إجازة امبراطورية في غابة ماركس.. والمال الأبيض!
عندما توقفت به السيارة التي أقلته من المطار أمام بوابة القصر الذي اختير له ليكون سكناً أخذته النشوة: لم يعد ينقصه من أسباب حكم الامبراطورية الا أن يكون على مستوى المسؤولية!
نفخ صدره وهو يتقدم زوجته داخلاً من البوابة المهيبة، فأحس بضآلة حجمه في فراغها العالي. عزّى نفسه متمتماً: أنا، في أي حال، أطول من نابليون!
استذكر هتلر وهيلا سلاسي، ولكنه استبعدهما فوراً، فهو على حدود ألمانيا، ثم ان «الحبشة» تقيم معه في منزله وقد تحاسبه على كلماته إذا صادفت من يترجمها لها!
تفقد جناحه.. وحين أطل من النافذة على الحدائق المحيطة بالقصر وعلى غابات السنط والصنوبر والشربين وما يشابه الميس ارتفاعاً هز رأسه بوقار من لا تغيب عن أملاكه الشمس. صار بوسعك ان «تشتري» عز الامبراطور بثلاثين من الفضة!
مع الصباح قصد مع زوجته الطبيب المشرف، حسب التعليمات، ففوجئ بطوابير الرعايا والوافدين مرضى تزاحمه وقد تسبقه. كانوا أشتاتا من القادمين من بلاد فاضت أرضها بالخير فالتزمت أجيالها الجديدة ان تعوض نقص التغذية الذي أودى بالاجداد، فإذا بأفرادها ينتفخون بالتخمة حتى ليعجز شبابهم والصبايا عن السير الا متوكئين على عصي أو على بعضهم البعض.
في اليوم الثاني قرر أن يتفقد أرجاء القصر. ارتدى الخفيف من الثياب وحذاء من هواء وسار تتقدمه زوجته التي لا تتعب من إعادة اكتشاف المكتشف والمقارنة مع ما كان للأجداد من أطيان وأسباب عز تليد.
كان ثمة درج خلفي ينزل من التلة إلى الطريق المعبد الذي اشتم فيه روائح مخلفات الخيول الامبراطورية وكاد يقرأ في البلاط أسماءها المهيبة… وقبل ان يقصد اليه اكتشف منحدراً ترابيا ضيقاً، مظللا بأشجار سامقة، وقدر انه يقصر المسافة فقصده راكضا وهو يستظل الأشجار ـ الغابة التي تقوم كحرس امبراطوري… ثم انحرف مع التواء المنحدر فإذا به يطير، أي نعم يطير! ثم يهوي من شاهق على الاسفلت المدجج بالحصى، ربما لكي يسمع الامبراطور وقع حوافر خيله وهي عائدة من ساحة المعركة بالنصر!
صرخت زوجته مسقطة الكثير من هيبة القصر الذي لا يعرف غير الهمس لغة، قبل أن تركض اليه يتقدمها خوفها، ولكنها فوجئت به يقف منتصباً على قدميه، ماطاً قامته بكبريائه، متلفتاً حوله ليطمئن إلى ان أحداً لم يره في سقطته المخجلة، قبل ان يتفقد جسده ليتأكد ان الوضع قيد السيطرة بعد. في كفيه وساقيه انغرست مجموعات من الحصى التي لا يرى منها إلا وجعها، محدثة ثقوبا صغيرة تنز دماً أحمر، بينما امتلأت راحتا يديه وركبتاه بحبيبات سوداء، وتهاوى جلد الكوع من يمناه ليكشف جرحاً نازفاً.
نفض الغبار، ومشى منتحياً يمين الطريق: لعل الموكب الامبراطوري سيعبر الآن… فليسارع بالاختفاء! وهكذا أصر على إكمال النزهة رافضا العودة إلى الطبيب والممرضات وكلهم على بعد أمتار قليلة.
مع الليل عاد إلى القصر ونصفه مغطى بالشاش الأبيض، فبدا أقرب إلى صور الجرحى المستعادين من ميادين المعارك المظفرة، ولكن وقاره لم يخدش، وان كان قد اضطر الى إطلاق أنين وجعه مسموعاً طوال ليلة الخجل تلك.
