنطلق تحول الحزب إلى عشيرة ينصر الحزبي فيها رفيقه بغض النظر عن الصواب والخطأ، وأصبح الأمر بالنسبة إليه، من جراء ذلك، قضية حياة أو موت، لا مجال فيها للتردد أو التقاعس أو حتى إظهار أي تنازل أو رغبة في الحوار، حتى لا يفسر ذلك تقاعساً أو جبناً».
ويمكن لأي صحافي أو دبلوماسي أو رجل أعمال زار بغداد خلال تلك المرحلة أن يقدم شهادته حول التكتلات العشائرية أو الجهوية التي كانت تتقاسم السلطة تحت راية الحزب الخفاقة وتحت قيادة صدام، سواء يوم كان «السيد النائب» أو يوم غدا «القائد الملهم».
كان أصحاب القرار واضحي صلات القربى حتى بعد حذف التحديدات الجغرافية: الأكثرية بين الأعظم شأناً من تكريت وما جاورها من أبناء العشائر «الحليفة» شمالاً ووسطاً. على هذا كان لا بد من شطب «الجهة» من الاسم حتى لا تظهر غلبة التكريتي، السامرائي، الراوي والحديثي والدوري… خصوصاً أن «الجهة» تتضمن «الطائفة» أو «المذهب»، وها هو العراق يدفع ثمن احتكار السلطة واعتبار أي معارض أو معترض أو محذر أو منبّه، ومهما كانت درجة إخلاصه، خائناً أو منشقاً يستحق الإعدام.
ولقد تصرف جهاد كرم بنزاهة: لم يغفل ذكر أحد ممّن عرفهم، وهم كثيرون، ولكنه عبّر عن عاطفته أو رأيه بمساحة القول، اختصاراً أو إطالة، وهكذا أمكنه أن يقدم صوراً مقرّبة لأكثر من مائة من أهل السلطة في عراق صدام حسين الذي استغنى بذاته عن الحزب، وإن بالغ في تكريم القائد المؤسس بحيث رأى ميشال عفلق أن عليه أن يشهر إسلامه ربما لكي ينسجم مع المرحلة أو ربما لكي ينعى الحزب الذي كان أخطر مؤسسيه، بطريقة حضارية.
الكتاب يقدم صورة مقرّبة لأهل الحكم في العراق بامتداد ستين سنة إلا قليلاً احتل صدام نفسه حوالى نصف قرن منها، بالشراكة مع نفر قليل أو منفرداً.
ولأن جهاد كرم خلوق ومن أهل الوفاء فقد كان طبيعياً أن يتجاوز الكثير من الحقائق التي يعرفها تماماً لأنه عاشها مباشرة… إذ كيف له أن ينسى أن هذا العراق، وبغض النظر عن شخص حاكمه، قد شرّفه بتمثيله في أنحاء مختلفة من العالم، فضلاً عن أن كثيراً ممّن تولوا الأحكام ثم أُخرجوا منها خلال الصراع على السلطة كانوا من أصدقائه الحميمين.
كتاب جهاد كرم يؤرخ لمرحلة غنية من تاريخ العراق الذي كان والذي ذهبت به «السلطة» وفتحته أمام الاحتلال الأميركي وأمام التمزق الطائفي والمذهبي والعنصري.
وجهاد كرم هو الشاهد وليس القاضي.. ومثله رفيقاه اللذان يعرفان مثله وربما أكثر منه: بشاره مرهج ومعن بشور.
جودت فخر الدين يحاور الحور عبر الغيم..
«غيوم البدايات أجمل» لكن جودت فخر الدين يتدبّر للأفق باباً.. وهكذا فهو يغزل من الغيم ديواناً جديداً يرتكز إلى أشجار الحور التي وحدها تتجاوز قامة جودت فتمنحه بصحبتها الشعور بالألفة ثم الصداقة التي يسهل معها تبادل الاعترافات.
وهكذا جاءنا جودت فخر الدين الذي يسميه البعض «المئذنة» والذي كثيراً ما مشى بعض رفاق العمر في ظله، أو ارتقوا على كتفيه لكي يقطفوا النجوم، بديوان جديد مكرّس لصديقيه الأثيرين: الغيم الذي يطاوله فيحتمي به، والحور الذي يؤانسه ويسمع اعترافاته الحميمة فينثرها في الغيم ليشكّل الثلاثة معاً القصيدة والديوان.
«نهاري وليلي غيوم.. وفي الصيف لا يسهر الغيم.. قد يمر سريعاً ويمضي إلى النوم.. يرقد ملء الوهاد.. وفي الصبح يصحو ضباباً».
يملأ الغيم الديوان الجديد لجودت فخر الدين الذي يروي فيه بعض سيرته معه، خصوصاً أن معظم القصائد قد كتبت في البعيد الأميركي، (بلومنغتن ـ أنديانا)، ذات خريف يبدو وكأنه ما زال متصلاً.
