«الدستور»: حرية الصحافة في مصر قناع من كلام؟
إلى ما قبل سنوات قليلة كنت أذهب إلى القاهرة، كغيري، مثقلاً حقيبتي بالعديد من الصحف والمجلات والكتب التي لا ترضي «الرقيب» فيمنعها من قبل أن يقرأها.
لكنني في زياراتي الأخيرة كنت أعود من القاهرة حاملاً نسخاً مزركشة الألوان من الصحف اليومية التي تكاثرت، بشكل ملحوظ، تحت هويات عديدة: بعضها ينطق بأسماء أحزاب مرخصة، فضلاً عن صحف الحزب الحاكم، وبعضها الآخر ليس حزبياً تماماً وإن كانت تبعيته لبعض رجال الأعمال الذين صاروا في الفترة الأخيرة شركاء في الحكم والقرار. وإلى جانب هذه وتلك بعض الصحف الخاصة التي تقارب التعبير عن «روح مصر» بالاعتراض وكشف الفضائح وتذكير المصريين بقدراتهم وحقهم في التغيير.
كانت الصحف، بألوانها الفاقعة وعناوينها الضخمة، وصورها التي تحتل مساحات واسعة في الصفحات جميعاً وليس في الصفحة الأولى وحدها، تكاد تصرخ مبشرة أو محذرة أو منذرة بالويل والثبور وعظائم الأمور… وكان يحتشد في كل منها عدد هائل من الكتاب والمحررين. بل إن بعضاً من هؤلاء الكتاب كانوا ينشرون مقالاتهم في أكثر من صحيفة، وأحياناً في صحيفتين متعارضتي التوجهات والولاءات. كذلك كان العديد من رؤساء التحرير يتبادلون مواقعهم في ما يشبه لعبة الكراسي الموسيقية، فينتقل اليساري السابق، من بعض صحف الحزب الحاكم إلى صحف معارضة، والعكس بالعكس، وينتقل المتدين المتشدد إلى صحيفة ليبرالية، وتتحول صحيفة ذات سمعة تقدمية إلى الناطق الرسمي باسم توجه يميني من دون سابق إنذار.
÷÷ عن «الشروق» و«وجهات نظر».. و«الدستور»
.. ولقد أسعدتني مصادفة أنني كنت قريباً من تبلور مشروع جريدة «الشروق» ثم صدورها، بحكم «الصداقة التاريخية» مع الدينامو الخلاق «الباش مهندس» إبراهيم المعلم، الذي أخذته الحماسة إلى الصحافة بعد النجاح المميز في دنيا النشر، وهو الناشر الأخطر والأكبر، بل يمكن القول إنه قد أنشأ أو أنه أعاد إنشاء مكتبة عربية تتميز بالغنى والأناقة والتنوع والشمول. وهو كان أصدر قبل «الشروق» أرقى مجلة شهرية عربية «وجهات نظر»، بعدما نجح في إقناع صحافي عصرنا محمد حسنين هيكل بأن يبارك إطلاقها ببعض كنوزه المخبوءة ففعل.. كما أنه استدرج الفنان الكبير حلمي التوني ليتولى تزيينها ببعض إبداعاته رسماً وإخراجاً، بينما تولى الكاتب المحترم سلامة أحمد سلامة رئاسة تحريرها، حتى قضى «الواجب» بأن ينتقل إلى «الشروق» لإطلاقها، قبل ثمانية عشر شهراً.
وسط المهرجان الإعلامي الملون، سياسياً وفنياً، بالأحمر والأزرق والبنفسجي والأصفر والأخضر، برزت جريدة «الدستور» واحتلت سريعاً موقعاً في الصدارة، بسبب الجرأة التي بلغت في حالات عديدة حد «التهوّر» لا سيما في مقالات رئيس تحريرها إبراهيم عيسى، مما كلفه الإحالة إلى المحاكمة… فذهب محاطاً بجمهور عريض من مناصري حرية القول، وانتهى الأمر بحكم قاس بالسجن، تلاه عفو رئاسي، وعاد إبراهيم عيسى ليستأنف ما كان باشره، متجنباً المس بشخص «بارك الله لنا فيه»، كما يشير حسنين كروم، غالباً، إلى الرئيس المصري.