عندما استيقظ من نومه المتقطع اكتشف ان أوهامه قد تبخرت فتواضعت أحلامه إلى ما يقارب الواقع: هو نزيل فندق فخم، طوابقه السفلى لأنماط من التمارين والمعالجات الطبية الخفيفة لأمراض مزمنة أعظمها الشيخوخة، بعضها بالماء، وبعض آخر بالوحل، وثالث بالكهرباء، ورابع بجرعات من الأوكسجين، وخامس بالتدليك الممتع بحسب مستوى جمال الممرضة وميلها إلى المعابثة.
لكنه حين اتخذ مقعده صباحاً على الشرفة المطلة على البحر الاخضر بجزره الحمراء الوادعة عاد يتملكه الاحساس بأن كل هذا المشاع من الخضرة المبرقعة انما هو مدى لنظره… الامبراطوري!
[ [ [
هنا لا حاجة بك إلى الساعة. في الصباح تنزل بك زوجتك إلى «زنزانات» العلاج المتوهم. أما بعد الظهر فالوقت صحراء خضراء يزعجك صمتها، أنت المولود في ضوضاء الانقلابات والفتن والحروب الأهلية والمواصل حياتك بين فواصلها الدموية بين هدنة وأخرى.
أبناء البلدة الوادعة يواصلون حياتهم متناسين مراحل الانتقال من المملكة الى الارض المشطرة بين امبراطوريتين، فإلى دولة تافهة الهوية بين ماضيها والحاضر الذي ليس لها، قبل ان تجعلها الحرب العالمية الثانية جزءا من المعسكر الاشتراكي الذي سيصنع الغد الأفضل للإنسانية بقيادة الاتحاد السوفياتي العظيم. ثم جاء زمن الزلازل واختفت الشيوعية وكأنها كانت حلماً انتهى كابوساً، وانشقت القومية الثنائية دولتين صغيرتين تحاولان استعادة الهوية الأوروبية ولو من موقع الملتحق… بواشنطن! اليورو متين، لكن الدولار هو ذهب هذا العصر وكل عصر!
على ان الوفاء للتاريخ جعل أهالي البلدة التي دفعها الإمبراطور باسمه يحافظون على تمثال كارل ماركس، فأبقوه جالساً يفكر في بعض جوانبها: فلنعتبره حارساً للغابة! ثم ان الأسطورة تروي ان لهم في رحم أمه اليهودية بعض الصلة… كما انه جاذب لسياح من هواة التاريخ، فلماذا نتنكر له! لقد وجدنا له وظيفة في العالم الذي تنبأ بزواله!
ولمن لا يقتنع بكل هذه التبريرات فلنصحبه بزيارة الى الكنيسة الروسية البالغة الفخامة وقد استعادت اعتبارها ونفضت عنها الغبار لتغدو محطة للسياح وهم في طريقهم الى تفقد النصب التذكاري لشهداء «المحرقة»، الذين لم يكن لهم ذكر قبل الحرب الباردة وحتى خلالها، وها هي نجمة داوود المذهبة تلمع متوهجة في قلب السوق التجاري حيث يمكن بيع «الشهادة» أيضاً، لمن يرغب في شرائها!
[ [ [
ابناء البلدة الوادعة أدمنوا التعامل مع السياح الآتين باسم العلاج. صارت لهم تقاليدهم. انهم يعرفون القادم من ملامحه… «العربي»، يحمل هويته في وجهه وتنتفخ جيوبه بما يؤكدها. أما الشريك السابق من ابناء الجمهوريات السوفياتية، وبالتحديد ذلك النفر المتحدر من سليلة «الأخ الأكبر» فلا يأتي سائحاً بل مستثمراً، ولا يحمل نقداً أخضر أو ذهبا أصفر ولكنه يملك الأكثر من الأكثر: فتجار الأموال الهاربون بثروات لم يتعبوا في جنيها بل جاءتهم بها عصابات النهب المنظم للدولة التي كانت «تهيمن» على نصف الكرة الأرضية، وجدوا ضالتهم هنا في العقارات، وهكذا اندفعوا يشترون كل شيء، القصور، البيوت المسورة بالحدائق، الأراضي الزراعية، المحال التجارية… عادوا «الأخ الأكبر» ولكن بصيغة جديدة. ألم تقل الحكمة العتيقة: ان الأصل يستولد نقيضه؟!