لكن أجمل قصائد الديوان، وهي التي أهداها الشاعر إلى أبيه تتجاوز الغيم والموت لتستبقي الشعر:
«وحدك الآن من دون خوف … دع الخوف لي
«وحدك الآن من دون يأس… دع الياس لي
«غير أنك أورثتني نبل خوفك… أورثتني طهر يأسك».
يتمدد الغيم حتى يصبح سماء، وقد يسكن الوردة، كما يسكن الذكريات، وهو «يمضي ويمضي… أحدثه، لا يحدثني»، لكن «الظلال التي تتساقط منه تجالسني وتسير معي وتعانقني ثم تمضي بلا هدف في سمائي».
ولأن جودت فخر الدين بطول نخلة فقد تسببت له قامته بمشكلة حاول أن يحلها شعراً: وكنت أرى كل شيء قصيراً، فرافقني الحور، رافقني كأخ لي طويل»… وهو يواصل سجاله الطريف مع الحور حتى تكاد تشفق على الاثنين معاً:
«ربما أنا ظل له.. ربما هو ظلي، ويساوره كل ظن يساورني
«سر الصداقة ما بيننا أننا نتشابه في خجل
«ونعانق وحشتنا في الأعالي ويحفر فينا الأذى»
ولأنه طويل فقد هام بجودت الليل وأفسح له كي يراه:
«أراد لي الليل أن أتلمس دربي
«فأطلقني في السماء التي احتضنت حضرموت
«ولكنه عندما خف ثانية للرحيل، ترأف بي
«ضمني ـ مثلما في الطفولة ـ مستجمعاً عزمه، آخذاً بيدي»
ها هو جودت فخر الدين يعبر الشارع، مرة أخرى، وقد كلّله الغيم الأبيض مرتفعاً به من فوق العمارات الشاهقة التي تفضح فقرنا وتجعلنا أقزاماً فلا نستعيد قاماتنا إلا بالشعر الذي من دونه لا عمران ولا حياة مهما تزايد مليارات البشر الذين يأخذهم «تمدنهم» بعيداً عن الشعر.
«فكّر فيها» و«اختصر»: مغامرتان في واحد!
لم يفتعل فيصل سلمان أسلوبه، فلقد اشتهرت عنه كلمة «اختصر» في الشفهي كما في الخطي… وكثيراً ما أغضب أصدقاء وزملاء، فضلاً عن الأهل الأقربين، بإلحاحه على ضرورة «الاختصار» في الحديث، مفترضاً أن الإطالة تسيء إلى ذكاء المستمع (أو القارئ) كما إلى «الموضوع» ذاته.
كان الامتحان صعباً لكنه نجح فيه، مفيداً من ملكة الظرف عنده التي تجعله أقرب إلى رسام الكاريكاتور الذي يمكنه أن يلخص المفارقات المضحكة بالقليل من الخطوط، لأن «الفكرة» هي الأساس.
وحين أقدم فيصل على مغامرة «فكّر فيها» عبر التلفزيون خشي عليه المعجبون بأسلوبه من الفشل، فالكاميرا ليست قلماً، والكادر ليس ورقة يمكنك أن تطويها أو ترميها، و«النص» يصل مباشرة إلى المستمع ـ المشاهد بغير وسيط… والمحاكمة فورية والحكم مبرم!
لكن «الجمهور» المتعب من الثرثرات السياسية والمماحكات التي تذهب بالموضوع وجد في هذه المغامرة ما يلبي احتياجاً عنده…
فكرة واحدة بصياغة ذكية تلامس الهموم والمشكلات من دون خطابة ومن دون مواعظ، ومع قفز من فوق رؤوس الأقطاب والزعامات وصعاليك الكلام، قد ترسم ابتسامة صغيرة بطرافتها، وقد تصدم عبدة الأصنام بجرأتها قبل أن تنطفئ تاركة للجمهور فرصة التفكير!
نجح فيصل سلمان في مغامرته بفضل الجمهور الذي وجد في هذه الالتماعات الذكية فرصة للتخفف من أثقال التعليقات التي تنبع من الفراغ وتصب فيه.
ليسوا كثيرين أولئك الذين نجحوا في الخطي والشفوي، المرئي والمسموع معاً.
ملاحظة: أظن أن فيصل سلمان لن يكمل قراءة هذا النص الذي لم يحترم شعاره «اختصر».
مــن أقــوال نســمة
قال لي «نسمة» الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ لا تقسو على حبيبك في عتابك. القليل من العتاب يستدر الكثير من الحب،
ولا مجال للمفــاضلة بين طلب الحب وبين بذله بحراً يجرف العتــاب واللوم والأوهام التي تملأ الغياب!