فجأة، تقدم لشراء «الدستور» سياسي مستجد هبط بالمظلة على حزب الوفد (العريق) فصار رئيسه، وقد واكبه واحد من «القطط السمان».. ولأمر ما تخلى صاحبها (وهو ابن لوزير خارجية شهير في تاريخ مصر السادات، إسماعيل فهمي) عن هذه الجريدة الناجحة. وقدمت إغراءات مادية لافتة لإبراهيم عيسى مع ضمانات لاستمراره رئيساً لتحرير «الدستور» مع التعهد بحماية أسرة التحرير. لكن ذلك جميعاً تبخر قبل انتصاف الليل، وتفجرت أزمة بأسئلة كثيرة، أخطرها: هل عادت السلطة إلى تدجين الصحافة بعد فترة سماح محدودة، بناء لنصيحة أميركية؟ وهل من اشتراها مكلف، لا سيما أنه سرعان ما أسقط سمعته وحزبه في دوامة من الشائعات الخبيثة، و«هرب» تاركاً شريكه الطارئ في مواجهة الأزمة.. وقد واجهها بمسلسل من التهديدات والتحديات التي وجد البعض أنها لا تبشر بالخير في كل ما يتصل بحرية القول في مصر.
[ [ [
المهم أن المصريين قد خسروا صحيفة كانت تعبّر ـ إلى حد كبير ـ عن رأيهم في السلطة بمواقفها المختلفة، من الرئيس وعائلته، إلى «الحزب» الحاكم بالأمر، إلى «حكومة البيزنس» التي تبيع أراضي الدولة «لرجالتها» بأبخس الأثمان، ليعيدوا بيعها ـ بعد إتمام الفرز ورسم مخططات المدن الجديدة التي ستقام فيها ـ بأرقام فلكية.
والخشية الآن أن يكون ما جرى لـ«الدستور» مقدمة لنهاية مرحلة من إشاعة مناخ من الحرية المضبوطة بمصلحة النظام، والعودة إلى الحجر على حق القول كمقدمة للانتخابات التي لم تكن في أي تجربة سابقة أكثر من مسرحية ممجوجة، معادة ومكررة، ترفع فيها شعارات براقة بأكاذيبها، لا تنفع إلا في تأكيد تجيير أصوات الناخبين جميعاً «لمرشح أوحد».
إن واحدة من معارك حرية الرأي والتعبير تجري الآن في مصر، التي حاول نظامها تزيين وجهه بقناع من كلام سرعان ما تهاوى مع القضاء على… «الدستور»، كجريدة، وكضامن لحرية العمل والرأي والقول.
[ [ [
في اللقاء الأول، انتبهت، بعد حين، إلى أنني أتأمله بتدقيق لافت: ملامحه السمراء، ككل أبناء الصعيد الجواني. لغته الناضحة بالثقافة، مع غناها بالصور الكاريكاتورية والتفاصيل الدقيقة التي لا يلتقطها إلا رسام مبدع أو روائي يستمد قلمه ملامح شخصياته من الناس الطبيعيين الذين يلتقيهم، في الأمكنة البسيطة التي يرتادها: الطريق إلى المكتب، في الأوتوبيس أو القطار، أو في محطات الانتظار، في المكتب أو في المقهى أو في المطعم أو في الملهى.
اكتشفت عبر حديثه الشيق أنه لا يكتب عمن لا يعرف، وعما لا يعرف. إنه يذهب إلى «أبطاله» في أماكنهم، ويجلس يتأملهم ويحادثهم، يسمع منهم ـ بعد أن يطمئنوا إلى «غربته» عنهم ـ حكاياتهم بوقائعها الأصلية. يسرّي عنهم ويطمئنهم ليبوحوا بمزيد من الهموم التي تشغلهم. يدافع عنهم إذا ما جاء رجال الأمن في طلب بعضهم. يقدم شهادته ببراءتهم، فيصير صديقهم: يعترفون له بما لا يمكن أن يعرفه العسس. يصيرون أصدقاء.. وأبطالاً لرواياته الممتازة.
علاء الأسواني: طبيب الأسنان الذي يروينا بنيران صديقة!
كانت جلسة التعارف «رسمية»، جاء إليها ببذلة غامقة وربطة عنق حمراء، يتقدمه أدبه الجم. انحنى يقبّل يد السيدة الوحيدة التي تصادف وجودها معنا، وجلس يسأل ويستمع، ولا يتحدث إلا إذا توجهنا إليه بالسؤال، فيرد ثم يجيل عينيه بيننا كمن يريد أن يطمئن إلى أننا لا نسأل إلا لكي نفهم ما استغلق علينا فهمه.