لم يتبق من آثار «العهد البائد» إلا ذلك الفندق الذي بني خلافاً للطراز المعتمد: ارتفع شاهقا بطوابقه العشرين في قلب الغابة، يلفه النهر من جوانبه، وفيه كل ما يرغب فيه السائح لإثبات نجاح العلاج: كازينو قمار في الأسفل، تحيطه العيادات ومواقع التمارين، ويعلوه حوض سباحة شديد الاتساع، أما الغرف فما أسرع ما يمكن تحويلها الى شقق مفروشة بأصناف اللذة جميعاً.
[ [ [
قبيل سفره اتخذ قراره الحاسم وأعلنه عهداً: هو ذاهب في إجازة… إذاً فليترك كل شيء خلفه للنسيان، ولو مؤقتاً، وليستمتع بأيام قليلة من الهدوء الذي يحتاجه لمراجعة متأنية لطوفان الأحداث التي تكاد تغير هوية أمتها بأرضها وبشرها. اذاً فليخرس وسائل الاتصال جميعاً، وليمتنع عن قراءة الصحف والمجلات وحتى الكتب السياسية. معه من الروايات والقصص ودواوين الشعر ما يكفي ويزيد. لقد جاء ليتذكر نفسه.
مع الصباح الأول، دفعه الفضول الى البحث عن محطات فضائية عربية… فانتهت الإجازة قبل ان تبدأ!
جال بالمؤشر بين المحطات المختلفة فاستوقفته المقارنة بين ما تقدمه من برامج متنوعة. امام ظاهرة الاختلاف في «النوع» قبل الحديث عن المضمون:
فأما الفضائيات العربية فمساحة الهواء تحتلها «دولها» بملوكها والرؤساء، والوزراء، في حين يغيب «المجتمع» او «الشعب» الا كمجاميع من المنافقين أو عصابات شغب من أهل التطرف والعصاة الذين يهددون أمن العالم جميعاً… وبرغم ذلك تظل نشرات الأخبار (الرسمية) مؤهلة لان تشي بما خفي أو يراد إخفاؤه من مصادر القلق والاضطراب، لا سيما في مواجهة المطالب الشعبية وهموم الرعايا والمشكلات اليومية، وان ظل سهلاً استنتاجها بالتقدير أو التخمين أو بقراءة وجوه المسؤولين وهم يطمئنون «الخارج» الى ثبات الأمن الاجتماعي والاستقرار… وقرب الوصول الى الازدهار المنشود!
…وأما المحطات الاجنبية فبالكاد يظهر على شاشاتها القادة والمسؤولون، وفي لحظات خاطفة وبجمل تلخص الموقف، في حين يحتل «المجتمع» بشبابه ومظاهر تقدمه وحيوية أجياله الجديدة وعطاءاتها الثقافية والفنية والمبتكرة معظم ساعات البث، وأغلبها مباشرة.
يا للهول… لقد ضاعت الإجازة أو تكاد! فلنطفئ التلفزيون والعقل والضوء، ولنحاول النوم داخل الكوابيس التي ذهبت بفخامة القصر وسائر المظاهر الإمبراطورية التي كان يحاول أن يهرب بالوهم إليها!
كاشــفة النوايــا
جاءت كعادتها كل ليلة لتجالس رفاق المصادفة من أهل بلادها العابرين أو القادمين، مثلها، لفترة نقاهة تحت عنوان العلاج.
سألها أوثقهم علاقة بها: أين ورقك العجيب كاشف المستقبل والمقادير؟!
وقبل ان تنطق بكلمة أضاف قائلاً: أم ان ألعابك قد انكشفت فتخليت عنها، بحجة انك لا تكشفين السر إلا لصاحبه؟!
ابتسمت وردت عليه بهدوء: أنت أكثر من يعرف ان ورقي لا ينطق عن الهوى. لقد كشفك!
بعد إلحاح من «الجمــهور» قامت لتأتي بورقها واثقــة مـن ان «صاحبــها» سيوغل في «استغابتها».
عادت بالورق الملون، وعلى كل ورقة لوحة بأشكال طريفة، فيها ملوك وخيول وعاشقات، ورماح وسيوف ورموز لا يعرف فك طلاسمها غيرها.
سألت عما يفكر فيه، فعبر عما يرغب فيه…
وسقط البخت صريع العجلة!
مــن أقــوال نســمة
قال لي «نســمة» الذي لم تعــرف له مهنة إلا الحب:
ـ الحلم رقيق الى حد الهشاشة، ان حاولت الإمساك به انكسر فانكسرت.
أما حياتك فصلبة إذا أخذتها بيديك قاربت الحلم، وحبيبك هو من يجعله جنة عمرك.