بعد العشاء امتد حبل الود عبر الحديث الحميم، عن المهانات التي تحفل بها المرحلة التي نعيش، عن الأدب بالرواية والقصة والكتابة الصحافية، عن جيل الرواد الذي أرسى دعائم الفنون والآداب، وعن الجيل التالي وصولاً إلى محاولات الكتّاب الجدد التي يتابعها في الداخل ـ مصرياً وعربياً ـ وعلى المستوى الدولي.
روى علاء الأسواني بعض حكايات عمره، وبعض مغامراته الاستكشافية، في «خمارات» القاهرة، كما في منتديات شيكاغو التي أكمل تخصصه في طب الأسنان فيها. حكى عن العسس الذين يترصدون الناس حتى في لحظاتهم الحميمة، وكيف يستقوون على المستضعفين وينافقون «الأقوياء» بالسلطة أو بالمال. واستمتعنا بحكاياته التي كان يرويها وكأنه قد فرغ للتو من كتابتها. شدنا إليه ظرفه ودماثته وبراعته في سرد «مغامراته» التي كان يندفع فيها لاستكشاف بعض الجوانب المعتمة من العادات والطقوس وردود الفعل في مجتمعه. كان يتوغل عميقاً في النفس الإنسانية، وبالتحديد في ما يتصل ببسطاء الناس، محاولاً أن يعرف أكثر عن المخبوء في الخفايا، من عواطف يختلط فيها الحب والإعجاب بالحقد والكراهية، والاهتمام باللامبالاة، والجدية بالعبثية إلا حين يتصل الأمر بالذات التي تغدو أهم من الوطن (المضيّع أصلاً) والقضية (المهجورة والمتروكة للريح، ومن زمان).
تحدث طبيب الأسنان كعالم نفس. وتحدث الروائي كعالم اجتماع. وتحدث الكاتب كشاعر.
ثم كان أن التقينا مرة أخرى، وكنا قد غدونا صديقين. كان يتابع ما يحدث من حول مصر بوعي العارف أن ما يضج في محيطها سيصل إليها مضخماً، وسيؤثر فيها قطعاً، وإن ظل الأمل في التغيير للحاق بالغد مرتبطاً بحركة شعبها ذي التجربة المميزة والقدرات غير المحدودة. كان يدرك أن فلسطين لا تزال حاضرة بقوة في وجدان المصري الذي قد لا يكون فصيحاً في التعبير عن عروبته لكنه عربي حتى العظم… وبالتالي فهو معاد، بالفطرة كما بقوة القهر والشعور بالانسحاق لإسرائيل التي ما زال ينظر إليها كعدو، متخطياً المعاهدات المهينة والاتفاقات المذلة (لمصريته كما لعروبته كما لدينه)… حتى من قبل أن تعلن نفسها دولة يهود العالم… الديموقراطية!
وحين انقلب علاء الأسواني يسألنا عمن رأينا وما شهدنا، عن انطباعاتنا قبل آرائنا، أحسسنا أننا ندخل ـ تدريجاً ـ في رواياته المقبلة.
في اللقاء الثالث صار المستقبل هو موضوع الحديث، وليس الماضي.
أحسست أن علاء الأسواني يبحث عن ميدان صراع. يريد أن يتخطى حواجز اللياقات والمجاملات والتقية إلى المواجهة المباشرة. من هنا اندفاعه إلى ميدان معركة البرادعي، برغم أن مطالبه تتخطى هذا العالم العائد من غربة طويلة، ليخوض حرب استنقاذ الغد من بحيرة الركود القاتل. ومن هنا تحفظه على أسلوب المعارضة الناعمة في «الشروق» واندفاعه لنجدة «الدستور» وأهلها حين دهمها المغامرون باسم المعارضة في حين أنهم إنما يخدمون النظام الذي أعاد إليهم الاعتبار، بمنة منه لم يكونوا بحاجة إليها لو أنهم صدقوا قاعدتهم «التاريخية» التي شردت بعيداً عن أهداف التحرير والتقدم والعدالة طلباً لرضا النظام عله يتكرم على «معارضيه» ببضعة مقاعد في مجلسي الكلام.
كان علاء الأسواني قادراً على إعادة سرد حادثة كنت شاهداً عليها وكأنها فصل من رواية يهم بكتابتها: يرسم الشخصيات في إطارها الصحيح وبتفاصيلها الكاملة، يحدد المسرح بدقة مذهلة، يوظف المكان والزمان في ما يخدم التسلسل الطبيعي للحكاية، ثم يأخذ بيدك إلى الاستنساخ الذي خلص إليه.
وكان ظرفه العفوي يضفي جواً من المتعة على سرده التفصيلي الذي لا يغفل عن رسم ملامح «الأبطال» وملابسهم وردود فعلهم على ما يجري أمامهم، وتعبيراتهم العفوية عن مشاعرهم.
في كل لقاء كان يطل عبر عينيه ونبراته وسردياته «ابن البلد» الأصيل، الذي يؤمن بأن مصر ـ برغم محاولات تغييبها والإصرار على حبسها في قمقم مصالح الغير ـ والغير عدو مبين ـ هي في طريق العودة إلى ذاتها. كان يؤمن أن مصر أقوى من الذين يحاولون تقزيمها وشطب هويتها وإلغاء دورها «العربي» بالضرورة.
ولقد استذكرت نجيب محفوظ، ولكن بطبعة عربية، أعظم وعياً بالعالم وصراعاته، وأكثر معرفة بالدنيا العربية وموقع عدوها الإسرائيلي من محاولاتها ـ وبإصرار ـ التقدم نحو غدها.
كانت موهبة علاء الأسواني تتدفق، عبر حكاياته، متوهجة بثقافته ومعارفه. وكان واضحاً أنه حين ذهب لإكمال دراسته في أميركا لم يأخذه الانبهار بالعالم المتقدم إلى التيه عن هويته والتغرب عن أهله ومجتمعه وذاته. ثم إنه عرف، إضافة إلى أميركا، أوروبا، ونال جوائز أدبية ممتازة من بعض أهم مؤسساتها الثقافية (جائزة كفافيس للنبوغ الأدبي من الحكومة اليونانية. الجائزة الكبرى للرواية من مهرجان طولون في فرنسا 2006).
استذكرت اللقاءات المفتوحة مع نجيب محفوظ، في «الأهرام» كما في كازينو قصر النيل، أو في سهرات «الحرافيش» مساء كل خميس. كان «عمنا نجيب»، كما كان يسميه بهجت عثمان يسأل أكثر مما يجيب، وكان يصغي طويلاً ولا يتحدث إلا قليلاً. وكان قليل الاهتمام بما يجري خارج مصر. لا يعرف عن البلاد العربية إلا قليلاً جداً، وعبر السماع أساساً والقليل من القراءة، وكان له موقفه الثابت من النظام، لا سيما في عهد جمال عبد الناصر، لا فرق إن هو انتصر في بعض معاركه أو هزمه تكتل الأعداء عليه، وهم أعداء وطنه وطموحاته، ويريدون الخلاص من مصر ودورها العربي وقوة تأثيرها في آسيا وأفريقيا ودول عدم الانحياز، واستطراداً من نفوذها خارج حدودها، تمهيداً للانقضاض عليها داخل حدودها.
عبرت، وأنا أستمع إلى سرديات علاء الأسواني، صور لقاءات ممتعة مع الروائيين الممتازين جمال الغيطاني ويوسف القعيد، وبعض شعراء مصر ـ أيام زمان ـ وكتابها.
وبالتأكيد فإن رواياته هي الأوسع انتشاراً في الوطن العربي، و«شيكاغو» على سبيل المثال تجاوزت طبعاتها العشر، كما أن «عمارة يعقوبيان» تسابقها توزيعاً، في حين مجموعاته القصصية شكلت نوعاً من إعادة الاعتبار إلى هذا الفن البديع، وله في هذا المجال أربع مجموعات: «الذي اقترب ورأى» و«جمعية منتظري الزعيم» و«نيران صديقة» التي كلما قرأتها رغبت في قراءتها ثانية.
علاء الأسواني عنوان لجيل جديد، قد لا يكون أعظم موهبة من أسلافه، ولكنه أغزر ثقافة وأكثر معرفة بالدنيا والسياسات الكونية في طورها الجديد… ثم إنه عربي في مصريته، ولكنها عروبة مفتوحة على العصر وليست محاصرة أو محصورة في قوالب «السلف الصالح» وتقاليده في العمل التي ربما كانت تصلح لزمن آخر.
مــن أقــوال نســمة
قال لي «نسمة» الــذي لم تُعــرف له مهــنة إلا الحب:
ـ لا يبالغ حبيبي في عتابي. إنه يعرف أن القليل من العتاب طلب لمزيد من الحب، أما الكثير منه فهو مخبأ للشكوك.
أما أنا فلا أشك، لذا لا أعاتب. أحب، ثم أحب، ثم أحب.